هل يتزايد النفوذ الاقتصادي لقوات “الحشد الشعبي” داخل العراق؟

هل يتزايد النفوذ الاقتصادي لقوات “الحشد الشعبي” داخل العراق؟

الحشد الشعبي

قاد صعود قوات “الحشد الشعبي” العراقية بالمشهد السياسي العراقي بدءًا من منتصف عام 2014 باعتبارها القوة الرئيسية في مواجهة تمدد تنظيم “داعش”، إلى تصاعد موازٍ للمكاسب الاقتصادية التي يتلقاها هذا التنظيم المستحدث. وكمؤشر هام على ذلك، فقد بدت مخصصات هيئة “الحشد الشعبي” بالموازنة العراقية الحالية ثلاثة أمثال مبالغ موازنة العام الماضي تقريبًا. وواقع الأمر أن القوة الحالية لقوات “الحشد الشعبي” قد تترجم في أقرب وقت إلى صيغة تشريعية وتنفيذية وأمنية نافذة داخل المشهد العراقي، وهو ما قد يخلق مساحة أوسع للمكاسب الاقتصادية مستقبلا، وربما الأكثر أهمية الآن أن الدور الأمني لتلك القوات لم يعد يقتصر على مجرد مواجهة “داعش”، وإنما تُوكل إليها بعض المهام الأمنية الأخرى لحماية المنشآت العامة، لا سيما النفطية.

 وقد يبدو جديرًا بالاهتمام في هذا السياق أيضًا عقد مقاربة محدودة بين المكاسب الاقتصادية التاريخية التي حققتها مؤسسات مشابهة بإيران مثل “الحرس الثوري” أو قوات “الباسيج” من ناحية، وقوات “الحشد الشعبي” بالعراق من ناحية أخرى. وتقودنا النتيجة الأولية لهذه المقاربة إلى أن الامتيازات والمصالح الاقتصادية المباشرة وغير المباشرة التي حصلت عليها المؤسسات الإيرانية أكبر بكثير -من دون شك- من قوات “الحشد الشعبي”، ولكن التشابه العقائدي والسياسي بينهما قد يدفع الأخيرة إلى اكتساب مزيدٍ من النفوذ داخل الاقتصاد العراقي، في ظل ظروف سياسية مواتية وعلاقات قوية تجمعها بإيران.

مكاسب المعركة:

 قبل أن يُصادق الرئيس العراقي فؤاد معصوم على قانون الموازنة المالية للدولة لعام 2016، دخلت الحكومة العراقية وقوات “الحشد الشعبي” في مفاوضات صعبة امتدت على مدار عدة شهور من أجل تحديد مخصصات الأخيرة بالموازنة، ولقد بدت قوات “الحشد” أكثر قوةً في مطالبها بزيادة مخصصاتها. فرغم أنها لم تنجح في تحقيق انتصارات واسعة أمام تنظيم “داعش”، إلا أنها -من دون شك- اكتسبت ثقلا كبيرًا بعدما كسبت معارك تحرير عدة مدن عراقية -على رأسها تكريت- قبل منتصف 2015. لكن الواقع الاقتصادي المتباطئ للعراق عقب تراجع أسعار النفط إلى ما دون 40 دولارًا للبرميل، يعني أن استجابة الحكومة لمطالب القوات بزيادة مخصصاتها لن تنجح كثيرًا. فطبقًا لتوقعات موازنة 2016 ستنخفض مجمل إيراداتها بنسبة 13% عن الموازنة السابقة لتصل إلى حدود 71 مليار دولار.

وحسبما يذكر الموقع الإلكتروني لهيئة “الحشد الشعبي”، فإن الأموال التي تحصّلت عليها قوات “الحشد”، التي تحولت فيما بعد إلى هيئة حكومية، من موازنة 2015، تبلغ قرابة 1.2 تريليون دينار عراقي، أي ما يُعادل مليار دولار تقريبًا. ولم يُلَبِّ حجم المخصصات السابقة سقف طموحات قياديي قوات “الحشد الشعبي” الذين يرغبون في أن يوفر الإطار القانوني العراقي لهم قوةً نخبويةً، كما يقول أحد الأسدي المتحدث باسم القوات: “نريد قانونًا يحمي الحشد الشعبي ويقويه، ويوفر لنا قوة نخبوية اتحادية”.

وللعلم فإنه منذ أن أطلق المرجع الديني الشيعي علي السيستاني فتوى “الجهاد الكفائي” في يونيو 2014 لحث العراقيين على مواجهة “داعش”، والمحافظة على وحدة وأمن العراق؛ بادر آلاف العراقيين للتطوع، بيد أن العدد الفعلي للمقاتلين حاليًّا تراوح بين 100 ألف إلى 130 ألف مقاتل، وهو أكبر من تعداد بعض الجيوش النظامية حول العالم.

هذا، وتُشير تقديرات قوات “الحشد الشعبي” إلى أن الميزانية التي يحتاج لها الحشد تُقدر بـ4 تريليونات دينار (أي ما يوازي 3.5 مليارات دولار). وكحلٍّ وسطٍ على ما يبدو قد يُرضي كلا من الحكومة وقوات “الحشد”، وافق البرلمان العراقي على تخصيص مبالغ في حدود 3 تريليونات دينار (أي ما يوازي 2.6 مليار دولار) كمرتبات ومعدات لازمة لها، طبقًا لما أعلنه رئيس اللجنة المالية النيابية فالح الساري عقب إقرار البرلمان الموازنة بنهاية ديسمبر الماضي، لتشكل 3.6% من إجمالي النفقات الحكومية. وقد كانت الزيادة السابقة في المبالغ المرصودة لقوات “الحشد” عبر موازنتي 2015 و2016، نتيجة الضغوطً المتنامية التي مارستها الكتل البرلمانية والمرجعيات الدينية في آن واحد، على مدار الأشهر الماضية، من أجل تأمين الأموال الكافية لقوات “الحشد”.

نفوذ متزايد:

ثمة مؤشرات متعددة تؤكد تصاعد قوات “الحشد الشعبي” بالمشهد السياسي والاقتصادي العراقي، يتمثل أبرزها فيما يلي:

1- محاولات المأسسة: من أجل إضفاء الصبغة الرسمية والقانونية على قوات “الحشد الشعبي” قبل نهاية ولايته، أصدر رئيس الوزراء السابق نوري المالكي الأمر الديواني رقم (47) لسنة 2014 بتشكيل لجنة “الحشد الشعبي”. وكتطور مؤسسيٍّ آخر، أصدر مجلس الوزراء العراقي في جلسته المنعقدة في أبريل 2015 قرارًا يُلزم الأجهزة الرسمية العراقية بالتعامل مع قوات “الحشد الشعبي” باعتبارها هيئة رسمية ترتبط برئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة. وكما يبدو فإن هذا التطور المؤسسي يعكس واقعًا نخبويًّا جديدًا لهذه القوات داخل العراق، بجانب قوات الشرطة والجيش العراقي. وحتى الآن، لا تعمل قوات “الحشد” طبقًا لإطار قانوني محدد، ولكن تجري المساعي الحكومية والبرلمانية إما لإدماج هذه القوات تحت مشروع قانون “الحرس الوطني”، أو سن مشروع قانون خاص لقوات “الحشد” تنخرط ضمنه.

2- دور أمني متزايد: تبقى قوات “الحشد الشعبي” القوة الحقيقية الفاعلة في حفظ الأمن بالعراق، لا سيما بعد أن فشلت مؤسستا الجيش والشرطة في الاختبار الصعب أمام تنظيم “داعش” في منتصف 2014. ويعقد المسئولون العراقيون الأمل على قوات “الحشد الشعبي” في استتباب الأمن. وكأحد أهم الشواهد الدالة على ذلك، أعلنت قيادة الشرطة في محافظة المثنى، في أوائل يناير الجاري، أنها بصدد تكليف فصائل “الحشد الشعبي” بمهام أمنية، مثل حماية المنشآت العامة والخاصة والمناطق الصحراوية المفتوحة. ومثل هذا الاعتماد لا يُعد الأخير من نوعه، إذ يجري -بحسب شواهد أخرى- تأمين المنافذ الحدودية، والسيطرة على الأوضاع الأمنية بالمدن المحررة وغيرها من المهام.

3- سخاء مالي: الالتزامات المالية الحالية التي أعلنتها الحكومة الحالية لتمويل قوات “الحشد” لم تلبِّ توقعات قياديي “الحشد” المتصاعدة، ولكنها في الوقت نفسه عبرت عن حيز مالي متاح أمام قوات “الحشد” قد يتسع مستقبلا. الواقع الراهن يعكس سخاء من قبل الحكومة التي استقطعت 3% من مجمل الرواتب الحكومية بموازنة 2016 وأعادت نقل 60% منها إلى هيئة “الحشد الشعبي”. كما نقلت 100 مليار دينار عراقي (أي نحو 90 مليون دولار) من مخصصات دائرة نزع السلاح ودمج المليشيات إلى هيئة “الحشد الشعبي”. فيما نقلت 3% من مجموع المستلزمات الخدمية والسلعية وصيانة الموجودات والنفقات الرأسمالية إلى هيئة “الحشد الشعبي” ووزارة الهجرة والمهجرين مناصفة. وكمصدر تمويلي آخر، بادرت كثير من الشركات العراقية ورجال الأعمال والمؤسسات الاجتماعية بتقديم دعم مالي لأفراد “الحشد”، سواء القتلى أو المصابين، علاوة على رعاية ذويهم.

استنساخ محتمل:

 على الرغم من أنه من السابق لأوانه عقد مقاربة بين مؤسسات عتيقة بالنظام السياسي وأخرى مستحدثة، فإنه قد يبدو جديرًا بالاهتمام إجراء مقاربة بين الأدوار الاقتصادية لقوات “الحرس الثوري” أو قوات “الباسيج” الإيرانية من ناحية وقوات “الحشد الشعبي” من ناحية أخرى، حيث تتشابه بدايات النشأة، وتتطابق العقيدة الدافعة لكل من المؤسسات السابقة، بيد أنه ينبغي تأكيد أن الأطر القانونية والتنظيمية لقوات “الحشد” لا تزال تحت طور التشكيل. ولكن على أية حال،هناك قواعد مشتركة قد تجعل الطموح الاقتصادي للاثنين متقابلان. باختصار، يتشابه الطرفان في آليات التأسيس والتمويل. فعلى صعيد التأسيس، أُسست المنظمتان بناءً على فتوى دينية شيعية، حيث تم تأسيس “الحشد الشعبي” بناءً على فتوى “الجهاد الكفائي” للمرجع الديني علي السيستاني في يونيو 2014، فيما أُسست أيضًا قوات “الحرس الثوري” بناءً على مرسوم من الخميني. أما على مستوى الدعم المالي، فيتلقى كل منهما تمويلا محددًا في الموازنة الإيرانية والعراقية على حد سواء.

 ولكن، من دون شك، فإن تجربة “الحشد الشعبي” لا تزال غير ناضجة، ولم يحصل بعد على الامتيازات المأمولة، بل يعتمد على أنشطة تمويلية قائمة على التبرعات والتمويل الحكومي المحدود، وهو ما يُعد ضئيلا للغاية أمام ما يمتلكه “الحرس الثوري” الإيراني من مؤسسات إنتاجية تشغل حيزًا واسعًا من الاقتصاد الإيراني، وتشارك بكافة الأنشطة الاقتصادية. لكن ربما يمكن القول إن هناك أربعة عوامل رئيسية قد تدفع نحو استنساخ النموذج الإيراني، وهي:

1- رغبة قوات “الحشد الشعبي” في بناء طبقة نخبوية سياسية من أجل زيادة قدرتها على اختراق شبكة المصالح الاقتصادية بالعراق.

2-تزايد احتمالات سيطرتها الفعلية على حركة الموارد الاقتصادية والتجارة من وإلى العراق، نظرًا لدورها الأمني المتصاعد وتنفيذها مهامًا أمنية متعددة.

3- اتجاهها نحو ممارسة أنشطة اقتصادية جديدة كمورد مُستدام لدعم كفاءتها العسكرية، خاصة في ظل التمويل المتأرجح من قبل الحكومة العراقية.

4- التقارب الحالي الذي يجمع بين قوات “الحشد” وإيران، حيث قدمت الأخيرة دعمًا عسكريًّا ولوجستيًّا لأفراد التنظيم قد تستثمره في تحقيق مكاسب اقتصادية إضافية بالسوق العراقي، خاصةً أن إيران تتطلع لأن تصبح الشريك التجاري الأول للعراق، بالإضافة إلى رغبتها في المشاركة بمشروعات البنية التحتية وإعادة إعمار العراق. وربما لن يتأتي هذا الهدف بقوة دون تكريس النفوذ الاقتصادي لقوات “الحشد الشعبي” مستقبلا.

بناءً على الاستعراض السابق، قد يبدو أن المكاسب الاقتصادية التي تحققها قوات “الحشد الشعبي” ضئيلة ومحدودة الآن، بيد أنها -من دون شك- ستتعاظم مع إيجاد صيغة تشريعية وتنظيمية مستقرة لهذه القوات، كما سيكون التعاون مع إيران الحافز الرئيسي لاتساع نفوذها داخل الاقتصاد العراقي.

المركز الإقليمي للدراسات الاستراتجية