تحرير عاصمة محافظة الأنبار العراقية، مدينة الرمادي، على يد تحالف مكون من الجيش وما سمي «جهاز مكافحة الإرهاب» وعشائر الأنبار، يفتح الباب أمام نقاش معمق، ليس فقط حول العملية التي وصفت بأنها الخطوة الأولى باتجاه تحرير عاصمة «الخلافة» الداعشية في الموصل، انما أيضاً وقبل ذلك في شأن الحالة العراقية الشاذة التي أدت أولاً الى ولادة هذا التنظيم الارهابي ثم الى احتلاله أجزاء واسعة من العراق وسورية بلغت نحو ثلث مساحة البلدين. وأن يتم ذلك بمعزل عما وصف بـ «الحشد الشعبي» الشيعي، وبدعم جوي واستخباراتي أميركي، ففي الأمر ما يتعدى هذا النقاش الى ما يمكن أن يكون بداية (وربما الآن نهاية) التواطؤ الأميركي/الإيراني الذي حكم العراق منذ 2006 تحت اسم رئيس الوزراء السابق نوري المالكي.
فلم يعد خافياً، لا في واشنطن ولا في بغداد ولا حتى في طهران نفسها، أن المالكي وضع العراق منذ ترتيب «انقلابه» الإيراني (بالتواطؤ مع الولايات المتحدة) على رئيس الوزراء الفعلي بنتيجة الانتخابات في 2010، اياد علاوي، تحت وصاية كاملة لـ «الولي الفقيه» الإيراني السيد علي خامنئي، ليس سياسياً واستراتيجياً فقط وانما أيديولوجياً وطائفياً ومذهبياً كذلك. وكانت خطبته الشهيرة التي قال فيها «ان معركة كربلاء لا تزال مستمرة ولم تنتهِ بعد» ايقونة السياسات التي اعتمدتها حكوماته (حتى قبل انتخابات 2010) على مساحة العراق من جهة، وفي المنطقة والعالم كله من جهة ثانية.
وعملياً، شكل انسحاب القوات الأميركية من المدن العراقية في حزيران (يونيو) 2009، ثم من العراق كله نهاية 2011، بعد أن نجحت قيادتها في تنظيم وتمويل ما عرف بـ «الصحوات» التي وقفت بقوة في وجه «القاعدة» وما سمي يومها «الدولة الإسلامية في العراق»، فرصة المالكي الذهبية لنقل البلد من «عملية سياسية» كان يفترض أن تعيد بناء العراق على أسس تأخذ في الاعتبار تعدديته الإثنية والطائفية والمذهبية الى مجرد نيزك صغير في المجرة الإيرانية الموهومة. وقد فعل المالكي ذلك بعلنية لم يخطئها أحد، كما بوقاحة سياسية غير مسبوقة، ما وفّر الأرضية، ليس لولادة «داعش» واستقطابها آلاف المقاتلين من الخارج والداخل فقط، انما قبل ذلك لتمرد الأنبار بعشائرها وأهلها كلهم على حكومة بغداد، وصولاً الى إعلان المحافظة منطقة خارجة على النظام ما لم يعد المالكي النظر في موقفه منها… وتالياً من المكون السني كله في أرض الرافدين. وماذا كانت النتيجة؟ حملة عسكرية شاملة، أمر المالكي جيشه وقواته الأمنية بشنها على محافظة الأنبار!
لكن ما تلى هذه الحملة عملياً كان نسخة أخرى، وغير منقحة حتى في تفاصيلها، عما قام به زميل المالكي في جيش «ولاية الفقيه»، رئيس النظام السوري بشار الأسد، بإطلاق يد إرهابيين ومجموعات متطرفة في عموم أنحاء البلاد، تطبيقاً للنظرية التي اعتمدها منذ البداية تحت عنوان ان ما تتعرض له سورية ليس سوى «حرب كونية»، ومجرد أعمال إرهابية تقف وراءها دول خارجية.
وفي الواقع، لا تفسير منطقياً لتمدد «داعش» في العديد من مناطق ومدن العراق، ثم لانسحاب الجيش من الموصل وباقي محافظة نينوى وتسليمها لمقاتلي هذا التنظيم من دون إطلاق رصاصة واحدة، إلا للقول ان الحرب ضد حكم المالكي حرب إرهابية ودولية لا غير. بل أكثر، ازداد هذا التفسير صلابة عندما تبين في وقت لاحق أن كميات ونوعيات الأسلحة التي تركها الجيش العراقي وراءه في الموصل، كانت كافية لتسليح أفراد التنظيم لفترة طويلة، وحتى أنها كانت عدة معاركه التي احتل بها لاحقاً ثلث الأراضي العراقية والسورية. حدث هذا في باقي محافظة نينوى ثم في الفلوجة، وبعدها في الأنبار وعاصمتها الرمادي، تماماً كما حدث في تدمر والرقة السوريتين على الجانب الآخر من جبهة «داعش».
ولا يحتاج المرء الى كثير ذكاء، ليدرك أنه لكي تكتمل حلقات الخدعة، لجأ المالكي الى تعظيم شأن «داعش» (السني) من ناحية وانشاء «الحشد الشعبي» (الشيعي) في مواجهته من ناحية ثانية، ما أدى الى ما يعرفه العراقيون كلهم من عمليات انتقام نفذها الطرفان حيث تبادلا المواقع… وإن على حساب المواطن الذي لا ناقة له ولا جمل في الحالين.
هذا على الصعيد السياسي الوطني، أما على الصعيد الداخلي فلم يعد خافياً أن المالكي اعتمد كل ما في القاموس من عبارات تتصل بـ «الفساد» و «الرشوة» و «سرقة المال العام» و «شراء الذمم»، لكي يجعل من العراق أرضاً وثروات سائبة في عيون كل من يريد، أو يستطيع، ممارسة السطو. ولعل الفضيحة التي كشفت بعد استقالة المالكي (اشتقاقاً من استُقيل وليس استقال) تعطي لمحة عما بلغته الحال في أثناء حكوماته الإيرانية/الأميركية بين 2004 و2014. فقد تبين أن عشرات الآلاف من الأسماء الوهمية (تردد أنها 50 ألفاً) كانت مدرجة في جداول رواتب وتعويضات الجيش، وأن جهات محسوبة على المالكي وأتباعه كانت تقبض هذه الرواتب على مدى أعوام. ولم تكن أدنى منها دلالة، «جيوش» الحراسات الخاصة (بالمئات، لكل شخص) مع معداتها وأسلحتها وسياراتها ومرتباتها، ولا بعد ذلك مرور اثني عشر عاماً على «الوضع الجديد» في العراق من دون توفير الحد الأدنى من الكهرباء أو مياه الشرب النظيفة أو فرصة العمل للمواطن.
هذا الحكم في العراق، الإيراني بامتياز وان مع تواطؤ أميركي، هل كان يمكن أن ينتج غير ما أنتجه في الفترة الماضية: حرب أهلية من جهة، وافلاس سياسي وأمني واقتصادي من جهة ثانية، واحتلال «داعش» لأجزاء واسعة من الأرض وثروة النفط من جهة ثالثة؟ وبمقارنة قد لا تخلو من السذاجة: هل يمكن تحرير أية مدينة سورية من احتلال «داعش» ما دام بشار الأسد هو الحاكم؟
محمد مشموشي
صحيفة الحياة اللندنية