الأحداث السياسية التي مر بها العراق خلال العقود التي تلت تأسيس الدولة في العام 1921، دفعت الآلاف من علمائه ونخبه إلى المغادرة؛ إما بحثا عن فرصة عمل أو لتفادي القتل والخطف والاعتقال.
وموجات هجرة العقول العراقية بشتى اختصاصاتها، بدأت محدودة خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، واتسعت خلال الحرب العراقية-الإيرانية (1980-1988)، مرورا بحرب الخليج الثانية العام 1991. غير أن أعداد المهاجرين تصاعدت بشكل لافت حتى بلغت ذروتها بعد احتلال العراق العام 2003.
وسجلت الأعوام التي تلت الغزو، وتحديدا خلال فترة العنف الطائفي 2005-2007، هجرة الآلاف من نخب العراق تفاديا لاستهدافها. وشهدت هذه السنوات مقتل واختطاف نحو عشرة آلاف من هذه النخب في اختصاصات الطب بكل فروعه، وأساتذة الجامعات، والعسكريين والدبلوماسيين والإعلاميين، ورجال وعلماء الدين.
وأدى هذا الاستهداف لهذه الشرائح التي كانت عمود هيكل الدولة العراقية وديمومة استمرارها، إلى مغادرة الكثير من أبنائها إلى دول الجوار العربي وأوروبا وأميركا وكندا وبريطانيا، بحثا عن ملاذ آمن ومستقر.
ووفقا لإحصاءات متطابقة، فقد بلغ عدد العراقيين، وضمنهم النخب والكفاءات والعلماء، الذين هاجروا إلى دول الشتات بعد غزو العراق نحو ثلاثة ملايين عراقي توزعوا على قارات العالم.
وما يزيد من مصاعب وإشكالية أوضاع الكفاءات والنخب العراقية المتواجدة في الخارج، حرمان أفرادها من حقوقهم المدنية وخاصة التقاعدية التي كفلتها القوانين العراقية، الأمر الذي دفع الآلاف منهم إلى العزوف عن تلبية دعوات السلطات العراقية العودة إلى الوطن.
هنا نتوقف عند حالة د. عبدالعزيز الدوري؛ مؤسس جامعة بغداد وأحد ألمع علماء العراق، الذي قدم خدمات جليلة للتعليم العالي في العراق. فقد توفي ولم يحصل على حقوقه وراتبه التقاعدي رغم تخرج آلاف السياسيين على يديه.
وأمثال الدوري يعدون بالآلاف، لاسيما بعض رموز المؤسسة العسكرية العراقية، الذين دافعوا عن العراق وعروبته. فضلا عن علماء بالمعرفة والفنون والآثار والعمارة التي تتعلق بتاريخ العراق القديم والحديث.
ورغم أن أقران النخب والكفاءات العلمية المتواجدين في العمل بالعراق ازدادت رواتبهم بشكل لافت، إلا أن إجراءات الاجتثاث والإقصاء حالت دون حصول الآلاف منهم على حقوقهم، وشكلت عائقا أمام عودتهم إلى بلدهم.
تعد هجرة العراقيين إلى الخارج، بأعداد كبيرة ظاهرة حديثة؛ إذ لم يعرف تاريخ العراق المعاصر لها مثيلا باستثناء هجرة اليهود العراقيين إلى إسرائيل بعد قيامها، حيث كانت أعداد قليلة تهاجر إلى الخارج. وطبقا لمنظمة “اليونسكو”، فإن العراق من ضمن سبعة بلدان عربية يهاجر منها كل عام 10 آلاف من المتخصصين؛ كالمهندسين والأطباء والعلماء والخبراء. وأن 50 % من حملة الشهادات الجامعية الأولى (البكالوريوس) في العلوم الهندسية و80 % من حملة الدكتوراه هم خارج العراق.
والسؤال: من يحافظ على هذه الثروة الوطنية من الضياع لدورها في عملية البناء والتنمية وديمومة الدولة المنشودة؟
على الرغم من صعوبة المهمة، فإن محاولات جادة بذلت للحفاظ على هذه الثروة الوطنية باعتبارها ذخرا للعراق، والتفريط بها له انعكاسات خطيرة على مجمل الأوضاع التي يشهدها البلد. من هنا كانت الحاجة الوطنية لتأسيس المنتدى العراقي للنخب والكفاءات العراقية قبل نحو عام، ومهمته الحفاظ على ثروة العراق من أبنائه، الذين كان لهم دور في بناء العراق والحفاظ على كيانه وأمنه وحدوده باعتباره مشروعا وطنيا عابرا للتخندق الطائفي والعرقي، كما مهمته توظيف طاقات وقدرات أعضائه لخدمة العراق.
واستطاع المنتدى رغم قصر عمره أن ينهض بمهمة الحفاظ على نخب وكفاءات العراق في شتى صنوف المعرفة، والتواصل مع أفرادها عبر أنشطة وفعاليات على مدار السنة التي ودعناها، انصبت على تجسيد حضورهم الوطني ورؤيتهم حول كيفية النهوض بالعراق بعد أن يتعافى من جروحه.
وما يعزز نجاح ديمومة المنتدى استجابة آلاف النخب والكفاءات العراقية في الشتات للمشاركة في أنشطته، باعتباره خيمة ومظلة وطنية تسعى إلى إبراز دورهم الوطني، كونهم في مقدمة من يتولون عملية البناء والتنمية والحفاظ على وحدة العراق.
أحمد صبري
صحيفة الغد الأردنية