سعي العراق إلى اعتماد نهج دقيق في التعامل مع الصراعات والأزمات الإقليمية خلال السنوات الماضية، عبر مبادرات الوساطة بين بعض الأطراف، وقد حقق نجاحا واضحا خاصة في التهدئة السعودية – الإيرانية، واليوم يعاود العراق المحاولة بالتوسط بين سوريا وتركيا.
أبوظبي – تم الإعلان عن جهود بغداد لمحاولة إنهاء القطيعة السياسية بين الجانبين السوري والتركي من خلال الحوار الذي أجراه رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني مع قناة “خبر ترك” التركية في مطلع شهر يونيو 2024، إذ أكد أن بغداد “ترعى أجواء إيجابية بين البلدين”. وفي الثلاثين من يونيو الماضي، كشفت صحيفة “الوطن” السورية القريبة من دوائر صُنع القرار في دمشق، أن اجتماعا سوريا – تركيا مرتقبا ستشهده بغداد، وأنه سيكون خطوة في عملية تفاوض طويلة قد تفضي إلى تفاهمات سياسية وميدانية.
ومن جانبه، قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يوم السابع من يوليو الجاري إنه قد يدعو الرئيس السوري بشار الأسد لزيارة تركيا “في أي وقت”. وجاء ذلك بعد أيام على تصريح أردوغان يوم الثامن والعشرين من يونيو الماضي، بأنه لا يوجد أي سبب يمنع إقامة علاقات بين أنقرة ودمشق، وذلك في رد إيجابي على تصريحات للأسد حول الانفتاح على جميع المبادرات لعودة العلاقات مع تركيا.
ويرى الباحث المصري حسين معلوم في تقرير نشره مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة أن محاولة بغداد لإنجاز الوساطة بين دمشق وأنقرة، تُثير العديد من التساؤلات حول الدوافع العراقية من وراء ذلك، خاصة أن هناك تحديات كثيرة تواجه هذه الوساطة، بالنظر إلى تعقيدات الأوضاع التي تبدو عليها التوترات الحدودية بين الجانبين السوري والتركي.
عوامل متشابكة
تستند محاولة العراق للوساطة بين الجارين، سوريا وتركيا، بهدف استعادة العلاقات بينهما، إلى عدد من العوامل، أهمها:
1 – تعزيز مكانة العراق كوسيط إقليمي: تدرك حكومة السوداني أهمية النجاح في تحقيق هذه الوساطة، باعتبارها مسعى إقليميا يسهم في تخفيف الضغوط الداخلية من جانب بعض القيادات الشيعية المنضوية ضمن “الإطار التنسيقي”. وهي الضغوط التي قد يتعرض لها السوداني تحديدا، نتيجة استهداف تلك القيادات منافسته على منصب رئيس الوزراء في المرحلة المقبلة.
أضف إلى ذلك، توجه العراق إلى تعزيز مكانته كوسيط إقليمي، في ظل ما يتمتع به من ميزة العلاقات التاريخية مع كل من سوريا وتركيا، وفي إطار أنه جار لكل منهما، فضلا عن أنه ليس معزولا عن الآثار السلبية للأزمة السورية، مما يتيح له موقعا متميزا في الوساطة.
2 – الحسابات السياسية لحكومة السوداني: يأتي عرض رئيس الوزراء العراقي للوساطة الإقليمية مدفوعا ليس فقط بالرد على مبادرات أنقرة الأخيرة، بعد زيارة الرئيس التركي أردوغان إلى بغداد في الثاني والعشرين من أبريل الماضي، ولكن أيضا كجزء من إستراتيجية معالجة التحديات الأمنية على طول الحدود العراقية مع الجانبين السوري والتركي، والمتعلقة بمكافحة الإرهاب وتعزيز بيئة مواتية للتعاون الاقتصادي.
ومن ثم، تتبدى أهمية إعلان السوداني عن جهود الوساطة العراقية عبر قناة تركية، من منظور أنها تُعبر عن “رسالة غير مباشرة” إلى الداخل التركي عموما، وأحزاب المعارضة بوجه خاص، خاصة أن هذه الأحزاب، التي اكتسبت زخما سياسيا بعد نتائجها الجيدة في الانتخابات المحلية الأخيرة، أكدت رغبتها في التطبيع مع دمشق، بل وأعلن رئيس حزب “الشعب الجمهوري” أوزغور أوزيل في الخامس من يوليو الجاري أنه سيزور دمشق خلال الشهر الجاري من أجل اللقاء مع الرئيس الأسد. وهذا يعني محاولة السوداني اكتساب رأي عام تركي يُسهم في إنجاح الوساطة العراقية، وفي تحسين العلاقات التجارية والاقتصادية مع أنقرة.
3 – استئناف تصدير النفط عبر تركيا: مع زيادة العمليات العسكرية التركية في شمال العراق، ومواجهة حكومة بغداد أزمات مادية كبيرة، فضلا عن زيادة المطالب في الداخل العراقي برحيل القوات الأميركية، فقد أدى كل ذلك إلى مراجعة حكومة السوداني لموقفها من التعاون مع أنقرة، وتحديدا في مسألة استئناف تصدير النفط العراقي عبر الأراضي التركية. وكان هذا التصدير قد توقف منذ الخامس والعشرين من مارس 2023، بعد ساعات على إصدار هيئة التحكيم، التابعة لغرفة التجارة الدولية في باريس، قرارا بإلزام تركيا بدفع تعويضات للعراق قدرها 1.5 مليار دولار بشأن تصدير تركيا النفط من شمال العراق، دون موافقة الحكومة الاتحادية، خلال الفترة بين عامي 2014 و2018.
وهنا، يبدو أن أحد العوامل الرئيسة في مبادرة الوساطة العراقية، هو التقارب مع تركيا، بما يُحقق قدرا من المصلحة الاقتصادية لبغداد، إذ إن توقف صادرات النفط العراقية من كركوك وإقليم كردستان، عبر تركيا، وفقدان 450 ألف برميل يوميا من الصادرات منذ مارس 2023 قد أسهم في فقدان كل من بغداد وأربيل أكثر من خمسة مليارات دولار، ومن ثم، يصبح تسييل هذا النفط مسألة ملحة، بل ضرورية، لكبح العجز الهائل في الموازنة العراقية، الذي يصل إلى حوالي 48 مليار دولار.
4 – زيادة التبادل التجاري بين بغداد وأنقرة: إذ إن العجز الذي يُشير إليه تقرير صادر عن “المركز العالمي للدراسات التنموية”، ومقره العاصمة البريطانية لندن، ونُشر في الثلاثين من أغسطس الماضي، هو ما يضغط على حكومة السوداني بضرورة إنجاز صفقة عودة استئناف تصدير النفط، ربما أكثر من تركيا، ومن ثم، فمن مصلحة العراق، كما من مصلحة تركيا، إنجاز الاتفاق الخاص بإعادة استئناف تصدير النفط عبر تركيا، كخطوة في اتجاه تحسين حجم التبادل التجاري بينهما، ولاسيما أن العراق يعمل على إنجاز “طريق التنمية”، الذي يربط بين البصرة جنوب البلاد والحدود مع تركيا شمالا. وبحسب التقرير نفسه، فمن المتوقع أن يصل حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى نحو 20 مليار دولار خلال السنوات الخمس المقبلة، بعد أن كان 15 مليار دولار مع نهاية عام 2022.
5 – التوافق مع الدور الإيراني: إن دعم قوى “الإطار التنسيقي” للسوداني في مبادرة الوساطة، وانخراط رئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض في إطارها يُعبران عن الدعم الإيراني للوساطة العراقية، والاهتمام بها من منظور أن ما لم يتحقق لإيران عبر مسار “آستانة”، قد يتحقق عبر الوساطة العراقية. ففي مرحلة ما بعد رحيل كل من إبراهيم رئيسي وحسين أمير عبداللهيان، ومحاولة إيران إعادة ترتيب أوراقها الإقليمية، في سياق تداعيات الحرب الإسرائيلية على غزة، يبدو تصور طهران في تعزيز التنسيق المشترك بين أنقرة وبغداد ودمشق، ولكن مع عدم زيادة النفوذ التركي في العراق أو سوريا، اعتمادا على معالجة المخاوف الأمنية التركية عبر سلطتي بغداد ودمشق.
تحديات الوساطة
على الرغم من تلك العوامل الدافعة لإنجاز وساطة عراقية بين سوريا وتركيا، خاصة في ظل عدم رفض الطرفين لهذه الوساطة، فإن ثمة تحديات قد تواجه نجاحها، ومنها ما يلي:
1 – تراجع الثقة المتبادل بين سوريا وتركيا: يبدو هذا التحدي الأبرز الذي يقف في سبيل تحقيق الوساطة العراقية. فدمشق ما زالت تنتقد طبيعة الدور التركي في الأزمة السورية، وتحديدا في ما يتعلق بالدعم الذي تقدمه أنقرة لقوى المعارضة السورية، خاصة في إدلب. أما الجانب التركي فما زال تنتابه الشكوك والمخاوف إزاء النظام السوري، وهو ما عبّر عنه الرئيس أردوغان في أكثر من مناسبة.
يُضاف إلى ذلك، الاشتراطات المتبادلة بين الطرفين، إذ تشترط دمشق أن تبادر أنقرة إلى سحب قواتها من شمال سوريا، في حين تطرح تركيا مسألة ضبط الحدود مع سوريا قبل التفكير بسحب قواتها. ولعل ذلك ما يُصعب الوساطة العراقية، خاصة أن محاولة بغداد تأتي بعد فشل محاولات الوساطة الروسية، التي لم تستطع الوصول إلى نتائج ملموسة على طريق المصالحة بين الجانبين السوري والتركي.
2 – تباين رؤى تسوية الأزمة السورية: إضافة إلى مشكلة إدلب وإصرار الحكومة السورية على استعادتها بعد سحب الدعم التركي للتنظيمات المسلحة الموجودة بها، يبدو أحد أوجه الخلاف الرئيسية بين دمشق وأنقرة بخصوص كيفية تسوية الأزمة السورية، وهو ما تبدى بوضوح في الاختلاف بين المندوب التركي في الأمم المتحدة أحمد يلدز ونظيره السوري قصي الضحاك في نهاية يونيو الماضي بخصوص تسوية هذه الأزمة، إذ تدعم تركيا فكرة التسوية السياسية للأزمة السورية، وفق قرار مجلس الأمن رقم 2254، الذي ينص على “تشكيل حكومة انتقالية وتوحيد الحكومة والمعارضة وتحقيق المصالحة بينهما”، وهو ما أثار رفض ليس فقط الحكومة السورية، ولكن أيضا فصائل المعارضة التي تدعمها أنقرة ونظمت تظاهرات تنتقد الموقف التركي في المناطق التي تقع تحت سيطرتها.
3 – إشكاليات ترحيل اللاجئين السوريين: أصبحت قضية هؤلاء اللاجئين والمطالبة بترحيلهم، إحدى القضايا المهمة في الداخل التركي مؤخرا، وذلك في ظل اتهام أحزاب المعارضة التركية لحكومة أردوغان بالتهاون في إعادتهم، من منظور الاستفادة من تصويت من حصل منهم على الجنسية التركية لصالح حزب العدالة والتنمية الحاكم في أي استحقاق انتخابي.
ونظرا للعبء الاقتصادي والتغير الديموغرافي الناتج عن اللاجئين السوريين، فقد شهدت الأشهر الماضية تصاعدا في أعمال العنف المجتمعي داخل تركيا، والتي كانت نسبة كبيرة منها موجهة إلى هؤلاء اللاجئين تحديدا، إذ وصل عددهم إلى أكثر من ثلاثة ملايين شخص ممن يخضعون للحماية المؤقتة في تركيا، إضافة إلى حوالي مليوني سوري يحملون تصاريح إقامة.
ومن ثم، يمكن فهم محاولات النظام التركي في الانفتاح على نظيره السوري، كنوع من إيجاد حلول للإشكاليات الناتجة عن وجود أكثر من خمسة ملايين سوري على الأراضي التركية، عبر ترحيلهم إلى سوريا، وهو ما يمثل أحد التحديات أمام إنجاز مصالحة سورية – تركية.
4 – مصير الانتخابات الأميركية المقبلة: بالرغم من أن الرئيس أردوغان وحكومته حريصان على التعاطي بإيجابية مع الحكومة العراقية، على أمل أن يتحول الإعلان عن اتفاق التعاون بين بغداد وأنقرة في أبريل الماضي إلى اتفاق أمني واقتصادي محدد، فإن الموافقة التركية على عقد لقاءات مع الجانب السوري برعاية عراقية لن تصل إلى اتخاذ قرارات إستراتيجية. ويستند ذلك إلى تفضيل أنقرة عدم اتخاذ مثل هذه القرارات إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة، إذ إن حصول تغييرات في الإدارة الأميركية، واحتمال عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض مرة أخرى، قد يُعطي الدور التركي في العراق وسوريا دفعة قوية.
5 – التنافس الإقليمي على الساحة السورية: ربما يكون هذا هو أكثر التحديات التي قد تواجه الوساطة العراقية، إذ لا يمكن صرف النظر عن التنافس الروسي – الإيراني – الصيني داخل الساحة السورية، فموسكو وطهران تتمتعان بوجود عسكري وأمني، فضلا عن المصالح الاقتصادية المتعددة داخل هذا البلد، علاوة على الصين التي تركز نفوذها في سوريا على مشروعات البنية التحتية وإعادة الإعمار، إلى جانب منع مقاتلي “الإيغور”، الذين يقدر عددهم بنحو ستة آلاف عنصر، من العودة إليها.
ومثل هذا التنافس المتوازن سوف يتأثر، بل وسوف يصبح مهددا، بدخول قوة إقليمية مهمة مثل تركيا، خاصة أنها تمتلك نفوذا كبيرا في الشمال السوري. وفي حال تطبيع العلاقات بين أنقرة ودمشق، قد يتسع النفوذ التركي ليشمل معظم أرجاء الأراضي السورية، ومن ثم، على الرغم من المباركة الثلاثية، من روسيا وإيران والصين، للمبادرة العراقية بالوساطة بين تركيا وسوريا، فإن هذه المباركة تستهدف من حيث المضمون الحد من النفوذ التركي في سوريا وعدم تناميه.
ويمكن القول إن الوساطة العراقية لاستعادة العلاقات السورية – التركية، وإن كانت تعتمد على كفاءة بغداد في التوسط في النزاعات الإقليمية، وفي الوقت نفسه على عدد من العوامل الدافعة لإيجاد أرضية مشتركة بين أنقرة ودمشق، فإن تحقيق مثل هذه الأرضية، وإنجاز مثل تلك المصالحة برعاية عراقية، يُواجه بعدد من التحديات. فإضافة إلى الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية، والتنافس فيما بينها على الساحة السورية، فإن ثمة مصالح متباينة بين سوريا وتركيا يمكن أن تحد من نجاح الوساطة العراقية. فهذه المصالح ربما لا تتوافق إلا بخصوص تطبيق بعض المساومات، كـ”مسارات مستقبلية”، لحدودهما المشتركة، ولاسيما في جغرافية الشمال الغربي من سوريا.
العرب