رحلة الاقتصاد الصيني واتجاهات الاستثمار الأجنبي المباشر الحالية

رحلة الاقتصاد الصيني واتجاهات الاستثمار الأجنبي المباشر الحالية

الباحثة شذا خليل*

شهدت الصين، ثاني أكبر اقتصاد في العالم، تحولًا جذريًا منذ أواخر السبعينيات، عندما أطلق دنغ شياوبنغ إصلاحات اقتصادية عام 1978، محولًا الاقتصاد الصيني من نظام مغلق ومخطط مركزيًا إلى اقتصاد قائم على السوق أكثر انفتاحًا. كان لهذه الإصلاحات دور أساسي في إدخال الاستثمارات الأجنبية، حيث أصبحت الصين خلال عقود قليلة مركزًا عالميًا للتصنيع والتجارة. انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001 شكّل نقطة تحول تاريخية، إذ فتح أسواقها بشكل أوسع أمام الاستثمارات العالمية وساهم في تعزيز مكانتها كأحد المحركات الرئيسية للنمو العالمي. وبفضل هذه التحولات، نجحت الصين في رفع مستويات المعيشة، خفض معدلات الفقر بشكل غير مسبوق، وبناء شبكة صناعية ضخمة جعلتها جزءًا أساسيًا من سلاسل التوريد العالمية. ومع ذلك، فإن التطورات الأخيرة تكشف عن صورة أكثر تعقيدًا للاستثمار الأجنبي المباشر في البلاد، خاصة في ظل التحديات الاقتصادية والسياسية العالمية الراهنة.

التطورات الأخيرة في الاستثمار الأجنبي المباشر: زيادة في الأعداد وانخفاض في التدفقات

وفقًا لوزارة التجارة الصينية، تم تأسيس 36,133 مؤسسة استثمارية أجنبية في الصين خلال الفترة من يناير إلى يوليو 2025، بزيادة قدرها 14.1% على أساس سنوي. ومع ذلك، انخفضت التدفقات الفعلية للاستثمار الأجنبي المباشر بنسبة 13.4% لتصل إلى 467.34 مليار يوان (65.8 مليار دولار أمريكي). هذا التباين الواضح يشير إلى استمرار اهتمام الشركات العالمية بدخول السوق الصينية، لكن مع التزامها بمستويات أقل من الاستثمار الفعلي. ويرتبط هذا الاتجاه بعدة عوامل؛ أبرزها حالة عدم اليقين في الاقتصاد العالمي، الضغوط التضخمية، إعادة هيكلة سلاسل التوريد بعد جائحة كوفيد-19، والتوترات الجيوسياسية المتزايدة، خاصة الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة منذ عام 2018. هذه الحرب، التي شملت فرض تعريفات جمركية متبادلة، أثرت على الثقة الاستثمارية وجعلت العديد من الشركات تعيد النظر في استراتيجياتها طويلة الأجل. ومع ذلك، ورغم هذه التحديات، أظهرت بعض القطاعات نموًا قويًا؛ فقد اجتذب قطاع التصنيع 121.04 مليار يوان، بينما هيمن قطاع الخدمات بـ 336.25 مليار يوان، مما يعكس التحول نحو اقتصاد قائم على الابتكار والخدمات. كما برزت الصناعات عالية التقنية بشكل خاص، حيث قفزت خدمات التجارة الإلكترونية بنسبة 146.8%، وارتفع تصنيع معدات الفضاء بنسبة 42.2%، مما يدل على التركيز على القطاعات المستقبلية.

الآثار العالمية والآفاق المستقبلية

إن هذه التغيرات تحمل آثارًا عميقة على الاقتصاد العالمي. فمن جانب، يعزز استمرار تدفق الاستثمارات في القطاعات التكنولوجية مكانة الصين كقوة رائدة في الابتكار، مما يجعلها عنصرًا أساسيًا في تشكيل مستقبل سلاسل التوريد العالمية. ويشير هذا النمو في الصناعات عالية التقنية إلى اشتداد المنافسة العالمية في مجالات التجارة الإلكترونية، الفضاء، والتصنيع المتقدم، مما يدفع الاقتصادات الأخرى لتطوير استراتيجيات جديدة لمواكبة هذا التحول. ومن جانب آخر، يعكس الانخفاض الكلي في حجم الاستثمار الأجنبي المباشر حذرًا متزايدًا من المستثمرين، الأمر الذي قد يحد من تدفق رؤوس الأموال ويبطئ التجارة الدولية في المستقبل القريب. وإذا استمر هذا الاتجاه، فمن المرجح أن نشهد إعادة رسم خريطة الاستثمار العالمي، حيث تسعى الدول إلى جذب الاستثمارات من خلال تحسين بيئاتها الاقتصادية وتقديم حوافز للمستثمرين. أما بالنسبة للصين، فإن التحدي الأكبر يكمن في تحقيق التوازن بين الانفتاح الاقتصادي وحماية الأمن القومي، ومعالجة المخاوف المتعلقة بالشفافية والبيئة التنظيمية لضمان استمرارها في مسار النمو والحفاظ على موقعها كأحد أكبر اللاعبين الاقتصاديين على مستوى العالم.

وحدة الدراسات الاقتصادية / مكتب شمال امريكا
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية