يشعر معظم سكان الدول العربية – وخاصة الشباب – ممن عايشوا أحداث الربيع العربي وصعود تنظيم داعش وأفوله وتفشي جائحة كوفيد – 19 بمزيج من الحرمان المادي والتخوف أو حتى اليأس بشأن مستقبلهم، إذ أن جيلا كاملا لم يحظ بفرصة لتحقيق أحلامه.
لندن – يعانى “جيل الربيع العربي” من أزمات متتالية لا تنتهي. انضم بعض الشباب إلى القوى العاملة قبل عامين أو ثلاثة من اندلاع الثورات، ومثلت تلك السنوات (2008) أسوأ تراجع منذ الكساد الكبير. إنهم مثقلون بالديون، وغير قادرين على تجميع الثروة، وعالقون في وظائف منخفضة الاستحقاقات ومسدودة. إنهم يدخلون الآن ذروة سنوات كسبهم وسط كارثة اقتصادية أشد خطورة من الركود العظيم، ويقتربون من ضمان أنهم سيكونون جيلا أكثر فقرًا من آبائهم.
بحث عن الاستقرار
كشف استطلاع أصداء بي.سي.دبليو السنوي الرابع عشر لرأي الشباب العربي أن الشابات والشبان العرب في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا – ممن عايشوا أحداث الربيع العربي، وصعود وأفول تنظيم داعش، وتفشي جائحة “كوفيد – 19” – يبدأون حقبة جديدة في مسار مستقبلهم ويفضلون الاستقرار على الديمقراطية.
قالت الغالبية العظمى من الشباب العربي – 82 في المئة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا – إن الضغط من أجل الاستقرار في بلادهم كان أكثر أهمية من تعزيز الديمقراطية. يتناقض هذا الرقم بشكل صارخ مع نتائج مسح الشباب العربي لعام 2009، حيث قال 92 في المئة من المشاركين في نفس الفئة العمرية (بين 18 و24 عاما) إن أهم أولوياتهم هي العيش في بلد ديمقراطي.
فشل التجربة الديمقراطية التونسية في تحسين ظروف الشباب أدى إلى تشويه صورة هذا المصطلح
وأظهر استطلاع هذا العام حدوث تحول كبير، حيث يرى الآن 82 في المئة من الشباب العربي أن الاستقرار أهم من الديمقراطية؛ ومع ذلك، قال أغلبهم (60 في المئة) إنهم قلقون بشأن تنامي دور الحكومة في حياتهم اليومية.
وقال سونيل جون، مؤسس أصداء بي.سي.دبليو إن “التناقض بين الشباب العربي يظهر أنهم يقفون عند مفترق طرق بحثًا عن الاتجاه. وأضاف أن الجيل الحالي من الشباب العربي يتقدم من انقسامات أوائل 2010 لكن لم يقرر بعد الاتجاه الذي سيتخذه.. إنهم يريدون المزيد من الحريات، لكنهم يعطون الأولوية للاستقرار. إنهم يسعون إلى الإصلاح ولكنهم يريدون الحفاظ على ثقافتهم وتقاليدهم. إنهم متفائلون ويعتمدون على أنفسهم، ويؤمنون بأن أفضل أيامهم تنتظرهم لكن توقعاتهم عالية”.
يعتبر الشباب العربي ارتفاع تكاليف المعيشة والبطالة من أكبر العقبات التي تواجه المنطقة. وقد ظل هذان العاملان أكبر مخاوفهم على مدار سنوات الاستطلاع باستثناء عامي 2016 و2017 حينما أشار الشباب إلى صعود داعش وتهديد الإرهاب باعتبارهما أبرز المخاوف.
ويقول أكثر من ثلث الشباب العربي (41 في المئة) إنهم يكافحون لتغطية نفقاتهم الأساسية (وارتفعت هذه النسبة إلى 63 في المئة في دول شرق المتوسط)، بينما قال أكثر من نصفهم (53 في المئة) إنهم يتلقون دعماً مالياً من عائلاتهم. ولا تزال جودة التعليم مصدر قلق مستمر بالنسبة إلى الشباب العربي (قال 83 في المئة إنهم “قلقون جداً” أو “إلى حد ما” بهذا الشأن) مع تراجع مستوى قلقهم قليلاً في أعقاب الجائحة. وساد التشاؤم بشأن الوظائف تحديداً في دول شرق المتوسط وشمال أفريقيا (حيث قال 49 في المئة من الشباب العربي عموماً أنه من الصعب العثور على وظيفة جديدة في بلدانهم).
وأدى فشل التجربة الديمقراطية التونسية في تحسين الظروف المعيشية وخاصة للشباب والتصدي للفساد إلى تشويه صورة هذا المصطلح. ففي مقابل التوقعات التي كانت عالية كانت خيبة الأمل عميقة جدًا.
وفي ديسمبر 2010، بدأت الانتفاضة في تونس وانتشرت بسرعة من بلد إلى آخر في ثورات ضد الحكام الاستبداديين الذين شغلوا مناصبهم لفترات طويلة. وأصبح ذلك ما يعرف باسم الربيع العربي، ولكن بالنسبة إلى أولئك الذين نزلوا إلى الشوارع، كانت الدعوة لهذه المظاهرات هي “ثورة”. كانت الانتفاضات تهدد بأكثر من مجرد إزاحة الحكام المستبدين. كانت في جوهرها مطلبًا جماهيريًا من قبل العامة بتحسين الحكم والاقتصاد، وسيادة القانون، وحقوق أكبر، والأهم من ذلك كله، أن يكون لهم رأي في كيفية إدارة بلدانهم.
لفترة أعقبت عام 2011، بدا الاندفاع نحو تلك الأحلام لا رجوع فيه. والآن صارت هذه الأحلام أبعد من أي وقت مضى. خاصة بعدما جاء كوفيد – 19.
وقال ما يقرب من ثلثي الأشخاص (64 في المئة) الذين تمت مقابلتهم في استطلاع الشباب العربي لعام 2022، إنهم يعتقدون أن الديمقراطية لن تتوافق مع المنطقة.
قد يشير تقييم موجز للتحديات التي تواجه العراق ولبنان والأردن وفلسطين وسوريا إلى سبب شعور مواطنيها الشباب تجاه الديمقراطية. يمر لبنان حاليًا بمخاض أسوأ أزمة اقتصادية له في التاريخ، العراق معلق في مأزق سياسي، بينما تستمر سوريا في مواجهة آثار الحرب الأهلية. تقول دائرة الإحصاءات العامة في الأردن إن معدل البطالة في الأردن يبلغ حاليًا 22.6 في المئة.
ويعتبر هذا الاستطلاع، الذي يصدر هذا العام في نسخته السنوية الرابعة عشرة، المسح الأشمل من نوعه للشريحة السكانية الأكبر في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والتي تضم أكثر من 200 مليون شاب وشابة.
رغم ذلك، يبدي الشباب العربي أعلى مستوى من التفاؤل خلال خمس سنوات، حيث يقول 64 في المئة منهم إن أيامهم القادمة أفضل (87 في المئة في دول مجلس التعاون الخليجي، و61 في المئة في دول شمال أفريقيا، و45 في المئة في دول شرق المتوسط). ويرى أكثر من نصف الشباب العربي (54 في المئة) أنهم سيحظون بحياة أفضل من آبائهم، ويؤيد هذا الرأي ما يزيد قليلاً عن ثلث شباب شرق المتوسط. بيد أن تداعيات الحرب في أوكرانيا والظروف الاقتصادية العالمية المعاكسة قد تؤثر بطبيعة الحال على تفاؤل الشباب العربي بهذا الخصوص.
وقالت إيمي هوثورن من “مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط”، وهي مؤسسة فكرية مقرها واشنطن إنه في العديد من الدول العربية، لا توجد وسيلة لتحسين الظروف الاقتصادية، وخلق وظائف جيدة وتحسين الرعاية الصحية دون جعل الحكومات أكثر عرضة للمساءلة.
وقالت “سواء استخدمنا كلمة ديمقراطية أم لا، فإن مكونات الحكم هذه لا تزال مطلوبة على نطاق واسع، وفي الواقع حلمنا بها على نطاق واسع في جميع أنحاء العالم العربي”.
وقالت ناتاشا ريدج، المديرة التنفيذية لمؤسسة الشيخ سعود بن صقر القاسمي لبحوث السياسات، إنه من المنطقي للغاية أن ترتدع فكرة الديمقراطية لدى الشباب العربي، بعد أن شهدت محاولات لفشلها في دول المنطقة. وقالت “بالنظر إلى ما مروا به بسبب الديمقراطية، يمكنني أن أفهم تمامًا أن الشباب يفضلون في الواقع نظامًا أكثر استقرارًا”.
وأشارت دونا إمبيراتو، الرئيس التنفيذي العالمي لشركة “بي سي دبليو”، إلى أن نتائج استطلاع أصداء بي سي دبليو الرابع عشر لرأي الشباب العربي يسلط الضوء على الديناميكيات المتغيرة للعالم العربي. وقالت في هذا السياق “مرة أخرى، يوفر الاستطلاع رصيداً غنياً من البيانات لصناع القرار والشركات والمعنيين الذين يسعون إلى فهم أفضل لآمال ومواقف وتطلعات الشريحة السكانية الأكبر في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا”.
وأضافت إمبيراتو “مع أن استطلاع هذا العام يرسم الصورة الأكثر غموضاً عن الشباب العربي بين جميع نسخه الأربع عشرة، إلا أن بعض خصائص ما يمكن تسميته ’جيل الربيع العربي‘ تبدو واضحة للعيان. فهم يتشاركون جميعاً نفس الإيمان والخلفيات والمطالبة بفرصة عادلة للنجاح”.
تعاني جميع بلدان الشرق الأوسط الكبير تقريبًا من الفساد وفشل الحكم، ومن الفشل في تحديث اقتصادها وانفتاحه، ومن الضغط السكاني والمشاكل الحادة في التعامل مع “تضخم الشباب” ونقص الوظائف. إن التجاوزات الاستبدادية وانتهاكات حقوق الإنسان هي القاعدة وليست الاستثناء. التفاوتات الكبيرة في توزيع الدخل والعقيدة والعرق كلها شائعة جدا.
ربما أصبح اليوم السخط الذي أفضى إلى تحولات هائلة قبل عقد من الزمان أقوى من أي وقت مضى. فالآفاق مسدودة في وجه الشباب، والفرص أمامهم منعدمة. ولتجنب إهدار عقد آخر من الزمان، يتعين على حكومات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أن تصلح العقد الاجتماعي القديم والمتهالك، وأن يعاد النظر في الدور الحقيقي للدولة التي تلعب حتى الآن ومع الأسف دورا مكبِّلا وهدّاما للاقتصاد.
بحسب المعطيات الديموغرافية الحالية، تحتاج منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى توفير 300 مليون فرصة عمل جديدة بحلول عام 2050. وهو مدى بعيد قريب، بحُكمِ التحدّي المهول الذي يواجهه أصحاب القرار؛ فطبقاً لتقديرات البنك الدولي، يتعين على بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا – عاجلا وليس آجلا – البدء في خلق 800 ألف فرصة عمل شهرياً فقط لمواكبة الأعداد المتزايدة من الساعين لدخول سوق العمل.
لا حكومات المنطقة يمكنها توفير هذه الملايين من الوظائف الجديدة، ولا القطاع العام يستطيع استيعاب تلك الطاقات الشابة. الحل الوحيد يكمن في إنعاش الاقتصاد لاستيعاب تلك الفئة من الشباب من خلال فتح المزيد من الأبواب أمام القطاع الخاص وترسيخ الشفافية، والمساءلة، والحوكمة في إدارة الشأن العام بالإضافة إلى تعزيز اضطلاع الحكومة بدورها باعتبارها جهة تنظيمية تراعي مبدأ تكافؤ الفرص.
لكن هناك تحديات أخرى كبيرة تواجه المنطقة على كافة المستويات التعليمية والصحية والاجتماعية. فقطاع التعليم، في الكثير من أنحاء المنطقة، لا يزال حبيس المناهج القديمة وأساليب التدريس البالية. وبينما كشفت جائحة فايروس كورونا وبشكل مؤلم، مكامن الضعف في الأنظمة الصحية، فإن برامج الحماية الاجتماعية هي الأخرى آخذة في التصدّع. وبحسب آخر تقرير لمؤشر رأس المال البشري الصادر عن البنك الدولي فإن الأطفال المولودين اليوم في المنطقة ستكون إنتاجيتهم أقل من النصف (57 في المئة) مما كان بإمكانهم تحقيقه لو استفادوا من خدمات تعليمية وصحية متكاملة.
ومما لا شك فيه، لا يوجد “شارع عربي” واحد فقط، بل العديد من “الشوارع العربية” المختلفة في بلدان مختلفة، أو حتى داخل دولة عربية واحدة. يمكن إيجاد بعض الاستثناءات المشرقة لهذا الشتاء العربي العام من السخط. ومع ذلك، فإن الصورة العامة تقدم استنتاجات صارخة مفادها أنه اليوم، بدلاً من السعي لتغيير العالم، يُظهر معظم العرب (خاصة جيل الشباب) أن مجرد تحسين حالتهم المادية سيكون كافياً. غالبًا ما يعطون الأولوية لإدراك الذات على المصالح الجماعية، كما لو كانت مستوحاة من الحساسية الفردية المتطرفة السائدة الآن في جميع أنحاء العالم.
العرب