منذ أن وطئت روسيا بأقدامها أرض سوريا، وبعد ثلاثة أشهر من انطلاق أول طائرة حربية روسية هناك، فإن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو: ما القدرات العسكرية الروسية التي يمكن أن تنعكس على الميدان السوري وفرصها في تعديل مسار الحرب؟
ثلاثة أشهر ونيّف مرّت على التدخل العسكري الروسي في سوريا، فماذا أنجزت روسيا؟ وما طموحها بأهدافها المعلنة وغير المعلنة؟ وما القدرات العسكرية الروسية التي يمكن تجييرها، أو استثمارها، أو نقلها، أو إدخالها في الميدان السوري؟ وهل لهذه القوة العسكرية فرص في تعديل مسار الحرب؟
أسئلة كثيرة تطرح اليوم مع انتهاء فترة المئة يوم التي حددتها “موسكو” لمرحلة أولى للتدخل العسكري المكثّف في سوريا.
الواقع وبداية وتسلسلاً، وبعد أن ذكرنا في أكثر من مقال ومقابلة سابقة الأسباب المعلنة والخفية للتدخل العسكري الروسي في سوريا، فإن هذا التدخل الذي عدّه بعض المراقبين “تورطاً”، قد حرّك سياسياً المياه الراكدة في الأزمة السورية؛ فجاءت اجتماعات “فيينا“، و”جنيف“، ولقاءات القمة بين بوتين وأوباما، وبوتين وبعض قادة الاتحاد الأوروبي، وتكثيف اللقاءات الدبلوماسية، وقرار مجلس الأمن الأخير 2254، وأحداث (Break Through)، في الحلقة المفرغة المحيطة بالشأن السوري ومكافحة الإرهاب، وآخرها وليس الأخير منها التحالف الإسلامي لمكافحة الإرهاب.
“روسيا حققت بتدخلها العسكري في سوريا العديد من الأهداف، سواء ما يتعلق باعتبار الأجواء السورية منطقة حظر جوي، أو أن المنطقة العازلة التي تطالب بها تركيا قد وضعت على الرف، إلا أن أهم ما حققته هو منع انهيار الجيش السوري الذي أصبح مرهقاً “
وقد أدى التدخل الروسي -وتحديداً بعد إسقاط طائرة “السوخوي” بواسطة المقاتلات التركية- إلى تحقيق هدف إستراتيجي لم يكن معلناً، بأن أصبح شبه واقع، وهو اعتبار الأجواء السورية منطقة حظر جوي إلا بعد التنسيق مع موسكو منعاً لحصول أي حادث جوي يمكن أن يؤدي إلى نتائج كارثية، خاصة بين موسكو وقوات التحالف الدولي الذي تجوب طائراته الفضاء السوري، أو مع تركيا، واستطراداً مع إسرائيل التي حرصت على أن تبقى طائراتها التي أطلقت الصواريخ الذكية خارج الأجواء السورية، عندما استهدفت قرية “جرمانا” وقتلت “سمير القنطار” ودمرت المبنى الهدف على من فيه بمنتهى الدقة.
والتنسيق (Coordination) مع سلاح الجو الروسي أصبح ضرورة وليس خياراً، وهو ليس بالضرورة تعاوناً (Cooperation)، الذي هو خياراً لم يتبعه أي فريق حتى الآن باستثناء النظام السوري حتماً.
وإذا كانت العاصمة دمشق، والساحل السوري، والمنطقة الوسطى، أي الطريق الفاصل بينهما، تشكل الأولوية الأهم بالنسبة للنظام السوري وحلفائه، ومنهم روسيا، فإن الساحل السوري يتخذ أهمية قصوى بالنسبة لموسكو، بعد وجودها المكثف عسكرياً وبشرياً في ذلك الساحل في مرفأ طرطوس وقاعدة “حميميم”، والحديث عن مطار آخر يجري إعداده في ريف حمص، وإعادة تأهيل مطار “كويرس” في حلب، ونشر صواريخ “أس400” وتزايد عدد القطع البحرية في الحوض السوري، منها طراد “موسكوفا” الذي يحمل صواريخ إستراتيجية.
وأخيراً وليس آخراً يرى المراقبون أن أهم ما حققته روسيا بتدخلها العسكري هو منع انهيار الجيش السوري الذي أصبح مرهقاً باعتراف الرئيس بشار الأسد؛ إذ إن الدعم العسكري لقوات الأسد بالعتاد والخبرات كان ملفتاً وبارزاً، دون ضرورة الحديث عن بعض الإنجازات العسكرية للجيش السوري بمساندة جوية روسية فعالة في أكثر من موقع، من اللاذقية إلى مطار كويرس، وريف حلب، وريف درعا الشمالي، ومنع تقدم جيش الفتح بعملية اختراق محتملة من جسر الشغور باتجاه اللاذقية، وهو على بعد خمسين كيلومترا فقط، وهذا الاختراق -إذا حصل- ستكون له نتائج دراماتيكية في الميدان وعلى النظام السوري.
والآن، ما القدرات العسكرية الروسية التي يمكن أن تنعكس على الميدان السوري وفرصها في تعديل مسار الحرب؟
بداية يجب التذكير بأنه لا مجال للمقارنة بين القوة العسكرية التي تملكها روسيا وبين قوة الولايات المتحدة وحلفائها وتحديداً حلف “الناتو”، إلا أن روسيا كدولة عظمى تملك السلاح النووي، والأسلحة الإستراتيجية، بالإضافة إلى جغرافيتها، وتمتلك قوة “الردع”.
ثم إن روسيا تمتلك “الهيبة” التي بدأت أميركا تفقدها، وتملك “القرار” الذي تتردد واشنطن في اتخاذه، ثم إن روسيا يحكمها “بوتين” وأميركا يحكمها نظام مختلف، والقدرات العسكرية الروسية لا يمكن تعدادها في مقال إنما يمكن اختصارها في ما يلي:
يملك الاتحاد الروسي قوات عسكرية تفوق المليون جندي وضابط محترف، منهم ثمانمئة ألف في الجيش، ومئة ألف في القوات الجوية، و120 ألفا بالقوات الإستراتيجية، و105 آلاف في القوات البحرية.
كما يملك الاتحاد الروسي قوات إستراتيجية ضخمة من آلاف الصواريخ أرض-أرض (RVSN)، والوحدات الإستراتيجية لسلاح الجو (VVS) وصواريخ جو-أرض، والقوات البحرية (VMF).
وهنالك ثلاثة جيوش للصواريخ 11 فرقة، وحددت اتفاقية “ستارت” الأخيرة مع الولايات المتحدة الأميركية التي دخلت حيز التنفيذ في فبراير/شباط 2011، 1550 صاروخا نوويا عابرا للقارات لكل دولة. ولكل فريق أن يحدّد هيكل وحجم قواته الإستراتيجية، والجيش الروسي والقوات البرية والمنقولة براً أعيد تنظيمها بشكل لافت بعد 2005.
“روسيا ركزت على تطوير قواتها البحرية الإستراتيجية، فجددت بناء عشرات الغواصات النووية الحاملة للصواريخ الإستراتيجية من نوع “كروز”، فئات “أوسكار” و”سييرا”، وأخرى من نوع “يوري دولغوروكي” و”أكولا” “
ويملك سلاح الجو الآلاف من الطائرات المقاتلة المعترضة من عائلة ميغ، وسوخوي (القاذفة)، والطائرات الضاربة (سو 24، و25، و34). والمروحية، بالإضافة إلى سبعمئة طائرة نقل، وأكثر من مئتي طائرة إنذار مبكر، واستطلاع، وحرب إلكترونية. بالإضافة إلى طيران الجيش، هذا فضلا عن حرس الحدود، والقوات شبه العسكرية والاحتياط.
ورغم القوة اللافتة للقوات البحرية الروسية التي تجوب البحار، وتحديداً بحر قزوين والبحر الأسود، ووصول الغواصات إلى البحر المتوسط، فإن روسيا لا تملك سوى حاملة طائرات واحدة هي الأميرال “كوينزفتسوف”.
وبعد هذه الجولة في عناوين القدرات العسكرية الروسية بشكل عام، يطرح سؤال عن الوجود العسكري الروسي في سوريا، بعد ثلاثة أشهر من انطلاق أول طائرة حربية روسية، فهل هذا الوجود في ازدياد؟ وما تأثيره في مجريات الحرب الميدانية ومصير سوريا؟
يتمثل الوجود العسكري الروسي في سوريا حالياً في القوات الجوية والبحرية، م في الخبراء والقوات البرية الخاصة، وهو ينتشر عدداً، وعتاداً، وجغرافياً كما يلي:
قاعدة “حميميم” الجوية التي أنشأت في مطار “جبلة” العسكري الذي تم توسيعه وترميمه، وتجهيزه ليصبح قاعدة روسية جوية بامتياز، ويحوي ما يزيد على 32 طائرة قاذفة من أنواع سوخوي ونحو ثلاثين قاذفة مقاتلة من عائلة “ميغ” المتطورة 29 و31، وعشرات الطائرات المروحية M24 وM28 (الصياد) وAlligator التي تشابه طائرة الأباتشي الأميركية، وتستخدم القوات الجوية مطار باسل الأسد العسكري في اللاذقية.
كما بدأ العمل منذ أكثر من شهر على إنشاء مطار عسكري في ريف حمص، بالإضافة إلى العمل على تأهيل، وتطوير، وتجهيز مطار “كويرس” العسكري في حلب؛ تمهيداً لاستخدامه في مهمات القصف والمساندة الجوية.
وتم خلال الأشهر الماضية تطوير الخدمات في قاعدة طرطوس البحرية لخدمة الأسطول بشكل أمثل.
أما الوجود الروسي البشري (العدد)، فيقدره الخبراء بنحو ستة آلاف عنصر، منهم أكثر من ثلاثة آلاف خبير ينتشرون في مواقع الجيش الروسي في العاصمة دمشق والساحل والمنطقة الوسطى، ومنهم 1400 في سلاح الجو (طيارين، وفنيين وسدنة)، بالإضافة إلى فوج من قوات النخبة (نحو خمسمئة) لحماية القواعد.
