الإدارة الانتقالية … الشرعية الثورية وقيادة الدولة

الإدارة الانتقالية … الشرعية الثورية وقيادة الدولة

اياد العناز 

جاءت الأحداث الأخيرة في الميدان السوري لتحدد مسارًا جديدًا وفصلًا من تاريخ ابناء الشعب السوري وتلقي الضوء على متغيرات عديدة وتباينات ميدانية على الأرض ترسم فيها ملامح القادم من الأحداث والمستقبل الذي ينتظر منطقة الشرق الأوسط.
تمكنت فصائل المعارضة السورية من إحكام قوتها وقدرتها في الدخول إلى العاصمة (دمشق) في صبيحة اليوم الثامن من كانون الأول 2024 لتعلن سقوط النظام الاسدي وتشكيل إدارة انتقالية بحكومة كاملة اخذت على عاتقها تحقيق أهداف وطموحات المواطنين السوريين في حياة حرة كريمة ومستقبل زاهر واعد بالتغيير والإصلاح والبناء والإعمار.
وأتت الوقائع متوالية بعقد مؤتمر النصر الذي كلف السيد احمد الشرع بقيادة المرحلة الانتقالية وإعداد البرامج السياسية والاقتصادية والبدء بعملية إعادة الوجه الناصع والدور الريادي لسوريا العربية.
نظر الجميع إلى حالة التغيير السياسي ومدى فعالية الدور الذي يتحقق في عملية إعادة ترتيب البيت السياسي السوري وكيفية التعامل مع المخلفات والإرهاصات والأزمات التي تركها النظام السابق وكيفية مواجهتها والتغلب عليها وسط متغير سياسي وتطور ميداني وصراع تعيشه المنطقة وسط اختلال في التوازنات السياسية وبحث عن نظام إقليمي أمني يحمي المصالح الدولية.
كانت من أولى مهام الإدارة الانتقالية تحقيق حالة الأمن والاستقرار الداخلي ووضع الحلول لمعالجة الازمات الاجتماعية والاقتصادية التي يعاني منها المجتمع السوري ومحاولة إعادة التلاحم والنسيج المجتمعي المتماسك لأبناء الشعب بكافة قومياته وطوائفه وانتماءاته، والانطلاق نحو استعادة سوريا لدورها العربي وعلاقاتها مع اشقائها في الدول المجاورة وفي عموم أرجاء الوطن العربي والانفتاح نحو إدامة الاتصالات العربية والإقليمية والدولية مع رئيس الإدارة الانتقالية وبعض من وزراء الحكومة المشكلة لتحديد الأسس الرصينة في بناء البلاد والعمل على الإحاطة بكل مفاصل الدولة، فجاء الإعلان عن مؤتمر النصر الذي أكد على شرعية العمل الثوري وان الوقت قد حان لمغادرته والعمل على بناء الدولة وصيانة حقوق أبنائها وتعزيز جوانبها على جميع الاصعدة وصولاً إلى بناء سوريا الجديدة وإعادة هيكلية النظام السياسي بما يحفظ حقوق المواطنين ومفهوم العدالة الانتقالية وبناء المؤسسات الحكومية وإعادة الحياة لها.
إن القائمين على إدارة الدولة السورية يعلمون حقيقة الأمر بأن الشرعية الثورية إنما تستمد طاقتها وحضورها منذ اول ايام اندلاع الثورة السورية في 15 آذار 2011 وما تلاها من أحداث ومواجهات وتضحيات بشرية ومادية واعتقالات وقتل جماعي باستخدام البراميل المتفجرة والطائرات المقاتلة والأسلحة الكيماوية والتي ذهب ضحيتها الآلاف من أبناء الشعب السوري وهم يواجهون طغمة فاسدة ونظاما سياسيا ديكتاتوريا بشعا، ولهذا فهي سعت إلى تطمين المواطنين بإجراءاتها الإصلاحية ودعوتها لمشاركة جميع الفصائل المسلحة والشخصيات السياسية من المفكرين والإعلاميين وقادة الجيش الذين قاتلوا النظام الاسدي للمشاركة في بناء الدولة ومؤسساتها وإعادة الروح لها.
وجاء استقبال الشرع لرئيس هيئة التفاوض بدر جاموس ورئيس الائتلاف السوري هادي البحرة بتاريخ 11 شباط 2025، ليؤكد حقيقة الدوافع والتوجهات الوطنية للإدارة الانتقالية في سعيها لوحدة السوريين ومواجهة جميع التحديات التي تمر بها البلاد، وكان من ثمرة هذا اللقاء التوجيه بالاستفادة من الكوادر السياسية والإدارية والتقنية في هيئة التفاوض والائتلاف وإدماجها في مؤسسات الدولة بما يؤدي إلى توسيع مساحة البرامج والأنشطة الخدمية التي تقدم للشعب السوري.
الاتجاه الوطني للإدارة الانتقالية قائم على تنفيذ مقررات مؤتمر النصر وما جاء بكلمة التكليف الرئاسي بتشكيل حكومة انتقالية شاملة تمثل جميع السوريين وصياغة مشروع دستور جديد عبر اقتراع سري يشارك فيه جميع المواطنين وصولاً إلى انتخابات حرة على جميع المستويات.
هذه التوجهات السياسية والإجراءات الميدانية تحتاج إلى دعم وإسناد عربي إقليمي دولي في سبيل تحقيق السلام والاستقرار على الأرض السورية والاتفاق على رفع العقوبات الاقتصادية التي أقرتها المنظومة الدولية إبان حكم بشار الأسد، وحتى يتم هذا الأمر، على المجتمع الدولي التعاون مع الإدارة الانتقالية ودعم توجهاتها بإرسال المساعدات التي تخفف من معاناة السوريين وترفع عنهم الظلم والحيف الذي حل بهم نتيجة الأعمال والأفعال الإجرامية التي قام بها أركان النظام الاسدي، وتعزيز الاعتراف بالسيادة السورية وتقديم العون في التصدي لأي تهديد داخلي يقوض الإجراءات التنفيذية التي تسعى إليها الإدارة الانتقالية، في مواجهتها لعناصر داعش، ومواصلة التنسيق والحوار مع قوات سوريا الديمقراطية من أجل وحدة العمل وتوحيد الصف والتعاون من أجل تحقيق الاستقرار وحالة الاطمئنان وإعادة السكينة والثقة للمجتمع، والبدء بإيجاد وسائل وأدوات إيجابية لمعالجة وجود أكثر من تسعة آلاف مقاتل من تنظيمات داعش ونحو 40 ألف نازح يتواجدون في مخيمي الهول والروج في الشمال الشرقي السوري والذي تتم إدارتهما من قبل قوات سوريا الديمقراطية.
وقد تحقق الكثير من الدعم العربي والخليجي لقيادة الشرع وإدارته الانتقالية عبر الزيارات التي قام بها ووزرائه للعديد من العواصم العربية أو من خلال استقبالهم للضيوف والمسؤولين العرب في العاصمة السورية (دمشق)، وساهمت هذه اللقاءات في تحديد مسارات التعاون العربي وتقديم جميع المساعدات والدعم الاقتصادي والحث على تشجيع الاستثمارات والتبادل التجاري مع سوريا بعد التغيير السياسي فيها.
وأما على الجانب الإقليمي فوجود القيادة التركية ومساهمتها الميدانية الواضحة في تقديم الإسناد لهيئة تحرير الشام والفصائل المتحالفة معها منذ دخولها دمشق في الثامن من كانون الأول 2024، كان الفيصل الأساسي والدافع الرئيسي الذي أعطى صورة دائمة للتعاون في كافة المجالات والتي تمخض عنها زيارة أحمد الشرع ولقائه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في (أنقرة) مع توافد العديد من الوفود التركية وفي كافة المجالات لسوريا وإبداء التعاون وإرساء دعائم المحافظة على العلاقة التاريخية بين الدولتين، ووضع آليات عملية لعملية عودة أكثر من (3) ملايين من أبناء الشعب السوري المتواجدين على الأراضي التركية إلى بلدهم ومدنهم، ودراسة الخطط والبرامج العسكرية والأمنية لكيفية مواجهة مقاتلي حزب العمال التركي وإيقاف عملياته العسكرية داخل الأراضي التركية انطلاقًا من القواعد التي أنشأها بالتعاون مع قوات سوريا الديمقراطية في السنوات الماضية مستغلًا الأوضاع الميدانية الاستثنائية التي عاشتها الدولة السورية.
وتبقى المصالح الدولية متمثلة بالمواقف الأوروبية التي تباينت حول مدى تعاونها واعترافها بالإدارة الانتقالية الجديدة قائمة، وحصلت عدة اتصالات ولقاءات على مستوى الوزراء من قبل دول أوروبية عديدة (بريطانيا وفرنسا وألمانيا) والاتحاد الأوربي، وتم طرح المشاكل والمعوقات التي يعاني منها أبناء الشعب السوري الذين أجبروا على ترك بلادهم خوفًا من عمليات القتل والاعتقال والتهجير التي كانت تمارس عليهم من قبل الأجهزة الأمنية والعسكرية التابعة للنظام السوري والمليشيات المسلحة المرتبطة بالحرس الثوري الإيراني، وهنا على جميع قادة الاتحاد الأوروبي المساعدة في إيجاد الوسائل والأدوات النافعة التي تساهم وتساعد في عودة اللاجئين السوريين لبلدهم والمساهمة في بنائها وإعمارها، وعليهم عدم الربط في تقديم أي دعم أو التخفيف من معاناة الشعب السوري بمواقف تتعلق بالسياسة الخارجية للإدارة الانتقالية، ومنها التواجد العسكري الروسي الذي تم مناقشة كيفية التعامل معه بزيارة المبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى الشرق الأوسط وإفريقيا نائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف، التي تمت في 28 كانون ثاني 2025 ولقائه الشرع الذي سبق وان تحدث عن العلاقة الروسية السورية بالقول (إن سوريا لن تستطيع الانفكاك السريع عن روسيا لتمتعهما بعلاقات إستراتيجية قديمة)، وهذا ما ساهم في نجاح جانب من المباحثات التي جرت بين الطرفين والتي قال عنها رئيس الوفد الروسي (إن بلاده حريصة على وحدة واستقلال وسلامة الأراضي السورية وتحقيق الوفاق والسلم الاجتماعي في البلاد)، وعن مدى التعامل السوري حول بقاء القواعد العسكرية الروسية في طرطوس وحميميم فكان التصريح الرسمي لنائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف (إن بقاءهما يحتاج إلى مزيد من المفاوضات مع الإدارة السورية).
إن المواقف السياسية السورية تأخذ بنظر الاعتبار المصالح العليا والأهداف الاستراتيجية للشعب السوري التي تحقق له أهدافه وطموحاته في إعادة دوره الريادي العربي والدولي وتحسين علاقاته مع جميع دول العالم بما يحق الاستقرار السياسي والبناء الاقتصادي للبلاد، ومنها جاء قرار الإدارة الانتقالية بإعادة العلاقات مع أوكرانيا والحديث عن شراكة استراتيجية بين البلدين عند زيارة وزير الخارجية الاوكراني (أندريه سيبيغا) إلى دمشق في 30 كانون الأول 2024.
تبقى الإرادة السياسية والمواقف الجادة هي المحرك الأساسي للعلاقات التي تربط أي دولة تراعي مصالحها شعبها والحفاظ على كيانها واستقلالها السياسي والاقتصادي، وهذا ما تفعله الإدارة الانتقالية السورية في مجمل علاقتها بالمحيط الدولي والإقليمي والعربي.

وحدة الدراسات الإقليمية 

مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجة