الخرطوم – تركت الحرب في السودان تأثيراتها على الأوضاع القبلية الأكثر استقراراً في شرق السودان، وتسبب توتر جديد في بروز أصوات تعمل للدفاع عن الحقوق القبلية تطغى على الاصطفاف السياسي خلف مجلس السيادة السوداني الذي يتخذ من الشرق مقراً إداريا للحكومة الحالية، ما يشي بالدخول في نزاعات قبلية ذات بعد سياسي، وتنذر بتكرار صدامات مسلحة في أماكن أخرى.
وعادت وقائع إغلاق الطريق الرابط بين ولاية كسلا وبورتسودان أمام حركة السيارات والشاحنات، وزعم المجلس الأعلى لنظارات البجا أن الإغلاق يأتي احتجاجاً على إعلان النيابة أن مقرر المجلس عبد الله أوبشار “متهم هارب مطلوب ضبطه”، ونظم مسيرة للنيابة العامة بولاية البحر الأحمر، الخميس، احتجاجاً على القرار.
وكشفت مصادر في إقليم الشرق أن تحركات البجا جاءت بسبب تصاعد الخلاف بين الناظر محمد الأمين ترك رئيس المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة، والفريق شيبة ضرار قائد حركات تحالف شرق السودان (تحالف عسكري صغير يضم عددا من الحركات التي تؤمن بحق استخدام السلاح في الشرق)، وينحدر من قبيلة البجا في مدينة بورتسودان.
وقالت مصادر قبلية مطلعة بإقليم الشرق لـ”العرب” إن صعود قوى قبلية لديها رغبة في منح أولوية لما ترى أنه تهميش لأهالي الإقليم على حساب الاصطفاف بجانب الجيش دفع نحو تحريك الجمود السياسي في الإقليم، وأن الشخصيات القبلية الصاعدة تسعى لمنازعة ناظر العموديات المستقلة (الأمين ترك) على سلطته القوية داخل الإقليم، ما يعبّر عن وجود تغييرات في البنية القبلية داخل الإقليم.
وتعد قبائل الهدندوة التي يتولى نظارتها الأمين ترك من أكبر مكونات البجا وقبائل شرق السودان، وتتمدد في عدد من المحليات بولايتي كسلا والبحر الأحمر، لكنها شهدت إعلان عدد الأقطاب القبلية بها تأسيس عدد من النظارات، بينها نظارة الجميلاب والكرياتي التي يرعاها الشيخ سليمان بيتاي، وهو ما رفضه الناظر ترك متمسكا بوحدة القبيلة.
وحاول ترك امتصاص حرارة التنافس السياسي بإعلان انسحابه من رئاسة المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة، والاكتفاء بدوره كمدافع عن حقوق قبيلته “نظارة هدندوة”، قائلا في تصريحات أدلى بها أخيراً “من أراد أن يقود البجا الطريق أمامه مفتوح”، وتعهد بمواصلة دفاعه عن حقوق أهله لضمان “حمايتهم تمسكا وحفاظا على مبادئ أجداده والنُظار الذين تعاقبوا على حكم نظارة الهدندوه من قبله”.
ويشغل الناظر ترك موقع نائب رئيس قوى الحرية والتغيير – الكتلة الديمقراطية، التي تساند الجيش حاليا، ولعب دورا بارزاً في معارضة حكومة الفترة الانتقالية خلال رئاسة عبدالله حمدوك لها عبر إغلاق الطريق القومي والميناء لأشهر إلى حين وقوع الانقلاب على السلطة المدنية في أكتوبر من العام 2021.
وأوضح المحلل السياسي السوداني عادل سيد أحمد أن ترك يمثل نظام القبلية ذات الارتباط المباشر بالسلطة الحاكمة، وكان عضواً بارزاً في حزب المؤتمر الوطني المنحل، وتظهر انتماءاته السياسية في الكثير من مواقفه في إقليم الشرق، ووظف شعبيته في إغلاق الإقليم وساهم في الانقضاض على الثورة، ما جعله يدخل في الكثير من السجالات مع القوى المدنية.
وأضاف في تصريح لـ”العرب” أن غريمه شيبة ضرار يفكر بعقلية قبلية بحتة بعيداً عن الانتماء السياسي، والرجل مولع بالقبيلة وشعاراتها وقام بتشكيل قوة عسكرية بدعوى مواجهة التهميش، ما يخلق مساحة كبيرة من التباعد بينه وبين الناظر ترك صاحب الشعبية الأكبر في الشرق.
وأشار إلى أن الأوضاع السياسية المضطربة في السودان تلعب دوراً في توسيع الهوة بينهما، حيث أن ترك ينطلق من قناعات فكرية تتبع تنظيم الإخوان في السودان، ويرفع الثاني شعارات الذود عن مكانة إقليم الشرق داخل الدولة السودانية.
وذكر سيد أحمد لـ”العرب” أن الصراع أخذ أبعادا شبيهة بما حدث في الإقليم بعد الثورة عقب تنامي الصراعات القبلية بين الهدندوة والبني عامر، وهو نزاع قبلي له خلفية سياسية مع تموضع الأولى وراء المكون العسكري، واقتراب الثانية من القوى المدنية.
ويظهر شيبة ضرار أكثر تناغمًا من القوى المدنية، ويبدو أقرب إلى روح الثورة السودانية، رغم كونه يعمل على التقارب مع المؤسسة العسكرية، لكن لخدمة مطالب من يسمّيهم المهمشين وليس من أجل انتهازية يسعى إليها ترك.
◙ الأوضاع السياسية في السودان تلعب دورا في توسيع الهوة بين ترك الذي ينطلق من قناعات فكرية إخوانية بينما يرفع شيبة ضرار شعارات الذود عن مكانة إقليم الشرق
وشهد شرق السودان صراعات قبلية في الفترة الانتقالية، أبرزها ما جرى على خلفية مسار الشرق في اتفاقية جوبا وتعيين صالح عمار والياً لكسلا، وقبل اندلاع الحرب نجحت مبادرة وطنية في طيّ صفحة الخلاف الدامي بجمع ناظري الهدندوة والبني عامر بعد قطيعة، والتوقيع على وثيقة للسلام المجتمعي.
واصطف الناظر ترك بجانب الجيش بعد اندلاع الحرب مع قوت الدعم السريع، وتم اختياره رئيسا للمجلس الأعلى للمقاومة الشعبية، ورئيسا للجبهة الوطنية السودانية التي تم تأسيسها في سنكات، وتضم كيانات مساندة للجيش خلال الحرب الحالية.
وأوضح عادل سيد أحمد في حديثه لـ”العرب” أن الخلاف بين شيبة وترك ستكون له انعكاسات في المستقبل، لأن الواقع يشير إلى أن الأول يملك مساحة حركة أكبر داخل الإقليم ويرفض أن يتم وضعه في خانة سياسية واحدة مع ترك.
ولفت إلى أن ترك يحاول تطويع علاقاته مع الأجهزة الرسمية في السودان لدعمه في مواجهة خصومه الصاعدين بالإقليم، لكن ليس من المعروف ما هي حدود هذا الدعم، وفي المقابل يدعم المزاج الشعبي، الذي يتجه نحو البحث عن الحقوق التاريخية لأبناء الإقليم في ظل الظروف الصعبة التي يعانونها، فرص شيبة لتحقيق مكاسب سياسية.
وقد تكون خطوة الناظر ترك بالنأي عن العمل السياسي وفتحه المجال لقيادة قبائل البجا أشبه بمناورة سبق أن قام بمثلها من قبل، وحافظ على حضوره السياسي دون أن يعترف بأي قيادات أخرى حاولت التحدث باسم نظارات البجا.
ويشير الواقع إلى ترك هو الأكثر شعبية داخل الإقليم، بالتالي لا يريد أن يخسرها، ووجد في إعادة صياغة المشهد السياسي ضررا، بعد أن واجه انتقادات علنية ذهبت نحو التأكيد إلى أنه لا يمثل أبناء الإقليم في المحافل الدولية.
وتشكل الانتقادات هزة قوية للناظر ترك الذي له نفوذ واسع في إقليم الشرق وتخوم ولاية الجزيرة وتمتلك قبيلته أجزاء واسعة من الأراضي الزراعية ولها قيادات تاريخية، وما يجعل زعامته مستمرة أن منافسه (شيبة ضرار) لا يتسم بالجدية في الدفاع عن قضايا الشرق، وله صوت مرتفع يعمل لصالح قبيلة البجا التي ينحدر منها.
العرب