ويتبين من الأرقام الواردة أعلاه أنه لم تحصل زيادة لافتة في العدد والعتاد منذ بدء التدخل، لعدم الضرورة لذلك في الوقت الحاضر، وتكلفته المادية، لكن لدى روسيا القدرة على مضاعفة هذه القوات إذا اقتضت الضرورة الميدانية.
والأهم من هذه الأرقام جميعها هو العقيدة العسكرية لاتحاد روسيا التي أعلنت عام 1999 وجرى تطويرها واتساعها في فبراير/شباط 2010، حيث سميت “مبادئ سياسة التدخل والردع النووي حتى عام 2020″، وهي التي تسمح لروسيا بالتدخل ليس فقط داخل أراضي الاتحاد الروسي بل لحل النزاعات الإقليمية، وتغطية أراضي حلفائها (غير المحددين). وترصد مخاطر عسكرية متزايدة، ناتجة عن توسع الحلف الأطلسي وانتشار الإرهاب الدولي، والتطرف الديني، والنزاعات الانفصالية.
وبناء على ما تقدم يطرح السؤال: إلى أي مدى تستطيع روسيا بتدخلها تعديل مسار الحرب في سوريا؟
– إن روسيا تعلم دون شك أو ريب أن عقارب الساعة لن تعود إلى الوراء، أي أن النظام السوري لن يعود كما كان قبل بدء الحرب، وأن أقصى ما تريده هو تحديد الخسائر (Minimize The Damage)، وتسعى إلى أن يكون النظام الجديد الذي هو آت بلا ريب حليفاً لها، أو على الأقل غير معاد.
– ميدانياً، إذا كانت الأولويات المطلقة للنظام السوري الحالي كما ذكرنا هي العاصمة دمشق، والساحل السوري والمنطقة الوسطى، أي الفاصل بينهما، فإن الساحل السوري قد أمسى خطاً أحمر بالنسبة لموسكو.
“أمام الإجماع الدولي على الحل السياسي في سوريا واقتناع الجميع بعدم جدوى الحل العسكري، فإن روسيا تحرص على دعم الجيش السوري لتحقيق مكاسب ميدانية، كي يصل إلى طاولة المفاوضات بأوراق قوية”
– أمام الإجماع الدولي على الحل السياسي في سوريا، والاقتناع لدى الجميع بعدم جدوى الحل العسكري، أي السعي للوصول إلى طاولة المفاوضات؛ فإن روسيا تحرص على دعم الجيش السوري بالتجهيز والتدريب والمساندة الجوية، لتحقيق مكاسب ميدانية، لاستعادة المزيد من المساحات، والنقاط الإستراتيجية، كي يصل إلى طاولة المفاوضات بأوراق قوية، لمشاركة أكبر وأكثر فعالية في السلطة القادمة، وهذا يفسر المشاركة الجوية الفعالة في استعادة مطار “كويرس”، وريفي حلب الجنوبي والغربي، ومدينة “الشيخ مسكين” في ريف درعا.
وروسيا تدرك أن هناك سباقاً مع الوقت، لذا فإنها تسعى خلال الأشهر المقبلة إلى دعم الجيش السوري وحلفائه من خلال:
– تأمين العاصمة دمشق، وتحديداً من الجنوب والشرق، حيث لا تزال مهددة بالصواريخ والقذائف بين فترة وأخرى.
– “تحرير” محافظة اللاذقية بأكملها، حيث لا تزال جيوب عصية في جبل التركمان وتلال سلمى وجسر الشغور، وغيرها من المواقع.
– الدعم لاستكمال الإنجازات الميدانية في ريفي حمص الشمالي وحماه الجنوبي.
– إحكام السيطرة على مدينة حلب (دون الضرورة لدخولها) وخاصة من الجنوب والغرب، وقطع الإمدادات العسكرية من خلال السيطرة بالنار على الطرق السريعة المؤدية إليها، ومنها شمالاً وغرباً.
وخلاصة القول: إن تحقيق هذه الأهداف ليس من السهولة بمكان، فالمجموعات المسلحة جيداً، والمدربة أفضل تدريب، والتي تقاتل بناء على عقيدة قتالية، والتي لا تزال تتلقى الدعم السياسي، واللوجستي، تتمسك بمواقع إستراتيجية مهمة، والجيش السوري الذي يقاتل منذ خمس سنوات قد أصبح منهكاً رغم الدعم.
وأما عن القضاء على تنظيم الدولة الاسلامية، فهو شأن آخر؛ إذ إن روسيا لم تدّع يوماً أنها جاءت للقضاء على هذا التنظيم، واستئصاله في سوريا والعراق، أو أنها تستطيع ذلك، فيقتصر دورها مستقبلاً -كما دول التحالف- على احتواء “داعش” وتحجيمه ورسم خطوط حمراء لا يسمح بتجاوزها.