يتباحث ثلاثة خبراء في تبعات فوز مسعود بزشكيان في الانتخابات الرئاسية على الداخل والخارج، بما في ذلك الحاجة إلى كبح أي أمل في أنه قادر على إحداث تغيير جوهري أو مستعد للسعي إلى ذلك.
عقد “معهد واشنطن” في 16 تموز/يوليو منتدى سياسيًا عبر الإنترنت مع هولي داغرس وسعيد جولكار. إنّ داغرس هي كبيرة الزملاء غير المقيمة في “برامج الشرق الأوسط التابعة للمجلس الأطلسي” حيث تشرف على منشورات مشاريع “إيران سورس” و”مينا سورس” و”ذا إيرانيست”. أمّا جولكار فهو أستاذ مشارك في العلوم السياسية في جامعة تشاتانوغا في ولاية تينيسي وكبير المستشارين في منظمة “متحدون ضد إيران نووية”. وجرى النقاش بإدارة الدكتور باتريك كلاوسن، وهو زميل أقدم في برنامج الزمالة “مورنينجستار” التابع لـ”معهد واشنطن” ومدير “برنامج فيتيربي على إيران والسياسة الأمريكية”. وفي ما يلي ملخص ملاحظاتهم التي استخلصها مقرر المنتدى.
الدكتور باتريك كلاوسن
كان نجاح مسعود بزشكيان في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية الإيرانية نتيجة فريدة. وكان هامش الفوز 2,8 مليون صوت ولكن يعود هذا الفارق بمعظمه إلى تأييد كاسح في خمس محافظات ذات أقلية عرقية، وهي ثلاث محافظات أذربيجانية ومحافظة كردية ومحافظة بلوشية. وقد فاز منافسه، سعيد جليلي، بأكثرية الأصوات الفارسية وهيمن في مدن مثل مشهد وأصفهان، مع أن النتائج في طهران جاءت متباينة. وبتعبير آخر، نجمت الحصيلة عن عوامل عرقية كما عن الموقف الإصلاحي لبزشكيان (مع أن هذه العناصر كثيرًا ما تتداخل في إيران). ما يجعل هذا المنافسة خارجة عن المألوف إلى حد ما في تاريخ الانتخابات الإيرانية.
هولي داغرس
بعد أن شهدت الجولة الأولى من الانتخابات أدنى نسبة مشاركة في تاريخ الجمهورية الإسلامية على مدى خمس وأربعين سنة، يعتقد الكثيرون أنه سُمح لبزشكيان بخوض الجولة الثانية لأنّه عادةً ما يجذب المرشحون الإصلاحيون نسبة مشاركة أعلى. وتبيّن من انخفاض المشاركة الأولي مدى إحباط الشعب من النظام الذي تفاقم بفعل حملات قمعية امتدت على مدار عامين بعد انطلاق حركة “المرأة، الحياة، الحرية” في العام 2022. ونظرًا لأن الكثير من الإيرانيين لم يجدوا فارقًا حقيقيًا بين المرشحين الأربعة الأوليين، انطلقت دعوات إلى المقاطعة عبر وسوم هاشتاغ مثل “لا للتصويت” و”مهزلة انتخابية”.
ولكن في الجولة اللاحقة التي تواجه فيها المرشحان، اندفع ناخبون إضافيون للمشاركة خوفًا من أن يحوّل جليلي إيران إلى دولة أكثر انعزالًا وتشددًا مثل كوريا الشمالية أو أفغانستان تحت حكم “طالبان”. ولذلك لجأ الكثيرون إلى التصويت لبزكشيان بناءً على قاعدة اختيار أهون الشرّين على مضض وليس لأنهم قانعون بنهجه.
