
الباحثة شذا خليل*
شهدت أسواق الأسهم الأوروبية موجة صعود لافتة مؤخراً، حيث ارتفع مؤشر “ستوكس أوروبا 600” إلى مستويات قياسية جديدة بعد سلسلة مكاسب متواصلة. هذا الأداء القوي لم يقتصر على المؤشر الأوروبي العام، بل امتد إلى البورصات الكبرى: “فاينانشال تايمز 100” البريطاني واصل التحليق بالقرب من قمم تاريخية، بينما حقق “كاك 40″ الفرنسي و*”إيبكس 35″ الإسباني* و*”إف تي إس إي MIB” الإيطالي* زيادات عززت الثقة في الأسواق. ورغم بعض التذبذبات في “داكس” الألماني، فإن الزخم العام ظل إيجابياً.
على الصعيد العالمي، تتناغم هذه الارتفاعات مع أداء الأسواق الأميركية التي استفادت من توقعات خفض أسعار الفائدة، بينما أظهرت الأسواق الآسيوية أداءً متبايناً يعكس ضغوط النمو الصيني. هذا التباين يضع أوروبا في موقع استثنائي حالياً، باعتبارها مركز جذب متجدد لرؤوس الأموال الدولية.
ما الذي يقود الارتفاع في أوروبا؟
السياسة النقدية: التوقعات بخفض أسعار الفائدة من جانب مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي والبنك المركزي الأوروبي وفرت دعماً معنوياً قوياً للمستثمرين، حيث يقلّص خفض الفائدة تكاليف التمويل ويرفع تقييمات الأسهم.
الإشارات السويسرية: أبقى البنك الوطني السويسري أسعار الفائدة عند 0%، في وقت تراجع فيه التضخم بشكل طفيف، ما عزز الثقة في استقرار الأسعار وفتح المجال أمام سياسات نقدية أكثر مرونة.
القطاع الدفاعي: تصاعد التوترات الأمنية في القارة الأوروبية، بما في ذلك إغلاق مطار ميونيخ مؤقتاً بعد رصد طائرات مسيّرة قبل أيام، زاد من اهتمام المستثمرين بالقطاع الدفاعي، حيث ارتفعت أسهم شركات الفضاء والتسليح بشكل واضح.
البنوك والقطاعات المالية: قفز سهم بنك “رايفايزن” النمساوي بعد تقارير عن نية الاتحاد الأوروبي رفع العقوبات عن أصول مرتبطة برجال أعمال روس لتعويض البنك عن خسائره في روسيا، ما أضاف دفعة جديدة للقطاع المالي.
التأثيرات العالمية: لماذا هذا مهم؟
تخفيف الأوضاع المالية: ارتفاع الأسهم الأوروبية بالتوازي مع الأميركية يساهم في تقليص علاوة المخاطر العالمية، ويدعم خطط الشركات في الاستثمار والتوسع، مما ينعكس إيجاباً على النشاط التجاري العالمي.
إعادة توجيه رؤوس الأموال: الأداء القوي في أوروبا يجبر مديري الأصول العالميين على إعادة موازنة محافظهم بعد سنوات من التركيز على السوق الأميركية، وهو ما يعزز مكانة اليورو ويدعم استقرار أسواق الصرف.
دفعة للصناعات الدفاعية: ازدياد الإنفاق الأوروبي على الأمن والدفاع ينعكس على سلاسل الإمداد العالمية، من شركات التكنولوجيا العسكرية الأميركية إلى الصناعات الآسيوية المورّدة للمواد والمكونات.
التضخم تحت السيطرة: تجربة سويسرا في تثبيت الأسعار مع تجنب الركود تقدم نموذجاً يمكن أن يشكل مرجعاً للأسواق العالمية الباحثة عن استقرار نقدي دون خسائر اقتصادية كبيرة.
التحديات التي تلوح في الأفق
الشلل الحكومي الأميركي: استمرار أزمة إغلاق الحكومة في واشنطن قد يعرقل نشر بيانات اقتصادية أساسية ويزيد من غموض السياسات النقدية.
التوترات الجيوسياسية: الاضطرابات الأمنية مثل تعطيل حركة الطيران بسبب الطائرات المسيّرة قد تؤثر سلباً على قطاعات السياحة والخدمات، رغم استفادة أسهم الدفاع.
تركيز المكاسب في قطاعات محددة: ما زالت المكاسب الأوروبية تتركز في التكنولوجيا والرعاية الصحية والدفاع، ما يزيد المخاطر في حال تراجعت هذه القطاعات.
الخلاصة
ارتفاع الأسهم الأوروبية ليس مجرد خبر إيجابي محلي، بل يعكس تحولاً مهماً في الأوضاع المالية العالمية وتدفقات رؤوس الأموال. فالقارة العجوز التي عانت من تباطؤ النمو وارتفاع التضخم خلال السنوات الماضية، باتت اليوم وجهة جذابة للاستثمار، خاصة مع توقعات خفض الفائدة وتوسّع الإنفاق الدفاعي.
إذا استمرت البنوك المركزية في اتباع سياسات نقدية ميسّرة وظلّت معدلات التضخم تحت السيطرة، فإن أوروبا مرشحة لأن تكون محركاً داعماً للنمو العالمي خلال العام المقبل. ومع ذلك، تظل العوامل السياسية والأمنية في أميركا وأوروبا عاملاً حاسماً في تحديد مسار الأسواق في المرحلة القادمة.
وحدة الدراسات الاقتصادية / مكتب شمال امريكا
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية