البعد القومي في العلاقة التركية الإيرانية وامتدادها إلى آسيا الوسطى

البعد القومي في العلاقة التركية الإيرانية وامتدادها إلى آسيا الوسطى

اياد العناز

تتشابك الأحداث وتتسع مساحة الصراعات السياسية والعسكرية في منطقة الشرق الأوسط ذات الأبعاد الاستراتيجية والمصالح الدولية والإقليمية وتمتد إلى مسافات بعيدة وتعبر حدود جغرافية لعواصم دول عديدة، والتي أصبحت تشكل حالة ميدانية لها وقعها وتأثيراتها على مجمل الأوضاع التي من الممكن أن تشهدها شعوب هذه المنطقة وتنعكس بشكل واضح على مستقبل وجودها.
اخذت هذه الأبعاد بالتوسع والتمدد بعد سقوط النظام الاسدي في الثامن من كانون الأول 2024 بحكم طبيعة التواجد العسكري لأطراف دولية ترتبط معها فصائل مسلحة وميليشيات مقاتلة تتلقى جميع انواع الدعم المالي والاعداد والتدريب البدني للقيام بمهامها الميدانية وفق المنظور الموكل إليها.
واذا ما استعرضنا بشكل دقيق أولويات المشهد العام، فإننا سنبدأ بملامح السياسة التركية التي اخذت ابعادًا استراتيجية مهمة مثلت الرؤية الميدانية والمستقبلية لطبيعة التعامل التركي مع القضايا الاقليمية في منطقتنا العربية بحكم المتغيرات السياسية التي بدأت تأخذ مدياتها العامة في الميدان السوري ومنها ما يتعلق بوجود قوات سوريا الديمقراطية التي ترى المؤسسات الأمنية والعسكرية التركية أنها تؤثر على أمنها القومي وطبيعة العلاقة التي تربطها مع حزب العمال التركي، كونها بدأت تتقدم وبشكل متوالي متخذة لها أماكن ومواقع استراتيجية في الشمال والشمال الشرقي السوري بهدف انشاء إقليم كردي بالقرب من الحدود السورية التركية المشتركة وهو ما يتعارض والسياسة التركية ويهدد مصالحها وأهدافها في مواجهة الأحزاب الكردية التي تتخذ من الأراضي السورية منطلقًا للقيام بهجمات عسكرية ضد القوات والأجهزة الأمنية التركية في جنوب شرق تركيا وداخل المدن الرئيسية المهمة وتحديدًا حزب العمال والمسميات العاملة معه.
وهي السياسية التي اتبعتها السلطات التركية بضرورة استكمال العمليات العسكرية للقوات التركية داخل العمق العراقي ومتابعة حركة وتواجد عناصر حزب العمال في قضاء سنجار الواقع شمال محافظة نينوى والذي أصبح ملاذا أمنا لمقرات الحزب ومقاتليه التي أستغلت الظروف التي أحاطت بهذه المنطقة الاستراتيجية أثناء المعارك التي واجهت فيها القوات العسكرية العراقية فلول داعش نهاية عام 2016 وتمكنت من استكمال أهدافها في السيطرة على مركز قضاء سنجار والقرى المحيطة به بالتعاون مع الحشد اليزيدي التابع لقيادات الحشد الشعبي، وبدأت بتدريب وإعداد مقاتليها في معسكرات خاصة في محيط قضاء سنجار.
وأخذت السلطات التركية بتنفيذ سياستها على الأرض العراقية التصدي لعناصر حزب العمال التركي وايقاع الخسائر بهم ومنعهم من القيام بعمليات تستهدف العمق التركي، وتوحيد رؤيتها في إيجاد سياسة واقعية على الميدان السوري تمتد حيث الأرض العراقية لتعزيز دورها وتأثيرها قي في الصراع السياسي والعسكري في هذين البلدين بما يحافظ على مصالحها وأهدافها،واستمرارها في ملاحقة حزب العمال أينما وجد وضرب مواقعها، واعتبار
الشريط الحدودي المشترك بين سوريا وتركيا وأمتداداته للعراق منطقة عازلة بيد القوات التركية لمنع عناصر حزب العمال من القيام بهجمات وفعاليات قتالية تهدد أمن وسلامة أراضيها.
تمكنت القوات التركية
من تنفيذ عمليات عسكرية عبر الحدود لمواجهة الهجمات القادمة من حزب العمال الكردستاني (PKK) ووحدات حماية الشعب الكردية (YPG)، واقامت مناطق آمنة في جرابلس، عزاز، عفرين، والباب بموجب اتفاقيات أستانا وسوتشي.
تهتم تركيا بمنطقة القامشلي في محافظة الحسكة شمال شرقي سوريا والمحاذية لمدينة نصيبين بولاية ماردين التركية، كونها امتداد لوجستي لأعمال قوات سوريا الديمقراطية ووحدات الحماية الكردية التابعة لها، وتم استهداف معداتها من صواريخ وأسلحة ثقيلة ومستودعات الذخيرة حصلت عليها من مخلفات جيش النظام السابق، إضافة إلى سيطرتها على حقول النفط ( تشرين والعودة) التي يصل إنتاجها إلى (15) ألف برميل يومياً، والتي تحظى بحماية من القوات الامريكية في البلدات القريبة من حقول الطاقة.
وتستمر السياسة التركية في أبعاد أي تأثير يهدد أمنها القومي في منطقة أكثر أهمية من حدودها المشتركة مع سوريا والعراق، وتتمثل
تمثل بالدعم التركي والمساندة العسكرية لحكومة أذربيجان في صراعها مع أرمينيا التي تعتبر حليف استراتيجي لإيران، وتدخلت المصالح الروسية بين هذه الدول لتحافظ على فسحة من المصالح الاقتصادية والجيوسياسية في جنوب القوقاز ولابقاء حالة التأثير الذي تلعبه في منطقة حيوية في آسيا الوسطى وحدودها المتاخمة لدول المنطقة.
وتمكنت أذربيجان من السيطرة على (ممر لاتشين) الذي يسمح للأرمن بالتنقل بين إقليم قره باغ الذي أصبح جزءًا من الأراضي الأذربيجانية، وحملت أرمينيا روسيا ما حدث في الإقليم نتيجة عدم تدخلها المباشر مع الحكومة الأذرية ولم تستطيع وقف الزحف العسكري والقتال الذي انتهى بسيطرتها على قره باغ، والذي أحدث تأثير كبير على مناطق محيطة بجنوب القوقاز، وأدت
العملية العسكرية في قره باغ إلى تكريس وضع جديد وواقع جيو سياسي كان له تأثير كبير على مناطق محيطة بجنوب القوقاز، فأصبحت أهمية أذربيجان إقتصادية وسياسية وإقليمية وعقدة مواصلات وربط اساسي لطرق التجارة والعبور ونقل المواد الخام، ساهمت في توسع النفوذ التركي وحضور مؤثر لإسرائيل وتأثير دولي للولايات المتحدة الأمريكية في مقابل تراجع النفوذ الروسي والإيراني.
دعمت أنقرة هذا الحدث ووجدت فيه مصلحة قومية عليا لها عبر اهتمامها بالممر الرئيسي ( زانغزور) الذي يربط باكو بأنقرة وحصولها على الغاز الطبيعي والنفط الخام من أذربيجان، في المقابل تقدم تركيا الدعم العسكري والسياسي في صراعها ضد أرمينيا.
أما إيران فانها ترى أن العملية العسكرية هددت أمنها القومي ومشروعها السياسي الإقليمي وأن باكو وتل أبيب وأنقرة يسعون إلى قطع الطريق الرئيسي بينها وبين أرمينيا باتجاه أوربا وجعلها ضمن معضلة جيو سياسية.
هذه الأحداث والوقائع من الممكن أن تؤثر على العلاقة بين تركيا وإيران وما يربطهما من مصالح مشتركة، ويكون وقعها أكثر حضوراً في الداخل الإيراني، فهناك الخاصرة الإيرانية التي تشكلها مدينة ( أرومية) التابعة لمحافظة أذربيجان الغربية والتي يتكلم سكانها اللغة التركية، و أكرادها يتحدثون اللهجة الكرمانجية.
وتعتبر أرومية من أقدم المدن الإيرانية، وتسكن الاقلية الأذرية أقصى الشمال بمحاذاة بحر قزوين بالتحادد مع أذربيجان، وهذا ما يثير حفيظة إيران كونها ترى في دولة أذربيجان قاعدة متقدمة للموساد الإسرائيلي بالتجسس عليها، ثم هناك مدينة تبريز أحد اهم المدن الآذرية في إيران وعاصمة محافظة أذربيجان الشرقية،وذو أهمية اقتصادية كبرى، تشتهر بأعمالها التجارية والصناعية وبقطاع المواصلات وصناعة البتروكيماويات وتجميع السيارات،
ثم مدينة أردبيل التي تقع شمال غرب إيران بالقرب من جمهورية أذربيجان،والتي تتكلم اللهجة الأذربيجانية.
تطور الأحداث الميدانية جعل إيران تخشى من فكرة أحياء القومية التركية التي خيمت على العلاقة بين باكو وطهران خلال عقود من الزمن وما حصل من تصاعد للنفوذين التركي والأذري في جنوب القوقاز ووجود ما يقارب (25) مليون شخص ناطقين باللغتين التركية والأذرية في المنطقة الشمالية الغربية من إيران والتي تعرف بأذربيجان الإيرانية، مع تحريض للحركات القومية العرقية بين الأذريين الإيرانيين بالتزامن مع التصعيد في السياسات القومية التركية.
وجاء الهاجس الإيراني لتؤكده الأحداث التي جرت في 15 أيلول 2022 والتي خرجت فيها مدن ( تبريز وأورمية وأردبيل) مناهضة للحكومة الإيرانية، ومؤيدة للاحتجاجات والتظاهرات الشعبية التي عمت البلاد.
وأذربيجان كدولة لا تؤيد إيران في طروحاتها واهتماماتها المذهبية، بل هناك تحفظ من قبلها من تصدير نموذج الثورة الإسلامية إلى داخلها، كما وان طهران لها مخاوف من أن تتصاعد حدة الغضب الشعبي لدى أبناء القومية الأذربيجانية بسبب الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تجتاج المجتمع الإيراني.
ولهذا فإن السياسة الإيرانية سعت إلى حالة من التوازن في بناء وتحسين علاقتها مع أرمينيا وتعزيز مكانها جنوب القوقاز، بعد أن شهدت المنطقة بروز للدور التركي وعلاقات وثيقة في كافة المجالات مع أذربيجان وتزويدها بالأسلحة الثقيلة والمعدات الحديثة، وتوجسها من محاولة الأتراك التواصل مع سكان شمال إيران من الأذريين، ومساهمتها في ( مبادرة الممر الشرقي الغربي الأوسط عبر بحر قزوين) بربط تركيا بالقوقاز عبر جورجيا وأذربيجان ثم عبر امتداده نحو بحر قزوين بآسيا الوسطى والصين، ولاقى تأييدًا ودعمًا اوربيًا لانه يتجاوز الصين وروسيا.
ترى إيران أن فتح معبر زنغزور لا يعزز النفوذ التركي في المنطقة فحسب، بل يعزز من نفوذ الولايات المتحدة وإسرائيل والاتحاد الأوروبي، إذ يعتبر الاتحاد الأوروبي أذربيجان شريكاً استراتيجياً له في جعل أوروبا أقل اعتماداً على موارد الطاقة الروسية،
وإيران لا تريد السماح لأنقرة بزيادة نفوذها في المنطقة الواقعة شمالها، ولا تريد نجاح مشاريع الغاز والبترول التي تمر من الأراضي التركية إلى السوق الدولية لعدة أسباب، منها انها تريد أن تكون هي دولة العبور لصادرات أذربيجان وتركمانستان وأوزباكستان من أجل الاستفادة من عائدات المرور كما هو الحال في خط أنابيب أسسته أذربيجان وهو خط باكو-أستارا، وبعد الحرب مع أرمينيا وقعت أذربيجان اتفاقية تبادل مع إيران لتصدير الغاز إلى ناختشيفان عبر الأراضي الإيرانية.
تبقى تركيا وإيران قوتان إقليميتان لهما نقاط ومراكز نفوذ على بعض الدول في منطقة الشرق الأوسط ووسط آسيا، وكلا الدولتين تتصارعان على حماية وتوسيع مناطق نفوذهما، من خلال أدواتهما الفاعلة. ويدور الصراع في السنوات الأخيرة حول بناء النفوذ في (أذربيجان، أرمينيا، جورجيا، كازاخستان، قيرغيزستان، أوزبكستان، طاجكستان، تركمانستان)، حيث غالبيةُ سكان هذه الدول من القومية التركية. ولهذه الدول أهمية اقتصادية لامتلاكهم احتياطيات ضخمة من الغاز والبترول وبخاصة أذربيجان وتركمانستان، إلا أن الدول المشار إليها تعتبر دولاً حبيسة لا تمتلك منافذ بحرية، وهي مضطرة للاعتماد على الدول المجاورة لتصدير واستيراد سلعها عبر روسيا وبدرجة أقل عبر إيران وجورجيا.

وحدة الدراسات الإيرانية 

مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجة