جاءت نتائج الانتخابات الرئاسية الإيرانية التي جرت في مرحلتها الثانية بتاريخ الخامس من تموز 2024 وانتهت بإعلان فوز مرشح التيار الإصلاحي مسعود بزشيكان وتفوقه على سعيد جليلي مرشح التيار المحافظ والذي يلقى دعمًا كبيرًا من القيادات العسكرية والأمنية في فيلق القدس والحرس الثوري وباقي المؤسسات التشريعية التنفيذية، بالعديد من المعطيات الميدانية والأفاق السياسية والاختيارات الشعبية والتي سعى فيها المواطنين الإيرانيين بقول كلمتهم في الاقتراع والذهاب إلى مراكز الانتخاب وإعطاء أصواتهم للرئيس الجديد بزشكيان، وهذا ما يحصل منذ عقد من الزمن مر علي إيران التي كانت الانتخابات الرئاسية من حصة المحافظين والذين يحظون بتأييد ودعم من المرشد الأعلى علي خامنئي.
اتسمت هذه الانتخابات بخاصية مهمة وهي أن الاقليات الإيرانية لعبت دورًا حاسمًا في تحديد مسارات الحياة السياسة القادمة في إيران عبر قيام مناطق ومحافظات ( أذربيجان وكرمنشاه وبلوشستان والأحواز) بمنح أصواتهم وتأييدهم للرئيس مسعود بزشيكان، وهذا ما يعني أن القوميات غير الفارسية كان لها حضورها ودورها في دعم مرشح التيار الإصلاحي وتكاتفهم من أجل أحداث ولو قليلًا من التغيير أملاً في إصلاحات قادمة وإجراءات رادعة لمعالجة الأزمات الاجتماعية والاقتصادية التي يمر بها المجتمع الإيراني وإيجاد محاولات جادة لتغيير نمط التعامل الحكومي مع قضايا الشعوب الإيرانية، وهذا ما تحقق في فارق نسبة الأصوات الذي كان في صالح الرئيس بزشكيان بواقع (2،800) مليون صوت، ويمكن ملاحظة أن التكوين القومي قد أعطى انطباعًا واضحًا في توجه الإيرانيين من أصول تركية في مناطق ومحافظات ( أذربيجان وأردبيل وفارس وخراسان) إلى التعاطف مع مسعود بزشكيان الذي ينتمي إليهم وعلى هذا الأساس يمكن اعتبار أن المتحقق في نتائج الانتخابات كان ذا صبغة قومية وليست حالة كاملة في التأييد للتيار الإصلاحي، ومن المعلوم ان نسبة سكان إيران من الأصول التركية يبلغ ثلثي عدد سكان البلاد.
أرادت القيادة الإيرانية ممثلة بالمرشد علي خامنئي أن تسير الانتخابات وفق سياسية النظام القائمة على حضور نسبة كبيرة من المواطنين لمراكز الاقتراع ومنح شرعية سياسية قانونية لبقاء النظام الذي يعمل على البقاء ومحاولة مواجهة الاحتجاجات الشعبية والمطاليب الجماهيرية والخروج من الأزمات الإقتصادية بزيادة نسبة التضخم الاقتصادي وانخفاض كبير العملة الإيرانية وتصاعد في منظومة الفساد داخل اروقة المؤسسات الحكومية وتزايد حدة الصراعات في الهيكلية السياسية الحاكمة، وفق هذا المنظور اتسعت حظوظ التيار الإصلاحي رغم أن الجماهير الإيرانية أرادت ان تعبر عن سخطها من الحكومة وسياستها وتوجهات القيادات الأمنية والعسكرية في الحرس الثوري في التمدد والنفوذ وتنفيذ مشاريعها السياسية في منطقة الشرق الأوسط والوطن العربي على حساب المردود الاقتصادي والحالة المعاشية التي يعيشها المواطن الإيراني، فكانت الانتخابات فرصة كبيرة للتعبير عن أهداف وغايات ما تسعى إليها الشعوب الإيرانية في انتفاضتها التي انطلقت في 15 أيلول 2022 بعد مقتل الشابة الكردية مهمسا آميني، إضافة إلى رؤية النظام الإيراني في أحداث تغيير في السياسة العامة للبلاد والمجئ بشخصية سياسية معتدلة لاحداث عملية التواصل مع الغرب والولايات المتحدة الأمريكية في مسعى لرفع العقوبات الأمريكية الاقتصادية والتمسك بسياسة قبضة النظام والحفاظ على شرعيته بتدفق المواطنين للانتخابات والتي ارتفعت نسبتها إلى 60٪ في المرحلة الثانية منها، كما استشعر المرشد خامنئي ان هناك تنافسًا سياسياً وخلافات جوهرة داخل التيار المحافظ وانعكس سلبيًا في خفض نسبة التصويت له في المرحلة الأولى.
ورغم جميع هذه المحددات السياسية التي أدت إلى فوز الرئيس بزشكيان إلا أنه سيلاقي مصاعب عديدة ومواجهات مستمرة من التيار المحافظ المهمين على مجلس الشورى عبر تقديمه للافكار المقترحات والبرامج السياسية والاجتماعية التي وعد بها الناخبين له ومنها حرية الرأي والالتزام بحقوق الإنسان ومنع قمع الحريات والكف عن زج المواطنين في السجون نتيجة أرائهم ومعتقداتهم، وهذا ما سيجعل المواجهة تتأخذ أشكالًا متباينة في علاقة الرئيس الجديد مع الأحزاب والتيارات السياسية الإيرانية، وهذا ما انتبه إليه بزشكيان في محاولة منه لتطمين الآخرين بقوله ( ليس لي رسالة محددة وإنما انفذ سياسات المرشد الأعلى)، وهذه انعطافة سياسية في العمل وجزء منها في رأينا ما ناقشه معه محمد جواد ظريف وزير الخارجيه الايراني الأسبق والذي اختير الان لرئاسة المجلس الأعلى السياسات الاستراتيجية الإيرانية عبر خبرته وتعامله مع النظام الإيراني وعلاقاته الدولية والإقليمية.
يدرك الجميع أن محور السياسات الخارجية والتوجهات الإيرانية ذات البعد الاستراتيجي تقع صلاحيتها كاملة في يد المرشد والمؤسسة الأمنية والحرس الثوري،وانها سوف لا تتغير بوقت محدد أو عبر توجهات وافكار يقدمها الرئيس الجديد المتعلقة بالسياسة الإقليمية التي تقوم على شبكة من الوكلاء الإقليميين وأصبحت جزءًا رئيسًا في استراتيجية إيران وسعيها لاقتناص الفرص السياسية لتحقيق مصالحها الذاتية وحماية أمن نظامها وبقائه.
كما وأن هناك العديد من الملفات الساخنة والتي تشكل خطورة على النظام بعد الاحتجاجات الشعبية، منها ما يتعلق بمحاولة العودة والتجديد لمفاوضات الملف النووي ورسم ملامح ومستقبل برنامج الصواريخ البالستية والطائرات المسيرة الصاروخي والعلاقة مع الدول الأوربية والولايات المتحدة الأمريكية، وتمكن النظام من إعطاء رسالة تتعلق بسعيه لحل هذه الملفات عندما أعلن عن اعتبار محمد ظريف مسوؤلًا عن الحملة الانتخابية لمرشح التيار الإصلاحي مسعود بزشيكان ومساندة الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي، اللذان يتمتعان بعلاقة جيدة مع الغرب وكانا من المؤسسين لإتفاقية البرنامج النووي عام 2015.
ولكن السياسة الثابتة للحرس الثوري الإيراني جعلته يرسل إسماعيل قاأني قائد فيلق القدس
بعد انتخاب بزشكيان إلى العراق ولبنان وسوريا واللقاء بقيادات الفصائل والمليشيات التابعه لهم، وهي رسالة واضحة لابقاء على سياسة تصدير الثورة وأن لا تغير على نطاق التوجهات الخارجية العربية والإقليمية بدعم القوى والوكلاء المساندين للمشروع الإيراني في المنطقة.
وأمام هذه المنعطفات الميدانية والتوجهات السياسية والإجراءات الأمنية وبغية احتواء الاحتقان السياسي الذي رافق فوز مسعود بزشكيان، جاء خطابه للعالم وعبر ما نشرته صحيفة ( طهران
تايمز) بأن الرئيس المنتخب أبلغ الولايات المتحدة الأميركية أن إيران لا تستجيب للضغوط، وأشار إلى متانة العلاقة مع الصين والتحالف الاستراتيجي مع روسيا.
أن ما عمل له المرشد علي خامنئي وقبوله بنتائج الانتخابات الرئاسية الإيرانية إنما هي صفحة سياسية معلنة تستبق الأحداث في انتظار ما ستسفر عنه نتائج الانتخابات الأمريكية وما ستشهده المنطقة العربية من متغيرات وآفاق مستقبلية تتعلق المفاوضات الجارية لوقف الحرب الدائرة في قطاع غزة واحتدام الصراع والمواجهة في جبهات أخرى في جنوب لبنان أو في خليج عدن والبحر الأحمر والفعاليات التي تقوم بها جماعة الحوثيين والتي تسير وفق المنظور الإيراني في تحقيق المكاسب والمنافع السياسية التي تتوافق والنظرية الإيرانية في الابقاء على دور إيراني في العلاقة مع الغرب والولايات المتحدة الأمريكية واستثمار أي مفاوضات للأوضاع الجارية في المنطقة للوصول إلى أهداف النظام الإيراني وغاياته برفع الحصار عنه وإطلاق الأموال المجمدة وتحقيق اتفاقية جديدة للبرنامج النوري ترضي جميع الأطراف
وحدة الدراسات الإيرانية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية