هناك تفسيرات وتأويلات شتّى متباينة بين المُهتمّين بالشؤون الإيرانية بشأن مغزى انتخاب رئيس إصلاحي (مسعود بزشكيان) في إيران ودلالاته، بعد الحادث المثير لكثير من الاستغراب والأسئلة، وأودى بحياة الرئيس المحافظ المُتشدّد، إبراهيم رئيسي، الذي قيل عنه باستمرار إنّه كان مقرّباً من المرشد الأعلى علي خامنئي، وفي انسجام معه، وفي الوقت ذاته، على صلة بدوائر القرار في الأجهزة الأمنية والعسكرية الإيرانية، سيّما الحرس الثوري، وفيلق القدس تحديداً.
وكان من المتوقّع أن تكون ردّة الفعل الإيرانية الرسمية على ذلك الحدث قويّة مُتشنّجة بانتخاب رئيس مُتشدّد في الأقلّ. ولكنّ ما حصل العكس، إذ تمكّن إصلاحي من الفوز بالرئاسة مُتقدّماً على أربعة محافظين، يتراوحون بين درجتي المُحافظ المُعتدل والمُحافظ المُتشدّد جدّاً، في صعيد التعامل مع الغرب، خاصّة في ما يتصل بالملف النووي. ولكن، حتّى لا يُبعدنا التفاؤل عن حدوده المألوفة ضمن نظام ولي الفقيه، لا بدّ أنّ نأخذ في اعتبارنا محدودية دور الرئيس، وإمكاناته السلطوية المتواضعة، خاصّة ما لم تكن له علاقات وثيقة راسخة مع دوائر القرار. فالنظام الإيراني مُفصَّل وفق مقاسات السلطة المُطلقة التي يحظى بها المرشد الأعلى، الآمر الناهي في ميدان وضع الاستراتيجيات، واتخاذ القرارات المفصلية، وتقريب المسؤولين أو إبعادهم بموجب درجة ولائهم، بناءً على مراقبة مواقفهم وتصريحاتهم وتحرّكاتهم واتصالاتهم، وطبيعة طموحاتهم، واستناداً إلى تاريخهم ودورهم في بناء صرح النظام الذي وضع أسسه الخميني. ولنا في هذا المجال أمثلة حيّة من الواقع الإيراني نفسه، وفي أعلى المستويات (هاشمي رفسنجاني، محمّد خاتمي، محمود أحمدي نجاد، حسن روحاني).
العقلية السلطوية الإيرانية ما زالت نفسها، ذرائعيةً تتحرّك ضمن المقاسات التي لا تتجاوز الحدود التي ترسمها تعليمات المرشد الأعلى
مع ذلك، التفاؤل في جميع الأحوال أفضل من التشاؤم؛ لذلك لنقرأ في تصريحات الرئيس الإيراني “الإصلاحي” الجديد مسعود بزشكيان، لا سيّما المقال الذي خصّ به “العربي الجديد” تحت عنوان “معاً لبناء منطقة قويّة مُزدهِرة” (10/7/2024)، وهو المقال الذي قيل عنه إنّه محاولة من الرئيس الجديد لمخاطبة الرأي العام العربي، بشقيّه الرسمي والشعبي، ودعوته إلى فتح صفحة جديدة بين إيران وجيرانها من العرب والمسلمين، تركيزاً على التنمية والمصالح المشتركة. ومن بين أكثر ما ورد في المقال أهمّية ما ذهب إليه الرئيس الجديد بشأن استعداد بلاده لإشراك الدول المعنية في ممرَّي الشمال – الجنوب والشرق – الغرب داخل أراضي إيران، وشدّد على أهمّية قوّة الجيران، لأنّها، في نهاية المطاف، قوّة للمنطقة تمكّنها من “مواجهة السلاح النووي للكيان الصهيوني”، ومن “التغلّب على التطرّف في المنطقة وغطرسة القوى الدولية”، وفق تعبيره. ودعا بزشكيان، في المقال ذاته، إلى “الاحترام المتبادل للسيادة الوطنية، ووحدة أراضي الدول، إذا ما أبدت دول المنطقة تعاوناً نشطاً وثنائياً”. وطالب، في الوقت عينه، بإنهاء الأزمات الداخلية عبر حلول سلميّة، لأنّ المُستفيد من هذه الأزمات يتمثّل، وفق توصيفه، في “الكيان الصهيوني المُحتلّ والقوى الأجنبية”، وبموازاة ذلك، طالب بـ”شرق أوسط خالٍ من أسلحة الدمار الشامل”.
عناوين عامّة قد تثير اهتمام وتعاطف غير المطّلعين على الواقع الذي تعيشه منطقتنا، خاصّة ما يجري في العراق وسورية ولبنان واليمن، وربّما مستقبلاً دول أخرى. فإيران هي التي تتدخّل، وتتحرّك، بالتوافق مع استراتيجيتها الإقليمية الرامية إلى تحويل إيران قوةً عظمى في المستوى الإقليمي. وهي تستخدم في ذلك سلاح المظلومية المذهبية لتكون أداةً تعبوية تجييشية في مجتمعات المنطقة، وهي تمارس ذلك بكلّ علنية، الأمر الذي يدفع المرء نحو التساؤل عن مدى مصداقية الدعوات الإيرانية المستمرّة بشأن التفاهم والتعاون بين دول المنطقة وشعوبها، وجديدها أخيراً دعوة الرئيس بزشكيان إلى وحدة المسلمين.
أما عن موضوع الاحترام المتبادل للسيادة الوطنية بين دول الإقليم، الوارد في مقال الرئيس الإيراني الجديد، فهو الآخر يثير الدهشة والتساؤل، لأنّ النظام الإيراني هو الذي تدخّل، ويتدخّل، منذ سقوط نظام الشاه 1979، باستمرار في شؤون بعض دول المنطقة، ويستخدم الأذرع المذهبية متعدّدة الجنسيات بقيادة جنرالاته وضبّاطه ومستشاريه. ولم يكتف بذلك، بل تمكّن من الهيمنة على المُؤسّسات والهيئات التشريعية والتنفيذية والقضائية في الدول المعنية. في حين أنّ الدول المجاورة لم تتدخّل في الشؤون الإيرانية الداخلية، ولم تقدّم الدعم والتشجيع لمختلف المكوّنات المجتمعية الإيرانية القومية منها والمذهبية، أو للقوى السياسية والتيّارات الشعبية المُتذمّرة من سياسات نظام ولي الفقيه. وفي الوقت عينه، لم تقف الدول المعنية كما ينبغي إلى جانب انتفاضة النساء الإيرانيات في مختلف المناطق الإيرانية، ومن مختلف المُكوّنات.
وفي ما يتصل بدعوة الرئيس الإيراني المنتخب إلى الالتزام بمبدأ خلوِّ منطقة الشرق الأوسط من السلاح الشامل، فالكلُّ يعرف أنّ هذه الدعوة تتجاوز صلاحيات الرئيس، لأنّ موضوع النووي هو في يد أصحاب القرار في النظام الإيراني، لا سيّما المرشد الأعلى، وإلّا فما هو تفسير الإصرار الإيراني على الاستمرار في تنمية القدرات النووية، وممارسة كلّ أشكال الدبلوماسية الناعمة والتهديدية، من أجل تذليل العقبات التي تحول دون الوصول إلى القنبلة النووية، لتصبح إيران عضواً في النادي الآسيوي، في الأقل، لممتلكي هذا السلاح الفتّاك؟ وما هو تفسير مواصلة النظام الإيراني، وحليفه النظام الأسدي، الاحتفاظ بترسانة الأسلحة الكيميائية، بل واستخدام الأخير من حين إلى آخر؟
أمّا التركيز على القضية الفلسطينية، وتأكيد ضرورة الوصول إلى حلّ لها، فهي قضية حقّ يُراد بها باطل في الماكينة الإعلامية الخاصّة بالنظام الإيراني، ومحور المقاومة بصورة عامّة، وتحاشي ذكر القضايا الإيرانية الداخلية، أو عدم تناولها، ومن هذه القضايا: القضيتان الكردية والبلوشية، وقضايا سنّة إيران وعرب عربستان، وغيرها من القضايا الاجتماعية والفكرية والسياسية. هذا إلى جانب القفز فوق القضايا الإقليمية التي تسبّبت فيها إيران، ويُشار هنا على سبيل المثال إلى قضايا سورية والعراق ولبنان واليمن. وفحوى هذا كلّه أنّ العقلية السلطوية الإيرانية ما زالت هي نفسها، وهي العقلية الانتقائية التفضيلية الذرائعية التي تتحرّك ضمن المقاسات التي لا تتجاوز الحدود المرسومة بناء على تعليمات المرشد الأعلى، ومعه مجموعة القرار.
تتدخّل طهران وتتحرّك بالتوافق مع استراتيجيتها الإقليمية الرامية إلى تحويل إيران قوةً عظمى في المستوى الإقليمي
ورغم ما تقدّم كلّه، لا بدّ من الاعتراف بأنّ هذا التوجّه الخاص بالرئيس الإيراني الجديد نحو الحوار والتعاون المشترك من أجل وضع الحلول لقضايا المنطقة ومشكلاتها إيجابي في ذاته، ولكنّه لن يؤدّي إلى المطلوب الذي تحتاجه منطقتنا ما لم تكن النيات صادقة بالفعل، بعيدة عن كلّ شكل من أشكال التقيّة والعواطف التي ترمي إلى التمكين ليس إلّا. فإيران تظلّ قوّةً إقليميةً مهمّة، كانت كذلك في الماضي البعيد، وفي الأمس القريب، وهي كذلك راهناً، وستكون مستقبلاً. ولكنّ النهج الحالي الذي يعتمده النظام الإيراني، المتمحور حول سياسة إضعاف مجتمعات الجوار، والتمدّد فيها، والتغلغل ضمن مؤسّسات دولها، أثبت عدم جدواه، بل أظهر كارثيّته، وقد تجلّى ذلك في واقع تدمير عمران المنطقة، وقتل ناسها وتهجيرهم، وانهيار اقتصاداتها. ولن تكون هناك قطيعة مع هذا النهج من دون اعتماد الحكمة بعيدة النظر، والتزام أسلوب الحوار والتعاون، والدخول معاً في مشاريع مشتركة قائمة على المصالح الخاصّة بشعوب المنطقة وأجيالها المُقبلة.
أما معالجة قضايا المنطقة، ومنها القضية الفلسطينية، فقد أثبتت التجارب على امتداد نحو قرن أنّها لم ولن تحلّ من دون المشاريع السياسية، التي لا يمكن أن تنجح من دون اتخاذ القرارات الصعبة، واعتماد الحوارات العقلانيية بمنأى عن الشعارات التجييشية، التي استنزفت كثير من الأرواح والطاقات والموارد.