اياد العناز
رسمت الأحداث التي شهدها الميدان السوري بعد الثامن من كانون الأول 2024 ودخول مقاتلي هيئة تحرير الشام والفصائل المتجحفلة معها العاصمة السورية (دمشق) وتمكنهم من السيطرة على الأوضاع الميدانية فيها وإعلانهم عن تشكيل الحكومة الانتقالية وفرار بشار الأسد إلى حلفائه الروس، عن العديد من المتغيرات السياسية وطبيعة التعامل مع مستجدات الوضع العام في البلاد، ووضع الأسس لقيادة جديدة وأدوات وسائل فاعلة تتجه نحو تحقيق التغيير والإصلاح الاجتماعي والاقتصادي، وتحديد مسارات الحياة القادمة في سوريا.
كان من أهم المواضيع التي اهتمت بها الأوساط الدولية، الوجود العسكري الروسي وامتداده على الأرض السورية ونشر قواته ومعداته المتطورة من الأسلحة والمدافع ومنظومات الدفاع الجوي والطائرات المقاتلة والسفن والفرقاطات البحرية عبر التواجد الذي سمح به النظام السوري السابق في قاعدة (حميميم) وميناء طرطوس البحري، وما هي الإجراءات التي ستقوم بها الإدارة الانتقالية الجديدة، وكيفية التعامل مع هذا الكم الكبير من التواجد العسكري ومدى إمكانية بقائه أو البحث حول مستقبل القوات الروسية التي ساهمت ومنذ سنة 2015 في دعم ومساندة النظام الأسدي، واستمرار بقائه والمشاركة في التصدي لنشاط وفعاليات المعارضة السورية باستخدامها القصف الجوي والمدفعي للأماكن التي كانت تحت سيطرتهم.
جاءت الاستجابة الروسية للطلب الإيراني بالتعاون المشترك في الميدان السوري خلال الزيارتين التي قام بهما قاسم سليماني قائد فيلق القدس الإيراني السابق إلى موسكو منتصف سنة 2015 ولقائه المباشر مع الرئيس فلاديمير بوتين، وعرضه لآليات الدعم السياسي والعسكري والتعاون بين موسكو وطهران في إعادة الأوضاع الميدانية بسوريا إلى سنواتها السابقة التي شهدت انطلاق الثورة السورية ضد النظام السوري في الخامس عشر من آذار 2011 والتقدم الكبير لمقاتلي فصائل المعارضة السورية المسلحة وسيطرتها على العديد من المدن الرئيسة والمهمة في البلاد، وبدأت تستهدف النظام في عقر داره بالعاصمة (دمشق).
كانت روسيا حينها في أوج إمكانياتها العسكرية وتوسع علاقتها الاقتصادية وتأثيرها السياسي على مجمل الأحداث والأزمات في المحيط الدولي والإقليمي، ورأت أن وجودها في سوريا سيحقق لها رغبتها وغايتها بأن تكون قريبة من سواحل البحر الأبيض المتوسط والذي يشكل لها أهمية جيو سياسية عبر تواجدها في منطقة مهمة تشكل عصب الحياة الاقتصادية والتجارة العالمية بالشرق الأوسط والوطن العربي، فشرعت بإرسال مستشاريها وقواتها من جميع الصنوف القتالية والميدانية إلى داخل الأراضي السورية، أمام مرأى ومسمع الدول الكبرى والأوروبية، في وقت كانت القوات التركية تهيمن على الشمال والشمال الشرقي من الأراضي السورية، وتساهم في تقديم الدعم اللوجستي لمقاتلي الجيش الحر وباقي فصائل المعارضة، مع وجود قوات أميركية في مناطق دير الزور والبوكمال وبجانب الحدود المشتركة بين العراق وسوريا، إضافة إلى التمدد والنفوذ الإيراني الذي اجتاح الأراضي السورية واعتمد منهج وسلوك يخدم أهداف مشروعه السياسي الإقليمي في المنطقة.
أمام هذه الوقائع الميدانية والتواجد الدولي والإقليمي لدول عديدة على الأرض السورية، كانت فعالية المعارضة المسلحة تشتد وتتوسع، ولكن الإمكانية التي حظيت بها لم تكن تتوافق والعمليات العسكرية والقصف الجوي المستمر من قبل القوات الروسية والدعم الميداني الذي تقدمة المليشيات المسلحة المرتبطة بقيادة فيلق القدس والحرس الثوري الإيراني في التصدي لجميع النشاطات والفعاليات القتالية لمقاتلي المعارضة السورية في البلاد، مما شكل انعطافة ميدانية أدت إلى إيجاد نوع من الاتفاقيات السياسية التي رعتها اجتماعات (أستانا) بحضور روسيا وتركيا وإيران وممثلين عن الائتلاف السوري المعارض، وبعض من مسؤولي النظام الأسدي، ووضع آليات عملية في تحديد مدينة (إدلب) السورية، لتكون مكانًا لوجود مقاتلي المعارضة السورية، ولكن النظام السوري السابق وأدواته العسكرية والأمنية والمليشيات الإيرانية لم تلتزم بمقررات اجتماعات (أستانا) واستمرت في قصف مدينة إدلب وضواحيها وريف حلب، مستهدفة قيادات ومقاتلي المعارضة، واستمرت العمليات الميدانية إلى يوم 27 تشرين الثاني 2024 عندما قررت القيادات العسكرية في هيئة تحرير الشام والفصائل المسلحة معها، التقدم نحو مدينة حلب والسيطرة عليها ثم التوجه نحو مدينة حماة ودمشق وانتهت بعد استسلام النظام الأسدي وقواته العسكرية والأمنية وهروب قياداتها وسيطرة مقاتلي المعارضة السورية على الأوضاع العامة في البلاد.
أمام هذه التطورات الميدانية سعت القيادة الروسية إلى دراسة عملية ورؤية استباقية لحماية مصالحها في المنطقة العربية، والتوجه نحو الغرب باتجاه سواحل البحر الأبيض المتوسط في الشمال الإفريقي، وبدأت تعد العدة للانسحاب المنظم من الأراضي السورية وجعلت وجهتها (ليبيا) عبر نقلها لمعدات عسكرية كبيرة متطورة من قاعدة (حميميم) نحو مدينتي (طبرق وبنغازي)، والتي سبق وأن هيأت له في عملية تطوير لمنشأتها العسكرية وزيادة أسلحتها في ثلاث قواعد جوية (براك الشاطئ والجفرة والقرضابية) في ليبيا عام 2024، وطورت مهبط الطائرات في قاعدة (براك الشاطئ) للاستفادة منه في خدماتها اللوجستية تجاه العمق الاستراتيجي لباقي الدول المتحالفة معها في قارة إفريقيا.
إن القيادة الروسية تدرك أن الموقع الجغرافي المهم للقطر العربي الليبي يشكل دعامة أساسية لمصالحها والبوابة الرئيسة نحو إفريقيا والتي تتلازم مع الأهداف والغايات الروسية في الهيمنة والسيطرة على القرن الإفريقي، وما آلت إليه الأوضاع والمتغيرات السياسية في دول (النيجر ومالي وبوركينا فاسو) بعد الانسحاب الفرنسي والذي أدى إلى عودة ميمونة للتواجد العسكري والدعم السياسي والاقتصادي الروسي لهذه الدول.
ونظرة سريعة للتواجد الروسي في القارة الأفريقية َالذي بدأ منذ سنة 2019 عبر تمدد (قوات فاغنر) وتزايدت تأثيراتها منذ بداية 2024، بتواجد (1800) عسكري من القوات الروسية على الأراضي الليبية بأسلحة متنوعة ومركبات نقل ومدرعات ومدافع هاون، واتخذت من مدينة (طبرق) الشرقية ذات الأهمية الاقتصادية والأمنية موقعًا استراتيجيًا لتحركاتها مع سعيها إلى تطوير منصة بحرية في ميناء طبرق لتطل فيه على سواحل البحر الأبيض المتوسط، وأهمية ميناء طبرق أنه يقع على بعد 175 ميلا فقط جنوب جزيرة كريت اليونانية، وهي مسافة قصيرة يمكن استخدامها من قبل الروس في عملية التأثير على أوروبا بزيادة عمليات تدفق هجرة الأفارقة إليها، حيث يمتد الساحل الليبي إلى (1100) ميل مقابل دول الاتحاد الأوروبي، ويعتبر الساحل الأطول للشمال الإفريقي، كما وأن القوات الروسية يمكن لها أن تهدد بصواريخ (كاليبر) أي هدف في القارة الأوروبية وتحديدًا الجناح الجنوبي لحلف شمال الأطلسي “الناتو”.
وعملت روسيا على استكمال تواجدها العسكري وتأثيراتها الميدانية في المشهد السياسي الليبي لمعرفتها ودراستها للمصالح الدولية والإقليمية فيه، فهناك أطراف عربية تشترك في تحديد المسار المستقبلي اللازمة للسياسة الليبية، ومحاولة احتواء الصراعات والخلافات السياسية بين جميع الأطراف والأذرع الليبية وتنشط (الجزائر ومصر والإمارات العربية المتحدة وقطر وفرنسا وإيطاليا والولايات المتحدة وتركيا) في الميدان الليبي وفق مصالحها ومحاولة تحقيق اتفاق سياسي يرضى جميع الأطراف وينهي محنة أبناء الشعب الليبي، وتلعب روسيا دورًا مضافًا في تقريب وجهات النظر بما يضمن مصالحها ودورها الذي ترى فيه نقطة التقاء يحقق عملية تقارب بين جميع أطراف الأزمة الليبية.
تعتمد استراتيجية الأمن القومي الروسي على تحديد ثوابت دائمة تخدم المصالح العليا والسياسة الخارجية التي يعتمدها الكرملين في تحديد الأهداف والغايات من التواجد الميداني العسكري في أي بقعة من العالم وشركاء وحلفاء أساسين، وهذا ما استطاع تحقيقه في الميدان الليبي بدعمه للجنرال خليفة حفتر وتعزيز العلاقة معه بإسناده وتعزيز موقعه وتأثيره في أي تبعيات ميدانية تتعلق بمستقبل ليبيا العسكري.
تمثل الدعم السياسي الليبي للقائد حفتر بلقائه مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أيلول 2024 وتحقيق عدة لقاءات مع نائب وزير الدفاع الروسي يونس بك يفكورف في مدينة بنغازي الليبية والتي تمثل المعقل الرئيس لقوات الجيش الوطني الليبي بقيادة حفتر، وأثمرت هذه اللقاءات عن تعزيز التواجد الروسي في المناطق التي تقع تحت سيطرة الجيش الوطني في مناطق (سرت وطبرق وبنغازي) والقيام بشحن معدات متقدمة من رادارات لأنظمة الدفاع الجوي (إس – 400) و(إس-300) من سوريا إلى القواعد العسكرية في الشرق الليبي التي تسيطر عليها قوات حفتر، مع استمرار عمليات النقل الجوي باستخدام طائرات النقل الروسية العملاقة نوع (أنتوف 124-AN) (وإليوشن 76-IL) والتي ابتدأت من 15 كانون الأول 2024 بعد الأحداث السورية وسقوط النظام الحاكم فيها، وقامت بنقل العديد من المعدات والأسلحة الثقيلة وأنظمة دفاع جوي متطورة من قاعدة حميميم الجوية في سوريا إلى قاعدة الخادم قرب مدينة بنغازي شرقي ليبيا.
وتشكل مدينة بنغازي أهمية كبيرة في الأهداف والمصالح الروسية، فهي ثاني أكبر مدينة ليبية ومينائها البحري من أهم الموانئ في حركة التجارة الليبية وفيها منطقة اقتصادية حرة تقع بميناء المريسة جنوب المدينة، وتمتلك مطار بنينا الدولي الذي يعتبر من أهم المطارات المدنية ومتوقف عن العمل الآن بسبب العمليات العسكرية.
أثارت التحركات الروسية قلق وانتباه حلف شمال الأطلسي عبر التصريح الذي أدلى به وزير الدفاع الإيطالي (جيدو كروسيتو) لصحيفة لاريبوبليكا بأن (السفن والغواصات الروسية في البحر الأبيض المتوسط تشكل مصدر قلق دائم، خاصة إذا كانت على مقربة منا بدلًا من أن تكون على بعد ألف كيلومتر).
وتعمل روسيا على دراسة موقعية مهمة لنشر سفن بحرية في سواحل مدينة طبرق وهي خطوة إن تحققت فستكون بداية لقاعدة للسفن البحرية في البحر الأبيض المتوسط وهو أمر محوري واستراتيجي للقيادة العسكرية الروسية مع استمرار حربها مع أوكرانيا التي تمنع أسطول البحر الأسود من عبور مضيق البوسفور.
تمتلك روسيا المبادرة السياسية الفعلية في الميدان الليبي كما كانت في سوريا، وترى في اللواء خليفة حفتر شريكاً سياسيًا وعسكريًا يمكن التعويل عليه والذي افتقدته منذ زوال العقيد معمر القذافي الذي وافق على تواجد (11) ألف مستشار عسكري لمساعدة الجيش الليبي على استخدام السلاح الذي كان يرسله الاتحاد السوفيتي السابق للقوات المسلحة الليبية، في تعاون استمر للسنوات امتدت من 1973-1982.
وعملت القيادة العسكرية الروسية على دعم قوات الجيش الوطني الليبي في مواجهتها للجماعات الإسلامية المتواجدة في مدينة بنغازي وتمكنت من طردهم وبسط سيطرتها التامة على المدينة وضواحيها، واستخدمت روسيا قاعدة (الخادم) لسنوات عديدة لدعم خليفة حفتر الذي يسيطر على أجزاء واسعة من شرق ليبيا، ولاستمرار الدعم والمساندة فقد أقدم الروس على بناء مجمع آمن قرب القاعدة لتسهيل عملية تقديم الدعم العسكري للجيش الوطني الليبي وتسهيل انتقال المقاتلين والأفراد الروس العاملين في الدول الإفريقية المتحالفة مع روسيا.
ونال التعاون الروسي اهتمام وثقة الجنرال خليفة حفتر ورحب بالتواجد العسكري الروسي في ليبيا وجعل معسكر الرجمة وهو المقر الرئيس لقيادة قوات الجيش الوطني تحت تصرف القيادة الميدانية الروسية.
أصبحت ليبيا تشكل حالة متميزة في المنظومة العسكرية الروسية بإطلالتها على البحر الأبيض المتوسط وتحاددها الجغرافي مع العديد من الدول الإفريقية التي تشكل محطة انطلاق للروس في دعم الأنظمة السياسية الحاكمة في دول (مالي والنيجر وتشاد وبوركينا فاسو) باستخدام قاعدة (الجفرة) وسط ليبيا في نقل المواد والأدوات والذخائر العسكرية وما تحتاجه هذه الدول من أوجه المساعدات الميدانية عبر قيادات عسكرية روسية ترتبط بالكرملين مباشرة.
إن الأهداف الاستراتيجية الروسية في ليبيا تتمثل في إقامة نظام حاكم مؤيد لروسيا وداعم وشريك أساسي لها، والوصول إلى سواحل البحر الأبيض المتوسط وبسط نفوذها وتهديد المصالح العليا لدول حلف شمال الأطلسي، وإيجاد ميناء عميق يتيح رسو غواصات وسفن حربية كبيرة لها، وتعزيز الاستثمارات المالية، والتعاون الاقتصادي مع أبرز حلفائها في ليبيا الجنرال حفتر الذي تقع 90٪ من حقول النفط والغاز في المناطق التي يسيطر عليها ويمتلك من المنشآت وموانئ تصدير المحروقات ما تجعله الأكثر تأثيرًا في المشهد السياسي الليبي، إضافة إلى توطيد علاقتها مع مصر والإمارات التي لديها الاهتمام المشترك في ليبيا.
والروس يعملون على تدارك الموقف الذي يتحدث به عبد الحميد الدبيبة رئيس حكومة الوحدة الوطنية في منعه لنقل الأسلحة الروسية من سوريا إلى ليبيا ورفضه ان تتحول الأراضي الليبية ساحة لتصفية الحسابات الدولية، عبر التعامل مع حلفائهم في الداخل الليبي واستمرارهم في نقل أسلحتهم ومعداتهم من قاعدة طرطوس البحرية وحميميم الجوية السورية إلى قواعدهم المتمركزة في (الجفرة وطبرق وبراك الشاطئ والقرضابية).
إن الرؤية السياسية الروسية ماضية نحو جميع الاحتمالات التي قد تحصل في الميدان السوري والاحتمالات الواردة لمغادرة قواتها العسكرية من قاعدتي طرطوس وحميميم، خاصة بعد القرار الذي اتخذته الحكومة الانتقالية السورية الجديدة بإلغاء اتفاقية إدارة مرفأ طرطوس مع الشركة الروسية، والانفتاح الأوروبي نحو سوريا، ورفع العقوبات المتعلقة بقطاعي النقل والمواصلات عنها.
وحدة الدراسات الدولية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجة