عن تداعيات زيارة مودي إلى موسكو

عن تداعيات زيارة مودي إلى موسكو

أهدى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وسام “القديس أندراوس”، لرئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي خلال زيارة الأخير إلى روسيا في 8 يوليو/ تموز الجاري. وقال بوتين في كلمته مخاطباً مودي: “الصديق العزيز، إن تقليدكم هذا الوسام يعد تقديراً لإسهاماتكم في مجال التعاون والتفاهم بين شعبينا حيث تقفون دائماً إلى جانب مد الجسور منذ كنتم وزيراً للخارجية. وقد ساهمتم دائماً في أن تحمل العلاقات بين البلدين طابعاً استراتيجياً متميزاً”.

وردّ عليه رئيس الوزراء الهندي مودي في ختام كلمته: “نيابة عن 1.4 مليار مواطن هندي أتقدم بالشكر والامتنان لكم وللشعب الروسي”. ولد وسام “القديس أندراوس” في عام 1698 من قبل القيصر بطرس الأكبر، ويمنح للأفراد الذين قدموا خدمات جليلة للدولة الروسية في مجالات متنوعة. فأي خدمة تلك التي قدمتها الهند وشعبها ورئيس وزرائها لروسيا حتى يحظى بهذا الوسام؟ روسيا والهند: ما يجمعهما أكثر ممّا يفرقهما في غمرة انشغال العالم بإصابة الرئيس الأميركي دونالد ترامب برصاصة في أذنه، هناك في الضفة الأخرى من العالم من هو منشغل بترتيب العالم في السنوات القادمة.

اصطحب الرئيس بوتين ضيفه مودي في جولة في مقر إقامته، وتعد هذه الزيارة الأولى منذ 5 سنوات عندما زار مودي روسيا في عام 2019، على هامش منتدى في ميناء فلاديفوستوك في أقصى شرق روسيا والتقى بوتين حينها، كما التقى الزعيمان أيضاً في سبتمبر/أيلول 2022 في أوزبكستان، في قمة تكتل منظمة شنغهاي للتعاون.

وتعد القمة السنوية بين رئيس وزراء الهند مودي والرئيس الروسي بوتين أعلى آلية للحوار المؤسسي في الشراكة الاستراتيجية بين الهند وروسيا، خلال القمة الأخيرة التي عقدت في 6 ديسمبر/كانون الأول 2021، تم توقيع 28 مذكرة تفاهم واتفاقا، كما تم اعتماد بيان مشترك بعنوان “الشراكة الهندية الروسية من أجل السلام والتقدم والازدهار”.

وفي مارس/آذار من عام 2023 اعتبرت الهند روسيا شريكاً موثوقاً به، وقد دعمتها في الأمم المتحدة، ولعبت دوراً أساسياً في بناء القدرات العسكرية الهندية في مختلف المجالات، وسمحت لها بممارسة الاستقلال الاستراتيجي في مواجهة روسيا تجاه الغرب. ما يجمع هذين البلدين أكثر ممّا يفرقهما، إذ يرتبط البلدان بعلاقات سياسية وثيقة منذ الحقبة السوفييتية، وتعتبر روسيا مورداً رئيسياً للأسلحة والتكنولوجيا العسكرية بالنسبة للهند، كما يتعاون البلدان في مجالات التكنولوجيا والبنية التحتية والصناعات الثقيلة والطاقة بما في ذلك النفط والغاز والطاقة النووية، إضافة إلى التعاون في مجال الفضاء مثل إطلاق الأقمار الاصطناعية وتكنولوجيا الفضاء.

اقتصاد دولي
روسيا تدعم إيراداتها النفطية بطفرة الصادرات إلى الهند
ما يجمعهما أكثر من قضايا سياسية واقتصادية وعسكرية، إذ يجتمعان على عدم التبعية للولايات المتحدة وكونهما قوتين صاعدتين لديهما كافة المؤهلات لمواجهة النفوذ الأميركي والهيمنة العالمية. عدم الرضوخ لأميركا وسطوتها الاقتصادية يعد مكسباً كبيراً لروسيا ويشاركها في هذا دول مثل الهند والصين. فمن شأن توطيد التحالف بين دول “بريكس” الذي يضم إضافة للدول الثلاث آنفة الذكر كلاً من البرازيل وجنوب أفريقيا، وغاية المنى بالنسبة لروسيا، التفاهم مع كل من يعادي الهيمنة الأميركية، فكيف إذا كانت من قبل دول كبرى مثل الصين والهند اللتين يقطنهما حوالي 2.8 مليار نسمة.

وفق البيانات الرسمية الهندية، يبلغ حجم الاقتصاد الهندي نحو 3.732 ترليونات دولار وينمو اقتصادها بشكل سريع بفضل كتلة استهلاكية ضخمة، حيث يقدر عدد سكانها بأكثر من 1.4 مليار نسمة، كما هو الحال في الصين أيضاً. وتشمل الصادرات الرئيسية من روسيا إلى الهند النفط والغاز الطبيعي والمنتجات النفطية، والمعادن والأخشاب والأسمدة والمنتجات الزراعية، والمنتجات الصناعية والتكنولوجية بما في ذلك الآلات والمعدات الثقيلة.

في حين تشمل الصادرات الهندية إلى روسيا الأدوية والمنتجات الزراعية والغذائية مثل الشاي والتوابل، بالإضافة إلى المنسوجات والملابس والخدمات التقنية والبرمجيات. ويميل الميزان التجاري بين البلدين بشكل كبير لصالح روسيا، ويرجع ذلك إلى الصادرات الكبيرة من النفط والغاز الطبيعي والمنتجات النفطية.

بلغ إجمالي حجم التجارة بين البلدين حوالي 49.36 مليار دولار في العام 2023، حيث بلغت قيمة الصادرات الهندية إلى روسيا حوالي 3.14 مليارات دولار، بينما بلغت الواردات الهندية من روسيا حوالي 46.21 مليار دولار وتشمل بشكل رئيسي: النفط الخام، والفحم، والأسمدة، والمنتجات البترولية. وحتى شهر نيسان من العام 2024 شهد التبادل التجاري بين البلدين ارتفاعاً بنسبة 161.22% مقارنة مع نفس الفترة من العام 2023.

طاقة
اتفاقات نفط ويورانيوم طويلة الأجل بين الهند وروسيا
وتتركز الاستثمارات الهندية في روسيا بشكل أساسي في قطاعات تشمل النفط والغاز والماس والأدوية. كما برزت الهند كمشترٍ رئيسي للنفط الروسي في أعقاب غزو موسكو لأوكرانيا، من خلال استغلال فرصة انخفاض السعر واضطرار روسيا للبيع بعد إغلاق منافذ البيع في وجهها من قبل أوروبا والولايات المتحدة. وإبّان العقوبات الغربية التي فرضت على روسيا زادت أواصر العلاقات الروسية الهندية.

وفي الواقع تشكل العلاقة بين البلدين win – win للطرفين، فمن جهة تستفيد روسيا في بيع منتجاتها النفطية بعيداً عن الغرب الذي فرض عقوبات قاسية عليها، ومن جهة أخرى استفادت الهند من الحصول على الطاقة الرخيصة التي ساهمت في تسريع النمو الاقتصادي الهندي وخفض معدل التضخم، ولوحظ أن الاقتصاد الهندي نما من 2.671.6 تريليون دولار في عام 2020 إلى 3.732 تريليونات دولار في نهاية عام 2023، ليحل في المرتبة الخامسة على العالم من حيث الناتج المحلي الإجمالي الاسمي.

العالم في مفترق طرق
تخطط كل من الهند والصين ومعهما روسيا إلى ترتيب نظام مدفوعات نقدية لتسديد ثمن الواردات بالعملات المحلية، وقد ناقش مودي مع بوتين ترتيبات “عملة بريكس” ونظام الدفع البديل لسويفت، حيث وصف القائم بالأعمال الروسي رومان بابوشكين زيارة مودي لموسكو بأنها تاريخية، وأن الهدف منها توسيع العلاقات الاقتصادية، وتنفيذ نظام دفع ثنائي باستخدام العملات الوطنية. من حيث المبدأ يمكن التبادل بالعملات المحلية بين دولتين، وهي آلية مطبقة بين العديد من الدول ولا أعتقد أن لها آثارا كبيرة على النظام المالي العالمي، لكن أن تقوم دول مجموعة “بريكس” بالتوافق على عملة موحدة لاستخدامها في التجارة البينية في ما بينها، ونظام دفع متعدد الأطراف يمكنه تسوية المعاملات التجارية دون الحاجة إلى الدولار، قد يكون له تأثير كبير على اعتمادية العالم للدولار كعملة احتياطية دولية، وتحقيق الاستقلال عن سيطرة أميركا على التجارة العالمية، بالأخص إذا انضمت دول أخرى إلى المجموعة مثل تركيا والسعودية والإمارات وغيرها.

كما يمكن تعزيز دور بنك التنمية الجديد في تمويل المشروعات التنموية والاستثمارية داخل الدول الأعضاء بعيداً عن صندوق النقد والبنك الدوليين، في حين تذهب بعض الآراء إلى أن المجموعة قد تعمل على تطبيق المعيار الذهبي خلال السنوات الخمس المقبلة، بحيث إذا أرادت أي دولة المتاجرة مع إحدى دول بريكس ستضطر لسداد قيمة فاتورتها بالذهب.

في كل الحالات، نجاح مجموعة بريكس في هذه الخطوات قد يساهم في ترتيب العالم خلال الحقبة القادمة بين الولايات المتحدة وأخواتها الناطقة باللغة الإنكليزية والقارة العجوز (أوروبا) كقطب، والقطب الآخر مؤلف من تحالف “بريكس” وعلى رأسه موسكو ونيودلهي وبكين، لينقسم العالم بين منظومتين اقتصاديتين تميل دول العالم بينهما.

قد يحمل هذا التغير في طياته عالماً ثنائي القطب يكون النفوذ والسيطرة موزعين بشكل ما بين القوى الاقتصادية الصاعدة، مما قد يعيد تشكيل الجغرافيا السياسية والاقتصادية لعقود قادمة. ويثبت أن زيارة مودي إلى موسكو كانت “زيارة تاريخية لتغيير اللعبة الجيوسياسية” كما أشارت إحدى الصحف.