إن المتابع للأزمات السياسية العامة في أغلب الدول العربية ونسقها المتسارع والمعقد سيتوقف حتما عند معضلة الطائفية التي تحضر بقوة وأكثر من أي مسألة أخرى، سواء من حيث التعامل أو الطرح. فبينما ينظر البعض للطائفية بوصفها أحد المقومات الكبرى في تكوين الهوية السياسية والاجتماعية للمجتمعات العربية، يراها البعض الآخر بمثابة الطوفان الخطير الذي قد يكون سببا في تقسيم البلدان العربية وتفكيك الدول إلى دويلات غير قابلة للحياة على المديين المتوسط والبعيد. وفي هذا الإطار كان كتاب نصري الصايغ بعنوان “لست لبنانيا بعد … في مديح الطائفية”.
التعصب شعور محتال وعاطفة كاذبة لعوب، والطائفية وعي زائف وحس خادع، وقد يعدُّ الطائفي نفسه ذكيا وكاشفا للمخططات والمؤامرات التي تستهدف طائفته من الطائفة الأخرى المعادية، وقد يرى نفسه رائدا لا يكذب أهله وصاحب قضية وحامل رسالة ومبعوثا بالخلاص لأبناء طائفته من نار الغيرية وعدوان الاختلاف وظلم الآخر وتربصه ومشاريعه الاستئصالية.
وفي لجة الحرب المشتعلة يستجيب كثيرون، تحت وقع آلامهم وسطوة معاناتهم ومظلومياتهم، لدعاوى الطائفية ونعراتها العنصرية الانتحارية لكن، مع مرور الوقت، وتراكم المأساة، وحلول الكوارث بفعل البنية الطائفية التي يكرسها الطائفيون، واستمرار الأوجاع، وانكشاف أوراق تجار الدم وباعة الحقد وصناع الكراهية، يبدأ الوعي يسري بين الناس وتستعيد الأمة المُخدَّرة إحساسها بالمصدر الحقيقي للخطر وهو البغضاء والضغينة والكراهية والتفسخ الاجتماعي.وعلى الرغم من كل الخراب الذي تسببت وتتسبب فيه حماقات الطائفية في البلدان العربية، فإن الصحوة المجتمعية المضادة للكراهية قادمة وإن تأخرت. قد يخدعنا استشراء الحماقة، لكننا نغفل عن حقيقة أنها في شدة استحكامها وجبروتها تُنتج الوعي المضاد لها.
قبح الكراهية
تقترن الطائفية بالرجس المعنوي والوساخة النفسية والتلوث الذهني والروحي والتشوه الأخلاقي. الطائفية قبيحة مهما حاول معتنقوها أن يتجملوا أو يتعطروا بالشعارات والكلمات. وبشاعة الطائفية تُعرف بشناعة نتائجها.
الطائفية قذرة ونتنة بمعنى الكلمة. يتجسد ذلك في القمامة التي تملأ الشوارع بفعل الفشل الخدمي الناجم عن حكومات المحاصصة الطائفية والتلوث الذي يجتاح البيئة والخراب التنموي والفقر ونقص الكفاءة وانحطاط الأخلاق والتلوث الذهني بالعنصرية والكراهية ونزعات التمييز، كلها مخرجات الطائفية. هذا التفسخ الاجتماعي بكل ما فيه من عفونة هو صورة لـ“المزبلة” الكبرى التي تصنعها الطائفية في مجتمعاتنا.
والطائفية تتناقض مع القيم الأخلاقية والإنسانية، ولأنها ماضوية بطبيعتها وتسعى لتكريس الواقع بمساوئه، فإن الطائفية، بالضرورة، تتناقض مع المستقبل. ويتعلق الأمر هنا بمفهوم “الطائفية”، فهنالك من يتعامل معها باعتبارها “نزعة” عنصرية تمييزية تعصبية انعزالية.
وهنالك من يراها ظاهرة تعبِّر عن التنوع والتعددية والحق في حماية الخصوصية الثقافية؛ وهو مفهوم خطير جدا لأنه يتضمن تطبيعا للطائفية يمنحها اعترافا بأنها جزء “وجودي” من الحقيقة الاجتماعية، ويخلع عليها رمزية أخلاقية ومعنى اجتماعيا وحضاريا، كالتنوع والتعدد، لا تستحقه. وفي ذلك أيضا تشويه لمفهوم التنوع الثقافي، واختزال له في إطار ذاتي ضيق، وتسطيح لمعناه الموضوعي والإنساني والمعرفي والحضاري.
وقد نتوقف هنا عند ذلك الشاب المتحمس الذي قال يوما “الطائفية أسمى القيم وفيها أسمى المبادئ، فهي صفة ملازمة للإنسان وهي ليست سوى تجسيد مجتمعي للدين”!، وهذه المقاربة “الوجودية” و“الكينونية” و“الماهيوية” في تعريف “الطائفية” باعتبارها جزءا من ماهية وجوهرانية الوجود وطبيعته، وليست نزعة كريهة وسلوكا شاذا، إنما هي، برأيي، نابعة من هيمنة العقلية الدينية “الكهنوتية”، فالعقائد الدينية، في تأويلاتها “السلطوية”، عادة ما تربط “وجود” الإنسان بـ“العقيدة” التي يعتنقها، وتربط بها أيضا، وتختزل فيها، “الغاية” من هذا الوجود أصلا، وهذا ما نجده في تفسير بعض المسلمين لنصوص قرآنية.
وهو ما نراه اليوم في العراق مثلا، فالقوى الدينية، السياسية والكهنوتية، تبني خطابها التعبوي “الطائفي” على الربط العضوي والقسري والاختزالي بين وجود الفرد من جهة وبين مصالح طائفته العقائدية، السنية أو الشيعية، التي ينتمي إليها، على الرغم من أن الفكر الإنساني قد تطور ليتجاوز “المسألة العقائدية” في تناول موضوع وجود الإنسان وغايته، منتقلا إلى قضايا أكثر موضوعية وعمومية من قبيل الرفاه والحرية والفردية والاستقلالية والعدالة والمعرفة والسلام وتحقيق الذات والتنوع وحق الاختلاف واحترام الخصوصية والتعاون الإنساني والخير لعموم البشرية، لدرجة أن وجود الإنسان صار اليوم يعني قدرته على التحرر من طائفته وحيزه، الديني أو القومي أو الجغرافي، والانفتاح على الأغيار لا الالتصاق بالطائفة والقتال في خنادقها والتمرغ في طينها وأوحالها.
هزيمة العلمانية
يقر الكثير من المراقبين بهزيمة العلمانية على الصعيد العربي في مواجهة الطائفية، وهذه الهزيمة، كما أراها، في حقيقتها ليست هزيمة سياسية واجتماعية فحسب لكنها، في عمقها، هزيمة ثقافية تعكس الانهزامية النفسية والفكرية والقِيَمية التي يعاني منها العلمانيون العرب في وجه الطائفية بوصفها قضية حساسة تتعلق بسرديات الوجود الاجتماعي والمناطقي والعقائدي والهوياتي، وما يتصل بهذه السرديات من توازنات ومصالح وعلاقات.
فالأحزاب العلمانية كافة، ومن دون استثناء، لم تُفلح في التقدم خطوة باتجاه إلغاء النظام الطائفي، حيث انشغلت بالسلطة الطائفية والقيادات الطائفية، أكثر من انشغالها بقضية المواطَنة والعَلمَنة. وهذا الفشل باعتقادي، يرجع لما تعانيه النسخ العلمانية والليبرالية في مجتمعاتنا من سمات “القشرية” و“الهشاشة” و“الطروء” في مقابل الرسوخ الثقافي والاجتماعي للهويات والعقائد والمذاهب والملل والانتماءات الأولية، ولذلك تتحول الأيديولوجيات، كل الأيديولوجيات، إلى مجرد أوعية وآليات للتعبير عن النزعات الهوياتية والعواطف العقائدية والمشاعر الطبقية والمناطقية والفئوية التي تجتاح المجتمع في ظل سياق، سياسي واجتماعي وثقافي واقتصادي، يساعد على تفجير هذه النزعات والمشاعر لا على ترشيدها لصالح أُطر حداثية كالعلمانية والليبرالية. لذلك تجد هذه النزعات والعواطف والاتجاهات البدائية ضالتها في الأيديولوجيات ذات الطابع العنصري كتسييس القوميات والمذاهب والإسلام السياسي.
وهنالك أيضا الجانب “البراغماتي”، فالعلمانيون والليبراليون هم في النهاية “سياسيون”، ولذلك يلعبون بالورقة الرابحة وإذا كان النظام طائفيا فإنهم ينخرطون فيه لتحقيق مصالحهم حتى لو رفعوا شعارا أخلاقيا من قبيل “الإصلاح من الداخل” أو ما شابه ذلك من مقاربات سرعان ما تثبت هشاشتها وخواءها عندما يعجز العلماني عن الاستمرار في المسرحية لأن القوى الطائفية المتمرِّسة، كالأحزاب الدينية والتيارات الشعبوية، تحاصره وتعزله ولا تسمح له بالمنافسة وتطبيق رؤيته العلمانية والمواطنية إن وُجدت، وهذا ما حصل لسياسيين علمانيين في العراق شاركوا في اللعبة التحاصصية على الرغم من هجائهم لها، وفي النهاية وجدوا أنفسهم معزولين ومهمشين من القوى الأكثر صلابة مذهبيا، والأكثر فظاظة طائفيا، والأكثر وقاحة فئويا وجهويا، والأكثر شراسة سلطويا، والأكثر توحشا ميليشياويا.
يعود الفشل في إلغاء الطائفية إلى أن “أصحاب المفاهيم والأفكار والعقائد المناهضة للطائفية، لم يضعوا يوما برنامجاً لهزيمة الطائفية. ومن المفارقات أن بعض العلمانيين، لا سيَّما المتحولين أيديولوجيا من ذوي خلفيات الإسلام السياسي، يظنون أن العلمانية تعني مصافحة الفنانات أو مجالسة النسوة غير المحجبات، غافلين عن المعنى الجوهري للعلمانية، وهو الموقف المحايد من الخصوصيات الدينية والعقائدية، سياسيا وإداريا وتشريعيا ومؤسسيا، والالتزام الصارم والأخلاقي بعدم الزج بالقضية المذهبية، بأي شكل من الأشكال، في الصراع السياسي.
ومن أبرز الآليات الخطابية الشعبوية التي يعتمدها الطائفيون هي العزف على ورقة الفقراء والمهمشين من هذه الطائفة والذين تظلمهم وتسحقهم الطائفة الأخرى المناوئة بحسب السردية الطائفية. لكن الحقيقة أن الفقراء، الذين كانوا وقود الشحن الطائفي بسبب الهشاشة المعرفية والاقتصادية التي يعانون منها، هم أنفسهم يمكن أن يكونوا مادة ورافعة التصالح الاجتماعي العابر للطائفية؛ لأن مصلحتهم تكمن في الاستقرار السياسي والاقتصادي المُولِّد لفرص العمل والرخاء والعدالة النسبية.
تاريخ منتقى
إن العودة إلى تاريخ لبنان في الكتب المقررة قديما تجعلنا ندرك أن الأحداث المذكورة مُنتقاة، حيث لا نعرف أحيانا أسبابها، ونتائجها. وهذه تبدو إشكالية عامة في العالم العربي، أن التاريخ، والمناهج الدراسية المرتبطة به، تتم كتابتها وفق وجهة نظر أيديولوجيا السلطة، وحين تكون الطائفية هي الأيديولوجيا تزيد الأمر التباسا.
ذلك أن الصراع الطائفي يقوم على استدعاء التاريخ واستخدامه كذخيرة معنوية ضد الآخر، والتاريخ هنا لا يعود محض “أداة” في الصراع وإنما “مادة” الصراع ووقوده، بمعنى أن التاريخ هنا ليس مجرد وسيلة لتثبيت أركان حكم السلطة وتعزيز هيمنة النظام السياسي والاجتماعي والثقافي وشبكة المصالح الحاكمة، وإنما يصبح التاريخ نفسه ميدان صراع وتنازع على الرواية والأحداث والشخوص، فينشدُّ الحاضر إلى الماضي، ليعيش فيه ويعتاش عليه، وتلتفت الأنظار والعقول إلى الخلف، ليضيع المستقبل. التاريخ هنا يكون مغذيا استراتيجيا لبنية التخلف. في العراق مثلا، بين الحين والآخر تتم إثارة قضايا مثل المناهج الدراسية في المدارس وتناولها للتاريخ الإسلامي وتاريخ العراق الحديث والمعاصر.
ومواقع التواصل الاجتماعي ما زالت تنخرط في الجدل العَدَمي حول قضايا تاريخية مثل الحرب العراقية – الإيرانية، أو الموقف من نظام صدام. ويغيب بصورة ملحوظة النقاش المتعلق بالمستقبل وصورته المرغوبة أو المفضلة لدى العراقيين.
وكل طرف جان بانتمائه لطائفة تخوض الحرب الأهلية، الباردة أو الساخنة أو الدافئة، وبنصرة الطائفة ظالمة ومظلومة، وكل طرف مجني عليه أيضا بانتسابه لهذه الطائفة وتعرضه لكل ما تتعرض له على يد الطائفة الأخرى، الظالمة والمظلومة أيضا.
المجتمع الطائفي هو مجتمع يخون بعضه بعضا، ففي العراق مثلا، هناك من يخون العراق مع هذه الدولة المجاورة، وهناك من يخونه مع دولة أخرى، في مشهد يجسد تبادلا للخيانات.
يحاول كل طرف أن يُشرعن التحاقه بالقوى الإقليمية والدولية عبر استدعاء ممارسات الطرف الآخر ومحاكاة استقوائه، هو الآخر، بقوى أجنبية أخرى، في النهاية يمسي الجميع ملوثا بالخيانة، لذلك بات العراقي اليوم نصف خائن. هذا يخون مع إيران وذاك مع تركيا، وحتى الوحدة التلفيقية الدعائية بين الطائفتين، السنة والشيعة، لن تفضي إلَّا إلى توحيد الخيانة، وما من كابح للخيانة سوى الهوية الوطنية العراقية الجامعة، والعنوان المواطني الإدماجي، والمشروع العراقي الاندماجي البديل لكل مشاريع التدخل الإقليمي والهيمنة الخارجية والاستقواء بالأحلاف الدولية.
والطائفية أشد وطأة من الصهيونية لأن الصهيونية وبعد كل ما ارتكبته تبقى أقل همجية وبربرية من الطائفية، حيث أن الطائفية عدو مخادع متنكر بأستار الحق والخير والفضيلة والإيمان والتقوى والورع والمقاومة.
ولهذا فإن العوار الأخلاقي للطائفية بحاجة إلى كشف وفضح ليتبين للناس ما فيها من ظلم للذات وللآخر وللمجتمع. كما أن شرور الصهيونية، تجاه العرب، هي شرور خشنة مادية، أما شرور الطائفية فهي ناعمة، نفسية وفكرية ورمزية، مُنسابة في المشاريع السياسية ومتسربة في الثقافة الاجتماعية. كما أن الصهيونية أيديولوجيا منفصلة عضويا ومعنويا عن الذات العربية والإسلامية، أما الطائفية فمُنغمسة في هذه الذات ومنجدلة مع هوياتها وماهياتها القومية والدينية والمذهبية، ولذلك يكون خطرها أشد وأقسى، وأدهى وأمر.
الطائفية تنبع من الذات ولحمايتها، لذلك تخدعنا بأقنعتها الأخلاقية والتبريرية، فيما تنبع الصهيونية من الآخر ضد الذات، فتكون بالنسبة لنا، ملحوظة بشدة ومدانة أخلاقيا بشكل أكثر سهولة.
همام طه
صحيفة العرب اللندنية