وفي ما يتعلق بالتداعيات المحتملة للسياسة الأمريكية، يجب أن نأخذ دائمًا في عين الاعتبار أن عداء طهران في الداخل والخارج يزداد أكثر فأكثر منذ أن تولى الرئيس بايدن منصبه. ويتجلّى هذا في مساعدتها لحرب روسيا ضد أوكرانيا وقمعها للاحتجاجات الحاشدة ودعمها غير المباشر وعملياتها العسكرية المباشرة خلال حرب غزة وغيرها من الأنشطة، في حين أن إدارة بايدن لم تعمل يومًا على صياغة سياسة واضحة وشاملة بشأن إيران. وفي هذا الإطار، يعترف معظم الملاحظون الآن بأن العودة إلى الاتفاق النووي هدف غير كافٍ وحده، باعتبار أن أي اتفاق تبرمه واشنطن مع طهران يجب أن يعالج مسائل أخرى مثل الميليشيات الأجنبية بالوكالة والصواريخ البالستية وانتهاكات حقوق الإنسان.
وبالرغم من فوز بزشكيان، من المحتمل أن يؤجل النظام أي مفاوضات في الوقت الراهن إلى حين معرفة الفائز في البيت الأبيض في تشرين الثاني/نوفمبر. وفي المحصّلة، يُعدّ آية الله علي خامنئي الآمر الناهي بينما لا يضطلع الرئيس سوى بدور ثانوي. كما لا يزال خامنئي يسعى إلى الرفع من شأن القادة المتشددين من فئة الشباب ضمن النظام، الأمر الذي يقلل من احتمال أن يؤدي بزشكيان دورًا مهمًا في القرارات المتعلقة بالبرنامج النووي أو برنامج الصواريخ أو خَلَف المرشد الأعلى. أما بالنسبة إلى “حزب الله” و”محور المقاومة” ككل، لم يخرج موقف بزشكيان العام تجاه هذه الجماعات عن المسار الحالي للنظام، إذ يشكّل دعم الميليشيات الأجنبية أحد الجوانب الأساسية في السياسة الخارجية لطهران ومن المتوقع أن يبقى الوضع على حاله خلال فترة ولايته.
ومن العوامل الأخرى التي يتعيّن مراقبتها هو طريقة استجابة حكومته للاحتجاجات الداخلية. إذ يشير مسار الأمور منذ كانون الأول/ديمسبر 2017 إلى أن المظاهرات واسعة النطاق ستتكرر وتبقى ما دام النظام يعجز عن معالجة سوء الإدارة المنهجي والفساد والقمع معالجةً وافية. وعلى الرغم من الحديث عن إصلاح محتمل في عهد بزشكيان، إلا أن برنامجه لم يتطرق بشكل موضوعي إلى هذه المسائل الأساسية. ومن الجدير بالذكر أن الإيرانيين غير راضين عن الوضع الراهن ولذلك استمرت أفعال العصيان المدني التي يقودها في المقام الأول أفراد من “الجيل زد” ، كما رأينا في مقاطعة الجولة الأولى من الانتخابات.
سعيد جولكار
من المستغرب قرار النظام السماح لبزشكيان بالمشاركة في هذه الانتخابات الرئاسية الطارئة والفوز بها نظرًا لأن مجلس صيانة الدستور استبعده من الترشح للانتخابات النيابية قبل بضعة أشهر فحسب، وهذا يعني أنه لم يتمكن من الترشح للانتخابات الرئاسية إلا بتدخل مباشر من الخامنئي.
في الجولة الأولى، أشارت ديناميات داخلية في فيلق “الحرس الثوري الإسلامي” إلى أن التأييد انقسم بين جليلي والمرشح المتشدد محمد باقر قاليباف، فكان معظم كبار قادة “الحرس الثوري الإسلامي” يؤيدون قاليباف ضمنيًا باعتبار أنّ جليلي منغلق وغير جدير بالثقة، إلا أن البقية يميلون إلى جليلي وكذلك القادة الشباب و”قوات البسيج” شبه العسكرية. حتى إن بعض أفراد “الحرس الثوري الإسلامي” أيّدوا بزشكيان إذ يعتبرون جليلي غير جدير بالثقة وقاليباف فاسدًا.
ويعود فوز بزشكيان في الجولة الثانية من الانتخابات في جزء منه إلى تعبئة الناخبين بدافع الخوف وشدّ العصب العرقي، ولذلك يجب أن يخفض الملاحظون الخارجيون سقف توقعاتهم بحدوث أي تغيير كبير في السياسة. فنظرًا لتاريخ بزشكيان كجندي ولطاعته لخامنئي، بقي على ما يبدو من دون رؤية سياسية واضحة خاصة به، على خلاف أسلافه الإصلاحيين مثل محمد خاتمي (الذي عزز التنمية السياسية) وحسن روحاني (الذي دعا إلى التفاوض مع الغرب).
علاوةً على ذلك، يتمتع الرؤساء بصلاحيات محدودة في الهيكل السياسي للجمهورية الإسلامية بحكم تعريفه، فهذا المنصب خاضع بشدة للمرشد الأعلى و”الحرس الثوري الإسلامي”. ولذلك من المتوقع أن يلتزم بزشكيان بسياسات النظام ويركز على تنفيذ أفكار قائمة معتمدة بدلًا من ابتكارها، وإلا فهو يخاطر بفقدان حماية “الحرس الثوري” وخامنئي.
وما زال لنوع الحكومة التي يشكلها بعض التداعيات على السياسة الخارجية. ففي أغلب الظن، سيسعى إلى تعيين وزراء متقيدين بالمبادئ العامة للجمهورية الإسلامية، وهذا سيحسّن فرصهم في تخطي جولات الفرز المتعددة المطلوبة لتشكيل الحكومة وتلقي الدعم من ثلاثي قاليباف المحوري (باعتباره رئيسًا للبرلمان) و”الحرس الثوري الإسلامي” وخامنئي. ومن شأن هذه الاعتبارات أن تحدّ من قدرته على تحديد التشكيلة النهائية لمجلس الوزراء.
ولم يتحدث بزشكيان بعد عن الموقف الذي سيتخذه تجاه الولايات المتحدة. فقد أشار خلال حملته الانتخابية إلى تحبيذ نهج “حُسن الجوار” في العلاقات الإقليمية. ومع ذلك، تشكل المشاعر المعادية لأمريكا وإسرائيل جزءاً أساسياً من هوية النظام، ولذلك من غير المرجح أن يُحدث بزشكيان تغييرًا جوهريًا عليها. وفي أحسن الحالات، قد يتعاطى مع الغرب في مسائل إقليمية معينة، ولكن من دون الخوض في قضايا سياسية أكبر.
أمّا على الجبهة الداخلية، فمن المرجح أن يستمر “الحرس الثوري الإسلامي” في إقحام نفسه في السياسة الداخلية وصياغة سياسة الحكومة، كما ظهر بكل وضوح في عهد قائد فيلق القدس الراحل قاسم سليماني، مع الإشارة إلى أنّ “الحرس الثوري” سيقدّم الدعم والحماية لبزشكيان طالما أنه يحمي مصالحهم. وبهذا المعنى، سيتعين على الرئيس الجديد الاختيار بين دعم “الحرس الثوري” وخامنئي أو دعم الشعب الإيراني، وهو على الأرجح سيبدأ بمحاولة إرضاء الجميع إلا أنّ هذا النهج ليس مستدامًا، فالتوترات بين مراكز القوى المختلفة وشرائح المجتمع سوف تعود إلى الظهور في نهاية المطاف.
أما في ما يخص البرنامج النووي، فستستمر طهران في سعيها إلى الحصول على الأسلحة النووية، بغض النظر عن الانتخابات وتغيير الحكومات. وقد يسعى النظام إلى التوقيع على اتفاق آخر مع الولايات المتحدة لترتاح بشكل مؤقت من عبء العقوبات والضغوط الأخرى، إلا أنّها ستواصل المسير نحو الأسلحة على المدى الطويل. وتجدر الإشارة إلى أن العامل الوحيد الذي قد يغير هذه الحسابات هو الضغوط الخارجية القوية التي يمارسها الغرب، وإلا فلن يرى النظام أي عقبات تمنعه من التسلّح في نهاية الأمر.