محاولة للتأثير: خطف الصيادين القطريين في العراق

محاولة للتأثير: خطف الصيادين القطريين في العراق

الصيادون القطريون

في 16 كانون الأول/ديسمبر من العام الماضي خَطف مسلحون على متن عشرات السيارات الرباعية الدفع 26 شخصا من مجموعة صيد قطرية كانت تخيم في منطقة صحراوية بمحافظة المثنى جنوب العراق أفرج عن تسعة أشخاص”وفق رواية الحكومة العراقية”. صحيح أن حوادث الاختطاف منتشرة على نطاق واسع في عراق ما بعد عام 2003م، إما لأهداف سياسية أو للمبادلة بفدية، إلا أن عملية الإختطاف هذه شكلت علامة فارقة، لكون المستهدفين فيها أمراء من العائلة الحاكمة القطرية.

وقد تناقضت التصريحات الرسمية العراقية بشأن عملية الاختطاف بين وزارة الداخلية العراقية وقائد شرطة محافظة المثنى. إذ أكدت الوزارة أن تلك العملية تمت لعدم التزام المختطفين بالتعليمات الصادرة، بينما أكد قائد شرطة المثني أن عملية الاختطاف تمت بسيارات حكومية مظللة وأن عدد المخطوفين 17. فتأكيد الأخير يأتي في سياق مسؤولية الدولة العراقية ممثلة بوزارة داخليتها عن توفير الحماية للرعايا القطريون، فهؤلاء حينما قدموا للعراق انتهجوا الإجراءات القانونية لدخوله كما أن أن ذهابهم إلى لمحافظة المثنى برفقة بعض أفراد الأمن العراقي لصيد “الصقور” تمت بموافقة محافظ المثنى. فهما تحاول وزارة الداخلية العراقية دفع مسؤولية الاختطاف عن نفسها فلن تفلح في ذلك، لأمر في غاية البساطة، فكما هو معروف في العراق وخاصة بعد عام 2003م، ونظرًا لوضع العراق غير مستقر أمنيا، فإن حركة الأرتال الأمنية في المحافظات التي تسيطر عليها الحكومة العراقية كالمحافظات الجنوبية والفرات الأوسط معروف للجهات الأمنية في وزارة الداخلية سير تحركها وتنقلها، كما أن انتشار المفارز الأمنية”السيطرات” في تلك المحافظات يقلل من عملية أي اختراق لها، والسؤال الذي يطرح في هذا الإطار، كيف استطاع الرتل المسلح الذي اختطف الرعايا القطريون من تجاوز كل المفارز الأمنية في مختلق المناطق، دون أن تعرف هوية ذلك الرتل والوجهة التي يقصدها؟!

يستشف من هذه الاختطاف للرعايا العرب كالقطريون ومن دول إقليمية مجاورة كالعمال الأتراك قبل عدة أشهر في العراق، بأنه موجهة لرعايا دول بعينهم، تتناقض سياساتها في البيئة الإقليمية مع الحكومة العراقية والقوى الشيعية ومليشياتها كما تتناقض أيضا مع سياسات الحكومة الإيرانية وروسيا الاتحادية، فلم يحدث في العراق وعن طريق الخطأ مثلًا إنه تم اختطاف إيرانيين أو روسيين، بل على العكس الإيرانيون يقتحمون الحدود العراقية بعشرات الآلاف بحجة إحياء طقس ديني شيعي دون أي ردة فعل من الحكومة العراقية تتناسب مع ذلك الاقتحام. وبهذا الفهم يمكن القول بأن عملية الاختطاف للرعايا القطريين تمت لأسباب سياسية ومن قبل مليشيات حليفة لإيران وليس جنائية. وهذه لسببين على النحو الآتي:

1- اطلاق دولة قطر حوار وطني بين كافة المكونات السياسية في العراق:

قد يكون هذا الحوار هو أحد أسباب عملية الاختطاف، ففي شهر أيلول/سبتمبر من العام الماضي عقد في دولة قطر مؤتمر يضم قوى المعارضة السنية العراقية، كان على رأس المدعوين إلى العاصمة القطرية الدوحة شخصيات قيادية سنية متباينة الآراء دعتها الحكومة القطرية لمحاولة رأب الصدع بينها،وأعضاء في حزب البعث العربي الإشتراكي.

وقد أبدت الحكومة العراقية انزعاجها من إجراء هكذا حوار في دولة قطر، وصرحت الحكومة بأن مؤتمر الدوحة تم من دون التنسيق معها، مؤكدًة رفضها القاطع له، كما أفاد مكتب رئيس الوزراء العراقي أنه قام بإبلاغ رئيس البرلمان العراقي هو والأطراف السياسية العراقية بعدم المشاركة فيه، مضيفًا أن الحكومة القطرية قد عقدت المؤتمر من دون التنسيق التفصيلي المسبق مع حكومة العراق. واعتبرته تدخلا غير مرحب به في الشأن الداخلي العراقي، وخرقا واضحا لمبادئ العلاقات الثنائية، وقالت أيضا أن دولة قطر تستفز العراق باستقبالها في هذا المؤتمر قيادات سنية معارضة وشخصيات من حزب البعث العربي الإشتراكي المنحل الذي كان يتزعمه الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، ومتشددين ُ”سنة” صدرت عليهم أحكام في قضايا إرهاب.

أما دولة قطر من جانبها فقد أبدت استغرابها الشديد هي أيضاً من الموقف العراقي ودافعت عن موقفها بقولها ان المبادرة القطرية، ماهي الا ثمرة زيارة وزير الخارجية القطري للعراق ولقاءاته بالأطراف العراقية السنية والشيعية على السواء وحثهم للاجتماع معاً ومناقشة وحدة العراق والحفاظ على أمنه واستقراره. وقطر بهذا الموقف كانت محقة به، لأن رئيس البرلمان العراقي كان قد أبلغ رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي بمضامين هذا الحوار كما أن طارق نجم مستشاره على علم بتفاصيل هذا الحوار، هذا يعني أن الحكومة العراقية على درايه به، وما يدلل أيضًا على صحة الموقف القطري واستغرابه من موقف الحكومة العراقية حضور ممثل الأمم المتحدة في العراق المؤتمر.

تنم تصريحات الحكومة العراقية هذه عن وجود ضغط إيراني لعدم إخراج ملف المصالحة الوطنية خارج حدود العراق ليبقى تحت سيطرة النفوذ الإيراني، حيث أكد رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي ذلك في تصريحاته أن حكومته تسعى إلى المضي قدمًا في ملف المصالحة الوطنية بين كافة الأطياف العراقية لتخطي المرحلة الراهنة، وهو ما يعني رفض المؤتمرات الخارجية بهذه الصورة.

أما القوى السياسة الشيعية فقد عارضت عقد هذا المؤتمر؛ وأكدت أنه مجرد استمرار لساحات الاعتصام في محافظة الأنبار، كما طالب البعض رئيس البرلمان العراقي سليم الجبوري بتشكيل لجنة نيابية للتحقق بشأن تلقي بعض القوى السياسية دعمًا ماليًا من دول وصفت بأنها معادية للعراق في الإشارة للدول الخليجية التي تدعم القوى السنية العراقية، معتبرين أن مثل هذه المؤتمرات هي نواة لتمزيق العراق. كما اتهمت الشخصيات المشاركة في المؤتمر بأن من بينها ممولين للإرهاب وداعمين له، كما اتهموا المشاركين فيه أيضًا بالطائفية بسبب مشاركة وجوه تصدرت ساحات الاعتصام السنية التي رأها الساسة الشيعة بأنها ترفع شعارات طائفية.

