بعد ظهر الثاني عشر من كانون الثاني/ يناير، احتجزت زوارق دورية تابعة لـ «فيلق الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني عشرة أفرادٍ تابعين للبحرية الأمريكية قرب جزيرة فارسي الإيرانية شمالي الخليج العربي، وقد ادّعت إيران أنّ الزورقَين الأمريكيين دخلا المياه الإيرانية. ومن جانبها، تفرض طهران منطقةً عازلة حول الجزر على مسافة نحو 19 كلم، وهي حدودٌ يتمّ احترامها بشكلٍ عام ولكن غير معترف بها رسمياً من قبل البحرية الأمريكية.
وكان البحّارة الأمريكيين يركبون زورَقي قيادة للمياه الضحلة من طراز “سي بي-90″، يبلغ طول الزورق 15 متراً وكلاهما مزوّدان بمدافع رشاشة خفيفة. وقد ذكرت بعض التقارير أنّ البحّارة كانوا في مهمة تدريبية في طريقهم من الكويت إلى البحرين حيث تقع قاعدة الأسطول الخامس للبحرية الأمريكية، فاقتيدوا إلى الجزيرة للتحقيق معهم ومن ثمّ أُطلقَ سراحهم مع معّداتهم بسرعة نسبياً، بعد بذل نشاطٍ دبلوماسي مكثّف. وعلى الرغم من الإفراج عنهم، إلّا أنّه لا مفرّ من الحديث عن رمزية هذه الحادثة بالنسبة إلى «الحرس الثوري» الإيراني.
ونظراً لموقع جزيرة فارسي الصغيرة وسط الممرّات الملاحية الخليجية المهمة، فقد شكّلت هذه الجزيرة قاعدةً مهمةً لـ «الحرس الثوري» منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي، عندما استخدمتها الزوراق الحربية التابعة لـ «الحرس الثوري» لشنّ هجماتٍ استهدفت حركة الشحن الدولي. وفي 24 تموز/ يوليو 1987، أصاب لغمٌ بحري زرعه اللواء الثاني في بحرية «الحرس الثوري» ناقلة النفط، “أس أس بريدجتون”، التي تغيّرت هويتها من أمريكية إلى كويتية، وذلك أثناء إبحارها على بعد 21 كلم غربي جزيرة فارسي. واللواء الثاني في البحرية الإيرانية هو الجهة نفسها التي احتجزت البحّارة الأمريكيين في وقتٍ سابقٍ من هذا الأسبوع. ولمواجهة أنشطة زرع الألغام من هذا القبيل، وضعت البحرية الأمريكية بارجةً معدَّلة باسم “أم أس بي هيركوليس” غربي الجزيرة في تشرين الأول/ أكتوبر 1987. وبعد يومين، تأهّبت الزوراق الإيرانية المسلّحة لمهاجمة البارجة ونصب كمينٍ لمروحياتها، غير أنّ “القوات الخاصة” التابعة للبحرية الأمريكية (“سيلز”) و”قوات العمليات الخاصة” التابعة للجيش الأمريكي تصدّت لها، مما أدّى إلى إصابة عشرة إيرانيين وخسارة مركبَين إيرانيين خلال الاشتباكات اللاحقة. ومن جهتها، اتّهمت إيران البحرية الأمريكية بتعذيب السجناء الإيرانيين. وحتى يومنا هذا، لا تزال الجمهورية الإسلامية تشعر بالاستياء لخسارتها الجولة الأخيرة من “حرب الناقلات” بسبب زيادة عديد قوات “العمليات الخاصة” الأمريكية في شمال الخليج. وفي هذا السياق الواسع، تأتي حادثة الثلاثاء – فضلاً عن أحداثٍ أخرى مماثلة – لتساعد في رفع معنويات «الحرس الثوري» الإيراني وسط خسائره المستمرّة في سوريا، ولتذكّر المتشدّدين الإسلاميين في إيران كم تطوّرت القدرات الإيرانية منذ تلك الاشتباكات السابقة.
ويُعتبر احتجاز الجنود الأمريكيين على يد البحرية التابعة لـ «الحرس الثوري» المرة الثانية خلال أسبوعين التي تصدّرت فيها البحرية الإيرانية العناوين بفعل أعمالها العدوانية في الخليج العربي. ففي 29 كانون الأول/ ديسمبر، أطلقت مجموعة من الزوارق البحرية التابعة لـ «الحرس الثوري» صواريخ من طراز “فلق” عيار 107 ملم على أهدافٍ وهمية أثناء تقفّي أثر السفينة الحربية الأمريكية “هاري أس ترومان”، التي كانت تمرّ في “مضيق هرمز” المزدحم على بعد نحو 1371 متراً. وعلى الرغم من أنّ الحادثة قد التُقطت من قبل الكاميرات الحرارية الأمريكية، إلّا أنّ «الحرس الثوري» نفى تورّطه فيها. ومع ذلك، تمّ البعث برسالة واضحة بغية تحقيق هدفٍ غير متماثل يكمن في ملاحقة أهدافٍ ذات قيمة عالية. وفي كلتا الحادثتين، أشارت إيران إلى الجيش الأمريكي بأنّها تحتجز نخبة الجنود الأمريكيين وأنّها على استعداد لاتّخاذ التدابير اللازمة للدفاع عن مصالحها الإقليمية.
هذا، وكان اللواء حسن فيروز أبادي، الذي يرأس هيئة الأركان العامة للقوات المسلّحة الإيرانية، قد حذّر الكونغرسَ الأمريكي في 13 كانون الثاني/شباط، من اتخاذ أيّ تدابير قد تعرّض للخطر تنفيذ «خطة العمل المشتركة الشاملة» [للبرنامج النووي الإيراني]، ناصحاً أعضاء الكونغرس باستقاء الدروس من هذا الفصل الأخير.
وفي ما يتعلّق بالديناميات الداخلية في إيران، من المحتمل أن تكون حكومة الرئيس حسن روحاني قد عملت جاهدةً لتأمين الإفراج عن أفراد القوات الأمريكية بسرعة، بيد أنّ المتشدّدين الإيرانيين حرصوا على عدم إطلاق سراحهم قبل خطاب “حالة الاتحاد” الذي ألقاه الرئيس الأمريكي باراك أوباما، وذلك بهدف تعظيم الأثر المُذلّ لهذه الحادثة.
وتشير هذه الحوادث الأخيرة إلى أنّ المتشدّدين المهيمنين العاملين بتوجيهات المرشد الأعلى علي خامنئي متحمّسون للردّ على ما اعتبروه تدخّلاً أمريكياً في الشؤون الداخلية الإيرانية وللتأثير في الشؤون الداخلية للولايات المتحدة كلّما أمكن ذلك. وبالتالي، لن يتفاجأ المرء إذا قرّر، على سبيل المثال، قائد سلاح البحرية في «الحرس الثوري» الإيراني علي فدوي أن يربط التوتّرات في الخليج العربي بالتراجع الأخير في أسواق الأسهم في الولايات المتحدة.
ويُعدّ «فيلق الحرس الثوري الإسلامي» أولاً وقبل كلّ شيءٍ هيئةً دينية شيعية، أُسّسَت لفرض توازن مع القوات المسلّحة الوطنية التي لا تزال على علمانيتها ولحماية الثورة الإسلامية. ولـ «الحرس الثوري» قوّاته البرية والبحرية والجوية الخاصة به ويمتثل، من دون جدل، لـ “ولاية الفقيه”، وهي العقيدة التي تمنح المرشد الأعلى سلطته. وقد شاءت الصدف أن يكون سلاح البحرية من أكثر قوات «الحرس الثوري» حماسةً وإخلاصاً. إن الحقيقة المحضة لوقوع حوادث كالذي وقع هذا الأسبوع تحدث دائماً تقريباً في الخليج العربي و”مضيق هرمز”، حيث يبسط «الحرس الثوري» سلطته، إنّما يوحي بأنّ سلاح البحرية الإيرانية الآخر، أي البحرية الوطنية العاملة في المياه العميقة في خليج عمان وبحر العرب، يعتمد في المقابل نهجاً يتّسم بمهنية وبرودة أعصاب أكبر.
وبينما يستخدم سلاحا البحرية الإيرانيان المنفصلان تكتيكاتٍ ومعدّاتٍ مختلفة، تبقى القرارات التنفيذية بشأن مسائل حيوية، مثل احتجاز السفن الأجنبية المدنية أو العسكرية أو إغلاق “مضيق هرمز”، بيد المرشد الأعلى مباشرةً، وهذا ما أكّده فيروز أبادي، حيث أنّ “مجلس الأمن القومي” يكتفي بتقديم المشورة لخامنئي.
وفي أعقاب إطلاق الصواريخ، واحتجاز الأفراد، وتداول صور مهينة للبحّارة الأمريكيين وهم مجرّدين من أسلحتهم ورافعين أيديهم خلف رؤوسهم، أصبحت التوتّرات مرتفعةً بين الولايات المتحدة والقوات البحرية في «الحرس الثوري». ولمنع أيّ تصعيدٍ إضافي، ينبغي على الدولتين التصرّف بحكمةٍ. وعلى الرغم من أنّ إيران رفضت ذات مرةٍ فكرة إنشاء خطٍ ساخن مع البحرية الأمريكية لمثل هذه الظروف بالضبط، إلّا أنّ الوقت الحالي قد يكون هو المناسب لإعادة النظر في هذا الخيار.
فرزين نديمي
معهد واشنطن