بدا التأزم الشديد بين الرياض وطهران محتوماً، بل متوقعاً، فالأحداث تتابعت في وجهة واحدة هي التصعيد. حادث التدافع المريب في مِنى في أثناء موسم الحج، والذي ذهب ضحيته عشرات الإيرانيين، كان يُراد به تفجير أزمة كبيرة، داخل موسم الحج وبعده. الرفض الإيراني للمرجعية الدولية في حال الأزمة السورية عامل تصعيدٍ يُجاور الحضور المادي لقيادات الحرس الثوري الإيراني على الأرض السورية لقمع الشعب السوري المنكوب. الحملات المنظمة لأذرع إيران في لبنان والعراق ضد السعودية لا هدف لها سوى التصعيد. ومن المنتظر أن تلعب منظمات لبنانية (حزب الله) وفصائل عراقية دوراً كبيراً في التصعيد في المرحلة القريبة المقبلة، ومن “الطبيعي” أن تقوم هذه الجهات بتلك المهمة، نظراً لتبعيتها التامة، السياسية والمالية، لطهران، ولمحاولة تخفيف “العبء” عن طهران (!)، بحيث تبدو الحملات على الرياض كأنها حملات لبنانية وعراقية “شعبية”، وليست إيرانية المنشأ والمنطق والأهداف.
وخلافاً لأزمات أخرى، فإن التوسط لحل الأزمة الإيرانية السعودية لا يبدو مجدياً، ولا حتى مناسباً. إنه أشبه بالتدخل لدى قطبين كبيرين في الإقليم، أو في العالم، لتغيير استراتيجيتهما. تتمسك طهران، من جهتها، باستراتيجية تدخلية في المشرق العربي، وبأكثر أشكال التدخل فجاجة وفظاظة. وإذا كانت هناك، حتى الآن، دول عربية لا تعرف مثل هذا التدخل الإيراني، فالسبب الوحيد أنه تمّ التنبه جيداً لاحتمال هذا التدخل وبوادره، وجرى تطويقه في مهده. وهو ما حدث، مثلاً، في الأردن ومصر برفضهما السياحة الدينية الإيرانية التي تتخذ عادة مدخلاً للتسلل والتجييش ومحاولة الإشراف، عنوةً، على مكان ديني.
في مقابل هذه الاستراتيجية، تتمسك السعودية باستراتيجية دفاعية حازمة ضد هذه التدخلات، وليس صحيحاً أن الرياض، وبقية الدول الخليجية والعربية، تتخذ موقفاً مناوئاً ودائماً لطهران، إرضاء لواشنطن، حسب الدعاية الإيرانية الممجوجة، فقد سبق أن شهدت علاقات الرياض بطهران فترة جيدة من التعاون، في عهد الرئيس الإيراني محمد خاتمي، وهو رجل دولة من طراز رفيع، يؤمن بالحوار والتعاون مع الجميع، ابتداء من الجيران والأقربين والشركاء في المعتقد الديني والإرث الحضاري.. أين خاتمي اليوم؟ إنه محظور عليه الظهور، وهو رئيس الدولة السابق، في أية وسيلة إعلامية إيرانية، عقاباً له على استعداده للتعامل مع الآخرين بمنطق الاحترام المتبادل، وعدم التدخل في شؤون الغير. كما سادت علاقات عادية مع طهران في عهد الرئيس الأسبق هاشمي رفسنجاني.
مع ذلك، ولأنه لا شيء في عالم السياسة يتوقف في مكانه، فقد انضم العراق إلى روسيا
وتركيا، في إبداء الاستعداد للتوسط بين الرياض وطهران. وكانت السعودية قد أعادت افتتاح سفارتها في بغداد قبل أسابيع، وبعد انقطاع أكثر من عقدين. حسناً، يمكن للعراق ولرئيس الحكومة، حيدر العبادي، المساهمة في تبريد الخواطر، بمنع فصائل عراقية، مثل عصائب أهل الحق وسواها، من التجاوز على السعودية، أو إطلاق تهديدات ضدها، باعتبار أن هذا التصرف يسيء للعلاقات العراقية السعودية التي بدأت تعرف تحسناً منذ العام 2015، إذا فعل العبادي شيئاً مثل هذا، فإنه يمكن وقف أية تداعيات سلبية للأزمة على العلاقات العربية، والأهم أن لا تقوم أطراف عربية بدور محاولة التعدي بالوكالة عن إيران.
من المنتظر أن ينعقد غداً الأحد (10 يناير/كانون الثاني) اجتماع وزاري لجامعة الدول العربية لمواجهة التعديات الإيرانية (إحراق السفارة والقنصلية السعوديتين، بما يحمله ذلك من رمزية الازدراء بالأعراف والمواثيق الدولية، ومن تهديد يطاول السعودية). وسوف تحظى الرياض بتضامن واسع معها، يُضاف إلى مظاهر التضامن التي تم التعبير عنها منذ اندلاع الأزمة. وقد تبدي بالمناسبة أطراف عربية جديدة استعدادها للتوسط، علماً أن دولة، مثل الجزائر، كانت قد أطلقت بالفعل ما يشبه وساطة بين الرياض وطهران، قبل اندلاع الأزمة بنحو أسبوعين فقط. لعل التطورات الأخيرة الخطيرة تدلل على أن خيار الوساطة وحده غير كافٍ، أو غير مناسب، وأن المطلوب، ببساطة، هو حمل طهران على عدم التدخل في الشؤون العربية الداخلية، وعلى عدم محاولة استتباع المكون الشيعي في المجتمعات العربية لها، كما هو جارٍ في لبنان والعراق. إذا لم تلمس طهران أن هناك رفضاً حازماً لسياستها التدخلية والتوسعية، فإنها لن تكف عن إتباع هذه السياسة، خصوصاً أنها نسجت شبكة مصالح مع زعامات محلية هنا وهناك، وبات الأمر أشبه باستثمارٍ لا يمكن (في منظور أصحابه) مجرد التفكير بتصفيته، بغير تلقي تعويض عنه!
وإلى الجزائر، هناك استعداد عُماني دائم للتوسط، من دون أن يبدر من طهران أي استعداد لمراجعة سياستها. وقد أصبحت، الآن، الظروف أصعب وأشد تعقيداً مع قطع علاقات الرياض والمنامة مع طهران، ومع استدعاء سفراء قطر والكويت والإمارات من العاصمة الإيرانية. وسوف يكون للأمر حساسيته، مع الأخذ بالاعتبار انعكاس هذه التوترات العالية على النسيج الاجتماعي في هذه الدول، وعلى العلاقة بين أصحاب المذاهب المختلفة. إنها ليست الأزمة الأولى من نوعها التي تخيم على سماء الخليج، وثمة خبرة متراكمة لدى السلطات في التعامل مع أية تداعيات داخلية لمثل هذه الأزمة، والتضامن الخليجي الواسع سوف يضمن تماسك الموقف السياسي الجماعي إزاء التطورات، حتى لو كان لكل دولة أسلوبها في التعامل.
يسترعي الانتباه، في ختام هذا العرض، أن واشنطن لم تكتم أنها تبذل جهوداً للتهدئة بين الجانبين، كما صرح بذلك وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، الذي تحدث عن اتصالات أجراها لهذا الغرض مع الجانبين. ولا شك أنه تحول أميركي كبير أن تقف واشنطن موقف الوسيط شبه المحايد بين الحليفة التاريخية التقليدية القديمة الرياض وطهران “المأذون لها” أن تفعل كل شيء تقريباً، باستثناء تطوير برنامجها النووي نحو أغراض غير سلمية. وبينما تبدي واشنطن الديمقراطية كل هذا الود العملي المتنامي تجاه طهران التي كانت محوراً للشر، فإن ثمة من ما زالوا يصدقون الدعاية الإيرانية الروتينية الحالية ضد الاستكبار الأميركي.
وفي نهاية الأمر، لا بد أن تتهيأ السعودية ودول الخليج للدفاع الذاتي عن سيادتها وحقوقها، وهو الدرس الذي تم استخلاصه، عشية اندلاع الحرب ضد ذراع إيران في اليمن.
محمود الريماوي
صحيفة العربي الجديد