صادف الرابع عشر من كانون الثاني/يناير الذكرى الخامسة للإطاحة بالحاكم التونسي المستبد زين العابدين بن علي الذي أمضى فترة طويلة في الحكم، ضمن انتفاضة أطلقت شرارة ثورات “الربيع العربي” في المنطقة. ومن بين الدول التي تشهد اضطرابات منذ عام 2011، لا تزال تونس البلد الوحيد الذي يسلك طريق الديمقراطية. ولم يكن هذا الطريق سهلاً دائماً، وتواجه البلاد عقبات اقتصادية وسياسية وأمنية ملحوظة في طريقها نحو ترسيخ الديمقراطية بالكامل. ولكن بعد خمس سنوات من انطلاقها، قطعت التجربة التونسية في الديمقراطية أشواطاً كبيرة وتبقى جديرة بالاستثمار الأمريكي.
أسباب للاحتفال
تميز انتقال تونس بعيداً عن الاستبداد بطابع سلمي على نحو لافت للنظر، لا سيما عند مقارنته بحالات ليبيا ومصر وسوريا واليمن. إن انخفاض مستوى النزاعات الداخلية يعكس جزئياً خطاً واقعياً غاب عن عمليات الانتقال في الدول الأخرى. لنأخذ على سبيل المثال القرار (المتنازع عليه بشدة) الذي اتخذ في ربيع 2011 بعدم منع أعضاء الحزب الحاكم السابق من المشاركة في الحياة السياسية. فمثل ذلك الحظر كان سيشير على الأرجح إلى الثوار الذين نزلوا إلى الشوارع للمرة الأولى في كانون الأول/ديسمبر 2010 بأن تغييراً أكثر عمقاً يحوم في الأفق، ولكنه كان سيستبعد أيضاً ما يقرب من مليون مواطن (من أصل 11 مليون نسمة) من العملية السياسية. فقد أدت جهود عقابية مماثلة لإقصاء عناصر من أنظمة ما قبل “الربيع العربي”، بغض النظر عن مبرراتها، إلى نتائج كارثية في ليبيا ومصر، وبالتالي ربما جنبت تونس نفسها اضطرابات اجتماعية كبيرة من خلال عدم السير في هذا الاتجاه.
وقد ميزت الواقعية أيضاً السلوك السياسي للأطراف الفاعلة المهيمنة ما بعد الثورة. لنأخذ مثلاً قرار حزب “النهضة” الإسلامي وحزبين علمانيين بتشكيل ائتلاف حاكم بعد الانتخابات البرلمانية الحرة والنزيهة الأولى في البلاد في تشرين الأول/أكتوبر 2011. ويمكن أيضاً أن نأخذ كمثال رضوخ حزب “النهضة” في النهاية لأولئك الذين عارضوا مقتراحاته بإدراج الشريعة في الدستور وتجريم التجديف. وبالمثل، عادت الأيديولوجية إلى المقعد الخلفي عندما انضم حزب “نداء تونس” المناهض للإسلاميين والتابع للرئيس التونسي الباجي قائد السبسي إلى ائتلاف مع حزب “النهضة” في أعقاب الانتخابات البرلمانية عام 2014.
وقد ساهمت مثل هذه القرارات في الحفاظ على استقرار عملية الانتقال، ولكنها لم تكن من دون ثمن. فمن جانب العلمانيين، أدى خيار الحكم إلى جانب حزب “النهضة” إلى تأجيج التوتر مع حزب “نداء تونس”، مما عكس جزئياً خلافاً حول ما إذا كان يجب العمل مع الإسلاميين على الإطلاق. وقد أدت النزاعات الداخلية ضمن حزب “نداء تونس” إلى سلسلة استقالات في صفوف الحزب في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي ومجدداً في الأسبوع الماضي، مما خفّض من مجموع مقاعده وجعل مجدداً حزب “النهضة” أكبر حزب في البرلمان، مع 69 مقعداً.
ومن جانبها، أدت تنازلات حزب “النهضة” خلال عملية صياغة الدستور إلى إبعاد بعض مناصري الحزب، وهو الأمر بالنسبة إلى قرار الانضمام إلى ائتلاف مع مناهضين للإسلاميين كانوا ناشطين سياسياً في عهد النظام السابق. وقد أجل حزب “النهضة” مراراً عقد مؤتمر رسمي للحزب في الوقت الذي تستمر فيه النقاشات الداخلية حول طبيعة هويته الإسلامية والعلاقة بين أنشطته السياسية والدينية.
وباختصار، لقد دفعت الأطراف السياسية الرئيسية الفاعلة ثمناً مقابل اعترافها بأن عملية الانتقال الدقيقة تتطلب حداً أدنى من التوافق. وفي المراحل التي كان فيها الإجماع بعيد المنال، بقيت منظمات المجتمع المدني الناشطة في تونس مصدراً أساسياً للضغط، حرصاً على وفاء الطبقة السياسية بوعودها الديمقراطية. وفي تشرين الأول/أكتوبر الماضي، منحت “لجنة نوبل” “جائزة السلام” لعام 2015 لأربع منظمات من المجتمع المدني التونسي تقديراً لوساطتها الناجحة في الخلافات السياسية التي قد هددت بإفشال عملية الانتقال قبل عامين. كما لعبت هذه المنظمات أيضاً دوراً في المكاسب المؤكدة التي حققتها البلاد في ما يتعلق بالحرية منذ الانتفاضة. ولم تشمل هذه المكاسب كافة المنظمات، كما أظهرت القيود المفروضة مؤخراً على المنظمات المعنية بحقوق المثليين. ولكن بصورة عامة، تمكن المجتمع المدني المزدهر في تونس من التصدي للقضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بطرق غير مسبوقة، الأمر الذي ساهم في خلق انطباع بأنه لا عودة عن قضايا مثل حرية التعبير، وعدم التسامح مع أي عودة إلى ممارسات إنفاذ القانون التي كانت سائدة في الدولة البوليسية قبل عام 2011.
أسباب للقلق
ومع ذلك، سيتم إحياء الذكرى في ظل ضائقة اقتصادية مستمرة، وانعدام استقرار سياسي متنامٍ، وتهديدات أمنية متواصلة. وكانت الناحية الأكثر كآبة لعملية الانتقال اقتصادية. فبالنسبة لعدد كبير من التونسيين، خصوصاً الذين يعيشون في المناطق الداخلية المهملة بشكل مزمن، لم تؤدِ الانتفاضة إلى تحسن اقتصادي كبير، وحتى جعلت الأوضاع أكثر سوءاً في بعض الحالات. ففي المحافظات التي انطلقت منها التظاهرات، تبلغ نسبة البطالة ما يقارب 25 بالمائة وبلغت 40 بالمائة في صفوف الشباب. كما ازداد التهريب عبر الحدود الليبية والجزائرية، ويعود ذلك جزئياً إلى أن الدولة ما زالت مترددة في قمع التهريب خشية حرمان المواطنين من هذا الدخل، بالرغم من أن طرق التهريب هذه لا تُستخدم فقط لنقل البضائع مثل الزيت والطعام، بل أيضاً الأسلحة والإرهابيين. وتجدر الإشارة إلى أن قرضاً من “صندوق النقد الدولي” يعود لعام 2013 بقيمة 1.6 مليار دولار قد استحق الشهر الماضي، ويبدو “الصندوق” متردداً في تقديم قرض تالٍ لحين تطبيق إصلاحات بنيوية أساسية.
إن أحد أسباب عدم تطبيق هذه الإصلاحات حتى الآن هو تباطؤ النشاط البرلماني في الأشهر الأخيرة، ويُعزى ذلك جزئياً إلى الخلل الحاصل داخل حزب “نداء تونس” وإجراء تعديلات سياسية مزعومة منذ مدة طويلة. وفي الأسبوع الماضي، أعلن رئيس الوزراء الحبيب الصيد تشكيل حكومة جديدة، وبينما يبقى الائتلاف الأساسي الأصلي للأحزاب على ما هو عليه، تم إدخال بعض المشرعين الجدد واستبعاد آخرين. وإذا حظيت حكومة الصيد الثانية بموافقة البرلمان، فستكون فعالة وفتية أكثر من سابقتها، وقد يضفي هذا الدم الجديد زخماً على عملية الإصلاح المتعثرة. فضلاً عن ذلك، استُحدث منصب وزير الشؤون المحلية للمساعدة على إدارة وزارة الداخلية، مما قد يمهد الطريق في النهاية لانتقال السلطة السياسية إلى المناطق والبلدات، وهي خطوة طال انتظارها. وتشير استطلاعات الرأي الأخيرة بتكليف من “المعهد الجمهوري الدولي” إلى أن أكثر من 80 بالمائة من التونسيين يعتقدون أن دولتهم تسير في الاتجاه الخاطئ، إذ أن انعدام الاستقرار السياسي المستمر قد يؤخّر الإصلاحات الضرورية للغاية ويزيد خيبة الأمل على نطاق أوسع تجاه عملية الانتقال.
وتواجه تونس أيضاً تهديدات أمنية مستمرة، من بينها الآثار الناجمة عن الحرب الأهلية الليبية وخلايا إرهابية يتم الكشف عنها محلياً بشكل روتيني واحتمال عودة حوالي 6000 تونسي من سوريا والعراق من الممكن أن يكونوا قد أُلحقوا بركب التطرف، وهم يشكلون أكبر مجموعة من المقاتلين الأجانب في تلك النزاعات. وقد أدى تفجير انتحاري في 24 تشرين الثاني/نوفمبر إلى مقتل 12 عنصراً من “الحرس الرئاسي” في وسط العاصمة تونس، مما قوض فترة الهدوء النسبي وقاد الرئيس السبسي إلى إعادة فرض حالة طوارئ لثلاثة أشهر، علماً أن تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش»)/«الدولة الإسلامية» أعلن مسؤوليته عن ذلك التفجير. ويستغرق إصلاح القطاع الأمني وقتاً طويلاً في أي بلد ويُعتبر شاقاً بشكل خاص في الدول التي تشهد فترات انتقالية. وبما أن المرحلة الانتقالية في تونس تجري في حي شديد الاضطراب، فإن بطء وتيرة الإصلاح يخلق ضغطاً إضافياً.
الانعكاسات على السياسة الأمريكية
في خطاب “حالة الاتحاد” الأخير الذي ألقاه الرئيس الأمريكي باراك أوباما في 12 كانون الثاني/يناير، أعاد التأكيد على دعم الولايات المتحدة لحلفائها، مشيراً إلى أنه “عندما يتعلق الأمر بكل قضية دولية مهمة، لا يتطلع العالم إلى بكين أو موسكو للقيادة، بل ينادينا”. وبالنسبة إلى تونس، سيكون الدعم والقيادة من قبل الولايات المتحدة أساسياً إذا ما أرادت تونس البناء على مكاسب السنوات الخمس الماضية، وترسيخ الديمقراطية في السنوات الخمس المقبلة. ونظراً لتخصيص الكونغرس الأمريكي مؤخراً 142 مليون دولار للمساعدات للسنة المالية 2016 (ما يتخطى طلب الإدارة بقيمة 7.5 مليون دولار)، يبدو أن المشرعين يقرون بذلك أن تونس لا تزال غير مستقرة بما يكفي لضمان الاستثمار المستمر فيها.
ولكن بالإضافة إلى المساعدات الثنائية، لا بد من إيلاء المزيد من الاهتمام لمصادر انعدام الاستقرار الإقليمية التي تهدد التجربة الديمقراطية التونسية. ويعني ذلك ممارسة القيادة الأمريكية في احتواء النزاع الليبي وحله في النهاية. كما يعني مراقبة التطورات في الجزائر عن كثب، حيث أن أزمة الخلافة المحدقة والاقتصاد المتردي والاضطرابات الاجتماعية المستمرة هناك قد تُغرق أكبر دولة أفريقية في حالة من الفوضى، الأمر الذي يترك تداعيات أمنية واضحة على تونس. وأخيراً، يعني ذلك تقديم المزيد من الدعم للحلفاء الأوروبيين والتنسيق معهم بصورة أكثر بينما يواجهون صعوبة كبرى في إدارة أزمة اللاجئين المتعاظمة وإعادة بناء اقتصاداتهم، التي تعتمد تونس عليها إلى حد كبير لتحقيق ازدهارها.
ساره فوير
معهد واشنطن