إزاء تزايد المشاكل التي عانى منها عشرات الملايين من العراقيين، وعجز الحكومة عن القيام بواجباتها، فإن الصوت “الخجول” المطالب بالتقسيم أو “الفدرلة” بدأ يرفع وتيرة الحديث عن هذا الأمر.
لم تتوقف هواجس التقسيم في العراق منذ أن وطئت أقدام المحتل الأميركي أرضه عام 2003 حتى اليوم، وهي تخفت تارة ثم تعود للتداول تارة أخرى، وفق ظروف التصعيد السياسي السلبي بين مكونات العملية السياسية المتراجعة، أو خلال وبعد الانهيارات الأمنية التي ما انفكت تلاحق العاصمة بغداد ومحافظات العراق التي وسمت “بالسنيّة”.
“الأحداث التي وقعت في العراق قبل ومع نهاية فترة ولاية نوري المالكي دفعت بشكل مبرمج ردود أفعال الناس هناك إلى القبول بالانفكاك عن سلطة الكل إلى سلطة الإقليم”
وإزاء تزايد المشاكل التي عانى منها عشرات الملايين من العراقيين، وعجز الحكومة عن القيام بواجباتها في توفير الخدمات والأمن للعاصمة والمحافظات، وفي ظل التشرذم الطائفي والسياسي الذي يشهده العراق، فإن الصوت “الخجول” المطالب بالتقسيم أو “الفدرلة” بدأ برفع وتيرة الحديث عن هذا الأمر، مستندا إلى المادة (119) من الدستور العراقي الذي صيغ في غضون ثلاثة أشهر بأمر من الحاكم المدني الأميركي بول بريمر في عام 2004، والتي نصت على أنه “يحق لكل محافظة أو أكثر تكوين إقليم بناء على طلب بالاستفتاء عليه يقدم بإحدى طريقتين: أولا طلب من ثلث الأعضاء في كل مجلس من مجالس المحافظات التي تروم تكوين الإقليم. ثانيا طلب من عُشْر الناخبين في كل محافظة من المحافظات التي تروم تكوين الإقليم”.
لقد تفاجأت حقا عندما كتبت في صفحتي على إحدى وسائل التواصل الاجتماعي داعيا العراقيين إلى وحدة الصف ونبذ التقسيم، وألا يستجيبوا لمخططات تجعله أمرا واقعا لا بد منه، المفاجأة كانت من خلال سيل الإجابات والتعليقات التي وردت بشكل مباشر وسريع، فأكثر من 90% من المتفاعلين رأوا أن دعوتي لنبذ التقسيم ضرب من خيال، وأن هذا الموضوع بات أمرا طبيعيا وضروريا للحفاظ على كيان المحافظات العربية (شمال بغداد) وهي التي توصف غالبا “بالسنيّة”، وأن الفيدرالية هي السلاح الوحيد لكف أيدي أجهزة الحكومة الطائفية والمليشيات الإيرانية وعقدة “يزيد والحسين” عنهم، ومن ثم حفظ أرواحهم وأعراضهم وممتلكاتهم، وكذلك تطوير محافظاتهم من خلال الحصص المالية التي سيحصلون عليها من الخزينة المركزية والواردات الأخرى، كما هو شأن إقليم كردستان العراق، بالإضافة إلى منح كل طائفة حرية سنّ قوانينها النافذة لديها والتمتع بمواردها وعدم تشتّتها.
وفي واقع الحال، فإن حديث الأقاليم لم يعد مرتبطا بالمصلحة الذاتية للشخصيات التي تطالب بها والمصلحة المادية التي ستعود عليهم وعلى الإقليم المزمع إنشاؤه، كصالح المطلك وأسامة وأثيل النجيفي أو قيادات الحزب الإسلامي العراقي وغيرهم، بل هي سوّقت كأمر واقع ممنهج من خلال وضع سكان المحافظات المنكوبة في زوايا تفضي إلى الذهاب إلى هذا الخيار كأمر واقع لا ثاني له.
“حديث الأقاليم لم يعد مرتبطا بالمصلحة الذاتية للشخصيات التي تطالب بها والمصلحة المادية التي ستعود عليهم وعلى الإقليم المزمع إنشاؤه، بل هي سوّقت له كأمر واقع ممنهج لا ثاني له”
ولعل مآسي ما حدث للنازحين على طرفي جسري بزيبز والرزازة وغيرهما لا يمكن أن تمحى من ذاكرة هؤلاء الناس، كما أن من سيسمح لهم بالعودة إلى مناطقهم ومشاهدة حجم الدمار الذي أصاب ديارهم سوف يدفع إلى مزيد من التخندق تجاه المكون الثاني الذي تسبب في كل هذه النتائج الكارثية على مدن بكاملها بحسب المعطيات على الأرض التي تم التعامل بها معهم من خلالها.
السؤال الذي يجب أن يطرح الآن مع عودة حديث العراقيين عن موضوع الأقاليم؛ هل عاد مشروع بايدن (الخطة باء)، الذي قدمه للكونجرس عام 2006، ليقفز إلى الواجهة كخيار أميركي يضمن السيطرة على العراق بشكل أدق من خلال كسب ولاءات قيادات أقاليمه (الكردية والشيعية والسنيّة)؟ وما موقف الشارع العراقي غير المبرمج سياسيا أو طائفيا من هذا الأمر؟
ربما يكون الجواب -وبحسب تحركات واشنطن الخفية والمعلنة- أن خيار “الخطة باء” قريب التحقق، ولكنه ليس بالصيغة التي قدمها بايدن أول الأمر؛ وذلك لحجم المتغيرات التي حصلت على الأرض، خاصة بعد عمليات التهجير التي حصلت في المناطق السنّية وسيطرة القوات الكردية على مناطق عديدة في محافظات ديالى وكركوك ونينوى، وكذلك سيطرة مليشيات “الحشد الشعبي” في كربلاء على منطقة النخيب العائدة لمحافظة الأنبار ومراكز محافظات ومدن كتكريت وبيجي والعلم وسامراء وغيرها.
ثم التغييرات الكبيرة التي حاولت قوى مؤتمرة بإمرة إيران تثبيتها على الأرض قبل الشروع بخيار التقسيم، وأهمها قوة الاحتقان الطائفي ليكون سببا دائما لعدم استقرار هذه الأقاليم وتعاونها، بينما ترى واشنطن أن تكون الخريطة الأخيرة للأقاليم تضمن امتلاك كل إقليم موارد تمنحه قوة الحضور وآليات التعاون المشترك مع بقية الأقاليم، وهذه الموارد تم حصرها بالنفط والغاز والمياه.
“هناك طبقة لا يستهان بها من مثقفي العراق وقواه الوطنية المشتركة ترفض أي حديث عن تقسيم العراق، وهي تذهب إلى أن ما يجري في العراق الآن هو صراع سياسي وتنفيذ لأجندات خارجية “
نعم، إن ما حدث خلال عام 2015 تحديدا من احتقان طائفي، وترسّخ القناعات الشعبية بعجز الحكومات المتعاقبة في بغداد عن تحقيق خروج آمن للعراقيين عبر مصالحة وطنية حقيقية بدل الصراعات السياسية المزمنة، واجتثاث الفساد وإهمال حقوق الوطن والمواطنين؛ دفع باتجاه سياسة القبول بالأمر الواقع شعبيا في المحافظات السنيّة، وإن اختلفت رؤى كل طرف بأسباب القبول بهذا الخيار.
كما بذلت قيادات كثيرة سياسية وعشائرية عراقية (سنيّة) جهودا كبيرة لإقناع إدارة الرئيس الأميركي أوباما بأن المشاكل التي تعصف الآن بالعراق لا يمكن حلها وتجاوزها من دون عزل طائفي يكون فيه لكل من السنة والشيعة والأكراد وضع سياسي وجغرافي ومعنوي في ثلاثة أقاليم مستقلة، تجعل هذه الطوائف أكثر انسجاما مع عراق فدرالي، يوسّع دائرة الخيارات لكل طائفة؛ وهو تحديدا ما يتوافق مع مشروع بايدن 2006.
تبقى هناك طبقة لا يستهان بها من مثقفي العراق وقواه الوطنية -ومنها هيئة علماء المسلمين- والأهم طبقة الشباب العراقي، ترفض أي حديث عن تقسيم العراق، وهي تذهب إلى أن ما يجري في العراق الآن هو صراع سياسي وتنفيذ لأجندات خارجية وأن تقسيم العراق هو بدواعي تدميره وإضعافه كونه يمثل بوابة الوطن العربي الشرقية تجاه المشروع الإيراني، ولأنه أيضا كان عدوا حقيقيا فاعلا لإسرائيل وصاحب مشروع قومي كبير.
فارس خطاب
الجزيرة نت