هذه الاتهامات هي انعكاس لرغبة إيرانية في عدم توحيد الصف السني داخل العراق من خلال الخليج، فالمواجهة الآن تتحول إلى لبنان جديدة بين إيران والخليج، حيث تدعم إيران المكون السياسي الشيعي، في المقابل ستمول السعودية وقطر المكون السني السياسي داخل العراق، وهو الأمر الذي يُهدد بتراجع النفوذ الإيراني داخل العراق.لهذا “ربما” ومن المحتمل والجائز سياسياً ان تكون التصرفات غير مسؤولة السياسية في العراق توصلت الى انها بخطف الرعايا القطريين تبعث برسالة تحذيرية الى دولة قطر بضرورة عدم التدخل في الشأن الداخلي العراقي. وربما يكون هذا سبب خطفت الحكومة العراقية الرعايا القطريين في العراق من أجله ونسبته للمليشيات والجماعات الإرهابية لإبتزاز دولة قطر ودورها المحوري تجاه قضايا أمتها. كل وارد وكل سبب متوقع فلا ثوابت سياسية نستند عليها للنفي او التأكيد .

2- التدخل التركي العسكري في العراق:

وقد ترتبط عملية اختطاف الرعايا القطريين بهذا التدخل ففي جلسة الافتتاحية لمؤسسة الفكر العربي بمقر الجامعة العربية التي انعقدت في السادس من كانون الأول/ديسمبر من العام الماضي أدان حينها الأمين العام للجامعة نبيل العربي ما أسماه بـ”التوغل ” التركي في العراق ووصفه بأنه تدخل “سافر” في أراضي دولة عربية ويتعارض مع كل المواثيق الدولية وقرارات الأمم المتحدة.

بعد هذه التصريح بساعات قليلة فقط صرّح رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي للإعلام العربي والعالمي بالقول “كل الخيارات مطروحة إذا لم تسحب تركيا قواتها (من العراق) خلال 48 ساعة”…! والذي يثير الدهشة والاستغراب هنا، انه بعد تصريحه بعشرة أيام تم اختطاف الرعايا القطريين …!.

الكل يدرك أن الدور التركي في بيئة الشرق الأوسط في عهد حزب العدالة والتنمية ازداد قوة ونشاطًا لاسيما بعد الاحتلال الأمريكي للعراق في العام 2003م، وتميز هذا الدور بشكل إيجابي بعد الربيع العربي تحديداً إذ فرضت تركيا نفسها كقوة معادلة للكفة الإيرانية وعززت علاقاتها مع مع بعض دول الخليج العربي، وهنا تبرز بين العلاقة “التركية القطرية ” حيث ادركت دولة قطر ببعد نظرها وبفطنتها السياسية المعتادة أوجه التقارب بين مواقفها وبين مواقف تركيا التي تعبر في مجملها عن آمال الشعوب العربية والإسلامية فتمازجت معها سياسيا في حلف قد يجعل من استغلال حادثة اختطاف القطريين وسيلة ضغط على تركيا وسبب يجبرها على سحب قواتها التي “توغلت” في العراق حسب وصف بيان الجامعة العربية .

وفي هذا الإطار لا يستبعد أن تكون إيران بفعل نفوذها في العراق أن تكون لها يد في اختطاف الرعايا القطريين ليتم التفاوض على خروج القوات التركية مقابل اطلاق سراحهم ، خصوصا وان ايران حليف مميز لروسيا التي تعتبر الخصم اللدود لتركيا …!

يعتبر هذا احتمال وارد أيضا وقد يفسر طلب المرجع الشيعي علي السيستاني إطلاق سراح جميع المواطنين القطريين وكأنه يعلم من يخاطب ، فسحر الشيوخ يعمي البصيرة السياسية دائما على كافة المستويات الشعبية والحكومية والمرجعية …!

مما تقدم يمكن القول أن المستهدف من عملية اختطاف الرعايا القطريين في العراق ليس الرعايا القطريين وإنما السياسة الخارجية القطرية النشطة تجاه قضايا العربية الساخنة والوجودية في العراق وسوريا ولبنان إذ شهدت هذه السياسية في السنوات الأخيرة -لاسيما مع تداعيات ثورات الربيع العربي- انتقال دولة قطر من دبلوماسية الوساطات إلى دبلوماسية التأثير، ولا شك في أنّ السياسة الخارجية لدولة قطر تتمتع بمزايا تنافسية عديدة يساعدها في ذلك مصادر الدخل الهائلة التي تملكها والمتأتية من إنتاج وتصدير مصادر الطاقة (النفط والغاز)، والاستثمارات التي تضخها خارج حدود البلاد.

لقد بدأت دولة قطر تبرز كقوة إقليمية صاعدة منذ بدايات العقد الأول من الألفية، مستفيدةً من دخل وطني كبير، ومن ظرف استثنائي تمثل في فراغ كانت تشغله قوى إقليمية كبرى كمصر والعراق، ومن عُزوف الولايات المتحدة الأميركية عن الخوض في صراعات وحروب جديدة في المنطقة بعد تجربتيها القاسيتين في كل من أفغانستان والعراق.

يبقى مبدأ الوساطة الذي اعتمدت عليه السياسة الخارجية القطرية خلال العقد الأول من الألفية، أحد أهم معالم تلك السياسة، حيث أسست الدوحة نموذجًا -يحمل العلامة (الماركة) القطرية- في حل النزاعات الإقليمية والدولية، ويبدو أنها ماضية في سعيها إلى إعادة إحياء وتنشيط ذلك المبدأ الذي استطاعت الدوحة من خلاله في مرحلةٍ ما، أن ترسم صورةً ذهنية لها في العقل الباطن للمجتمع الدولي، مرتبطةً بأدوارها الإيجابية التي حققتها في هذا المجال، حتى بات يُطلق على الدوحة في بعض الأدبيات الغربية “جنيف المشرق”. فلكي تتوسط دولة قطر بالافراج أو تخفيف الحكم عن المعارض السعودي الشيعي نمر باقر النمر قبل إعدامه من قبل المملكة العربية السعودية في مطلع هذا العام، لا يتطلب الأمر القيام بأعمال عصابات إجرامية يتمثل باختطاف رعايا قطريين للقيام بهذا الأمر، أو المقايضة بين المختطفون والمعارض السعودي، فدولة قطر مشهود لها بهذا الدور على المستوى العربي والإسلامي والعالمي.

إنّ تحول دولة قطر إلى مرحلة التأثير في القضايا الإقليمية والدولية بعد انطلاقة شرارة ثورات الربيع العربي، كان بمثابة مرحلة انعطاف في نهج السياسة الخارجية الذي تبنته الدوحة، مستفيدةً في ذلك من أدوات قوتها الناعمة متعددة الأبعاد والتي عملت على بنائها وتعزيزها خلال أكثر من عقد من الزمن. هذا التغير في نموذج السياسة الخارجية وإن كان مرحليًا، أبرز أن الدوحة يمكن لها أن تتبنى خيارات استراتيجية متعددة معتمدةً على استقلال قرارها؛ ما يعكس مرونة السياسة الخارجية للدولة، تلك السياسة التي ترتكز على أسس النظرية الواقعية، إحدى نظريات العلوم السياسية التي تُعنى بتحليل السياسات الخارجية للدول.

وما زاد من فاعلية السياسة الخارجية القطرية في هذه المرحلة التاريخية الحرجة وصول الشيخ تميم بن حمد آل ثاني إلى رأس هرم السلطة في دولة قطر في الخامس والعشرين من شهر يونيو/حزيران 2013  إذ إجراء تغييرًا في أسلوب إدارة الدبلوماسية القطرية، وذلك تماشيًا مع عدد من المتغيرات التي طرأت على مجريات الأحداث الإقليمية لاسيما في كل من لبنان والعراق وسوريا،كما أن أدوات السياسة الخارجية القطرية شهدت تطورًا لافتًا ضمن إطار مفاهيم القوة الناعمة والقوة الذكية. كما أن تعززت علاقة دولة قطر مع كل من المملكة العربية السعودية وتركيا حيث وصلت مستوى التحالف لمواجهة النفوذ الإيراني في  العراق وسوريا ولبنان واليمن.

                 وحدة الدراسات العربية

مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية