ترافق الإعلان عن تشكيل حكومة “الوفاق الوطني” الليبية مع حدوث تغيرات في الأوضاع السياسية، كان أهمها تفكك (أو انهيار) عملية الكرامة، التي شكلت طرفاً أساسياً في الأزمة، وهذه الحالة من التداعيات الأولية للاتفاق السياسي الليبي، مما يفتح الباب لحدوث تغيّرات أخرى، تتعلق بإعادة تشكيل السلطة التشريعية، وهذه المشاهد يمكن قراءتها في ضوء تحدياتٍ تواجه حكومة فايز السراج وسياستها في معالجة الأزمات، والتصدي للتحديات السياسية والاجتماعية.
وهناك إشكالات قانونية عديدة تواجه الحكومة. ولكن، وفق المادة 65 من الاتفاق السياسي، يقوم مجلس النواب والمؤتمر الوطني بتعديل الإعلان الدستوري، ليتضمن الأحكام العامة لاتفاق الصخيرات، ليتشكل وضع دستوري يمزج بين الوثيقتين، وبغض النظر عن الجدل بشأن حدوث فراغ قانوني، نتيجة تشكيل الحكومة، من دون إجراء التعديلات الدستورية اللازمة لمنحها الثقة، والبدء بمباشرة مهامها، مما يثير إشكالية ظهور ثلاث حكومات تتنازع حول الشرعية السياسية. وهنا، يمكن قراءة أحداث زليتن مؤشراً على دخول أطرافٍ أخرى للمشهد، لم يشملها الاتفاق، وتعمل على فرض واقعٍ يتناقض مع العملية السياسية.
وعلى الرغم من حجية الجوانب القانونية، تبدو الأبعاد السياسية أكثر أهمية، وهي تتمثل في حدوث توافق سياسي، يحفز على انعقاد مجلس النواب و”المؤتمر الوطني”، للانتقال إلى المرحلة الجديدة، لكن حالة التفكك الداخلية في كل منهما تحول دون التصديق على الاتفاق السياسي، أو إجراء التعديلات الدستورية اللازمة لتسيير الفترة الانتقالية، حيث أنه، في حال تعثر انعقاد المؤسستين، سوف تواجه حكومة الوفاق اهتزاز مشروعيتها في إدارة الدولة، لكنه يمكن التغلب عليها باعتماد الأمم المتحدة الأجسام التشريعية الجديدة.
وعلى الرغم من أن الاتفاق اجتهد في سد الثغرات القانونية، بالنص على اللجوء لهيئة “مجلس الحوار”، للنظر في النزاعات بين مؤسسات الدولة، فإن عدم وجود لائحةٍ لمجلس الحوار سوف يُضعف قدرته على التصدّي للمشكلات الانتقالية، كما أنه يواجه مشكلة أخرى، تتمثل في أن قسماً مهماً من عضويته هو، في الوقت نفسه، يتكّون من ممثلين عن البرلمان ومجلس الدولة.
ومع التقدم في تطبيق الاتفاق السياسي، حدثت تطورات مهمة، قد تؤدي إلى إعادة تشكيل الخريطة السياسية في الدولة، وهي لا تقتصر على تشكيل الحكومة، لكنها تمتد أيضاً إلى مكوناتٍ أساسية في الأزمة الليبية. فمن وجهة تشكيل حكومة الوفاق، تبدو ملامح عديدة ذات دلالة مهمة في مسار الاتفاق السياسي، فعلى الرغم من العقبات والتحديات المرتبطة بتسمية وزراء الحكومة، تمكّن مجلس رئاسة الوزراء من تشكيل حكومةٍ واسعةٍ تضم 24 وزيراً على أساس التوزيع الإقليمي، وذلك بعد جدل في تقليص عدد الوزارات، والتوسّع في الهيئات العامة، لعل أهم العقبات ما يتمثل في الالتزام بالجدول الزمني للاتفاق، وتماسك “مجلس الرئاسة”. ومن ثم، يشكل إعلان الحكومة مؤشراً مهماً على احترام هذا الجدول الزمني، كما أن تجاوز رئاسة الحكومة الخلافات حول اختيار وزير الدفاع، والتهديد بالاستقالة، يعد من مرونة الاتفاق التي حوّلت نظام التصويت، بالإجماع، إلى الأغلبية، مما ساعد في تجاوز عقبة اختيار وزير الدفاع، ومن المحتمل أن يساهم في معالجة المشكلات التي تمثل انقساماً في السياسة الليبية.
وسوف تكون السلطات التشريعية أمام تحدّي إعادة تشكيلها، فقد شهدت خريطتا مجلس النواب والمؤتمر الوطني تغيّرات جوهرية، سوف تؤثر على طبيعتهما، في الفترة الانتقالية الجديدة، لعل التفكك هو السمة المشتركة بين الجهتين التشريعيتين، فخلال مسيرة الحوار الوطني، صار من الصعوبة الحديث عن مؤسساتٍ تشريعية، حيث شارك مشرّعون كثيرون في اجتماعات روما (ديسمبر/كانون الأول 2015) وفي حوار الصخيرات، من دون تفويضٍ بالحضور أو التوقيع، ما زاد من التفكك الداخلي في المؤسستين. وزاد هذا الوضع من احتمال إعادة تشكيل السلطة التشريعية، خصوصاً مع اعتراف الاتفاق بشرعية النواب المؤيدين واستبعاد المعترضين، وصار مؤكّداً تشكيل مجلس الدولة بدون المعترضين من أعضاء المؤتمر الوطني، كما تزيد احتمالات إعادة تشكيل مجلس النواب الخلافات حول الموقف من الاتفاق بين رئيس المجلس ونحو 92 عضواً.
لم تتوقف آثار الاتفاق عند مستوى تفكيك الجهات التشريعية، أو تشكيلها، لكنها امتدت إلى الإجهاز على عملية الكرامة، حيث شكل استبعاد خليفة حفتر من وزارة الدفاع نقطة البداية في انهيار “الكرامة”، مما يفسح الطريق لبروز قوى وأطراف سياسية أخرى، تستند لخلفية جهوية أو سياسية. ولا يعد هذا التصنيف مشكلةً بحد ذاته، بقدر ما يمثل اختباراً لمنهج الحكومة في الاقتراب من سياسة حل الصراعات والمصالحة الوطنية والإعمار، خصوصاً في بنغازي، فالتقدم في هذه الملفات يتطلب وضع سياساتٍ لمعالجة الآثار التي خلفتها الحرب الأهلية في المنطقة الشرقية، وما أحدثته من تدمير واسع لمدينة بنغازي.
يعد تشكيل الحكومة الخطوة الأولى نحو تثبيط المشكلات السياسية، لكن تشكيلها من دون سياسات واضحةٍ سوف يعيد استنساخ الفترات الانتقالية السابقة. وهنا، تبدو أهمية وضوح إطار للتعامل مع معارضي الاتفاق وفلسفة التسريح والإدماج، باعتبارها من التحدّيات اليومية، والتي تعيق انتقال الحكومة إلى مدينة طرابلس، وإذا كانت الأمم المتحدة تميل إلى اتباع منهج العقوبات، فإن سياسات التحفيز وتفعيل إجراءات بناء الثقة سوف يزيدان من احتمالات الحلول السلمية ووقف الصراعات، ومن ثم، يساهم التوسع في المصالحة مع المسلحين، ووضع سياسةٍ لإدماجهم في جهاز الدولة، في تسهيل مهمة الحكومة، والخروج من دائرة الصراعات.
ومن الناحية السياسية، يأتي تشكيل الحكومة في سياق تزايد تهديد داعش منطقة “الهلال النفطي” في راس لانوف، مما يشير إلى تزايد التحدّيات التي تواجه الحكومة، وتنامي قدرات تنظيم الدولة ونفوذه، وتطلعه للسيطرة على المنطقة الوسطى والثروات الرئيسية في ليبيا. وفي حال نجاح هذه التوجهات، سوف تواجه الحكومات المتنازعة و”بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا” معضلات أمنية، نتيجة التقسيم الفعلي للدولة. ويمكن القول إن تمدد “داعش” على جانبي مدينة سرت كان تعبيراً عن تراجع تأثير خليفة حفتر السياسي، وعملية الكرامة. فمن وجهةٍ أولى، حدثت انقسامات بين القبائل في شرق ليبيا حول دعم حفتر. وقد شكلت هذه الجزئية خلفية التقارب بين رئيسي مجلس النواب والمؤتمر الوطني، على الرغم من الضغوط الإقليمية على مجلس النواب، وهو ما ترتب عليه خفض فاعلية التواصل بين الطرفين.
وتبدو مشكلة الإدماج السياسي واحدةً من مشكلات السياسة في ليبيا، وهي لا تتعلق فقط بالانقسامات الاجتماعية، لكنها ترتبط بمجموعة مشكلاتٍ أعاقت استكمال المرحلة الانتقالية، كان أهمها، في اتجاه الحكومات السابقة إلى وصف حركاتٍ محسوبةٍ على ثورة فبراير بأنها إرهابية، يمكن إدماجها في الجهات الأمنية أو العسكرية، وهي سياسةٌ أدت إلى زيادة الفجوة وعدم الثقة في الحكومات القائمة. وباستمرار هذا المنهج، تنقطع فرص التلاقي بين السلطة وحاملي السلاح، خصوصاً وأن وضع بعض الحركات في سلة “داعش” يتجاهل الصراعات التي اندلعت بينها في بنغازي ودرنة، كما أنه يجهل دخول كتائب “فجر ليبيا” في معارك مع “داعش” في سرت، وهذا ما يستدعي وضع معايير لتصنيف الحركات، ليس منها الخلافات الفكرية أو الأيدولوجية.
وليس من الواضح برنامج العمل الذي تتبعه “اللجنة الأمنية المؤقتة” التي تم تشكيلها وفق القرار رقم (1/ 2016)، فكما تواجه مشكلات قانونية ولائحية، فإنها أيضاً تواجه تحدّي إعادة بناء الأجهزة الأمنية وبناء استراتيجيةٍ للتعامل مع حاملي السلاح، وهي مسألةٌ تتجاوز مهام الفترة الانتقالية، وهي سياسةٌ تحتاج لحوارٍ يقوم على تعزيز الثقة في السياسات الأمنية.
ولا تقل مقاطعة المجلس الأعلى لأمازيغ ليبيا مؤسسات الدولة أهميةً عن مشكلات دمج المسلحين، فهي من أهم العقبات التي تواجه الحكومة والنظام السياسي، فمنذ فبراير/شباط 2014 قاطعت مناطق الأمازيغ الانتخابات العامة؛ انتخابات “الهيئة التأسيسية” وانتخابات مجلس النواب، وبغض النظر عن الأسباب، فإن استمرار تباعد الأمازيغ عن مؤسسات الدولة يزيد من أزمة الاندماج الوطني، ويعرّض تكامل الدولة للخطر، باعتبارها من المكونات الاجتماعية بعيدة الجذور في الكيان الليبي.
حتى الوقت الراهن، يقتصر برنامج الحكومة على إجراءاتٍ متعلقة بإخلاء المدن من المسلحين وتسريحهم وإعادة دمجهم، وهي توجهاتٌ تقليدية في إدارة الفترات الانتقالية المصحوبة بالصراع المسلح. لذلك، تبدو الحاجة لطرح حزمة من الفرص والمحفزات السياسية لأجل منح الثقة وإفساح المجال أمام كل الأطراف، للانضواء الطوعي تحت مظلة الدولة، والتركيز على دعم الهيئة التأسيسية، للانتهاء من مشروع الدستور، حيث سيضيع دخول حكومة الوفاق في صراعات سياسيةٍ، أو مسلحةٍ، البلاد في حلقةٍ مفرغة.
خيري عمر
صحيفة العربي الجديد