حدّد الرئيس الأميركي، باراك أوباما، في خطابه الأخير أمام الكونغرس عن “حال الاتحاد”، ملامح سياسة إدارته الخارجية في العام المتبقي لها، وحاول أنّ يفنّد التهم الموجهة لها من الخصوم في الداخل والخارج بأنها قلصت القوة والتأثير الأميركيين في العالم، وأن الولايات المتحدة تشهد مرحلة تراجع قيادي جراء سياساتها الدولية الحذرة، والتي يصفها بعضهم بالفاشلة والمترددة. وقد أصرّ أوباما، في الخطاب الذي ألقاه في الثاني عشر من يناير/كانون ثاني 2016، على أنّ الولايات المتحدة مازالت القوة العالمية الأولى، وستبقى كذلك، وأنها لن تُخلي موقعها القيادي إلى أي دولة أخرى. وأشاد بما عدّه نجاحاتٍ حققتها إدارته في هذا السياق، خصوصًا في عام 2015، مثل الاتفاق النووي مع إيران، وإعادة إطلاق العلاقات الدبلوماسية مع كوبا، وعقد اتفاقيتي التغير المناخي والتجارة بين دول المحيط الهادئ. وعلى الرغم من أنّ وزير الخارجية، جون كيري، حاول في اليوم التالي، عبر خطابٍ أمام “جامعة الدفاع الوطني”، أن يفصّل في السياسة الخارجية للإدارة في العام المتبقي لها، فإنّ كثيرين خرجوا بانطباعٍ أنّ عدم الوضوح والتردد سيبقيان سماتٍ أساسيةً لسياسات الرئيس أوباما حتى يومه الأخير في البيت الأبيض.
زعامة من دون تورّط
يرى أوباما، في معرض ردّه على منتقديه، أنّ التحدّي الأساس أمام الولايات المتحدة اليوم يتمثل في كيفية الحفاظ على أمن أميركا، وحيازة ثروات العالم من دون التحوّل إلى شُرْطِيَّهُ، ويشدد على أنّ إبقاء أميركا “قوية وآمنة” لا يعني العزلة والانكفاء على الذات، بل التعامل مع التحديات الناشئة بطريقةٍ أكثر فاعلية وأقل تكلفة. ومع إقراره بأنّ هذا “وقت خطير”، تتغيّر فيه بنية النظام العالمي الذي صيغ بعد الحرب العالمية الثانية، فإنّ التهديدات التي تواجهها الولايات المتحدة والعالم تعود، في المقام الأول، إلى ظهور مزيد من “الدول الفاشلة”، وليس إلى بروز “إمبراطوريات شر”، ولا إلى تراجع القوة الأميركية. ويصرّ أوباما على أنّ الولايات المتحدة ينبغي أن تتجنب التورط في محاولة بناء الدول التي تقع فيها أزمات، ويؤكد أنّ “هذه ليست زعامة، هذه وصفة للتورط في مستنقع سفك الدم الأميركي وتبديد ثرواتنا؛ ما سيضعفنا في نهاية المطاف. هذا درس فيتنام، هذا درس العراق، وهو درس ينبغي أن نكون قد تعلمناه”.
أما عن البديل من استخدام القوة العسكرية المباشرة، والذي ينبغي أن يكون “استخداماً حكيماً”، فيحدّده بـنهجٍ “أكثر ذكاء”، ويتمثل بإستراتيجية متأنية ومنضبطة، توظف كل عنصر من عناصر القوة الأميركية. وحسب هذه الإستراتيجية، فإنّ أوباما يعيد تأكيد مقاربته التي سادت في السنوات السبع الماضية، والقائمة على أنّ “أميركا ستتصرف دائماً منفردة، إذا لزم الأمر، لحماية شعبها وحلفائها. ولكن، على صعيد القضايا ذات الاهتمام العالمي، فإنها سوف تحشد العالم للعمل معها، والمشاركة في تحمّل المسؤولية”. ويذكر أوباما أمثلة في هذا السياق، للتأكيد على نجاح إستراتيجية يراها كثيرون فاشلة؛ ففي سورية “تتعاون” الولايات المتحدة مع قوات محلية (قوى كردية انفصالية إضافة إلى ما تسمى قوات سورية الديمقراطية)، وتقود تحالفاً دولياً ضد تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”. وفي التعامل مع إيران، أنشأت الولايات المتحدة تحالفاً دولياً، قام بفرض عقوبات دبلوماسية واقتصادية قاسية، وأفضت إلى الاتفاق النووي. كما أشار إلى اتفاق التجارة عبر المحيط الهادئ، واتفاق باريس للتغيرات المناخية، والجهد الأميركي والدولي في محاربة الأمراض المعدية في القارة الإفريقية وغيرها.
أما كيري، فيشعر بأنّ “الطلب على القيادة الأميركية … في أعلى مستوى له”، رافضاً التقدير القائل إنّ العالم يزداد فوضى واضطرابًا، جرّاء تراجع الدور الأميركي، ويعزو السبب في انتشار هذا الانطباع إلى أنّ الصراع في القرن الماضي كان بين الدول القومية التي كانت محكومةً باعتبارات التسلح والردع، وحسابات الربح والخسارة، على عكس مصادر التهديد اليوم، مثل “داعش” التي لا تقيم وزناً لحسابات الربح والخسارة التقليدية. وبهذا، يستمر كيري في اتّباع نهج التهويل والمبالغة في قوة داعش من دون وضع خطة حقيقية لمواجهتها، وهو ما يعبّر عن استمرار أزمة الخطاب الأميركي في ما يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط.
أولويات السياسة الخارجية في الشرق الأوسط
كان واضحًا أنّ الرئيس أوباما، في خطابه الأخير عن حال الاتحاد، يحاول تبرئة نفسه وإدارته من أي دور في الفوضى التي عصفت بالشرق الأوسط في عهده؛ إذ اعتبر أنّ “الشرق الأوسط يعيش تحولاتٍ متجذرة في نزاعاتٍ تعود إلى ألف عام، وسوف تستمر جيلًا”، وهو ما يعدّ تسليماً رسمياً بأسطورة الصراع السني – الشيعي كأنه حقيقة؛ متجاهلاً واقع أن الصراعات التي ينسب لها هذا المسمى لم تصل إلى هذا المستوى من التوتر والدموية، إلا بعد أن قامت الولايات المتحدة، تحت إدارة جورج بوش الابن، بغزو العراق عام 2003، وأنشأت فيه محاصصة طائفية، وتركت العراق نهبًا لإيران. وإذا كانت إدارة بوش مسؤولة مباشرة عن هذا الوضع، فإنّ إدارة أوباما ليست بريئة أيضاً من المسؤولية؛ وهي التي ما فتئت تراقب بسلبية، أو تواطؤ، تورّط إيران في دعم نظام بشار الأسد ضد شعبه، وهي التي دعمت نوري المالكي لرئاسة الحكومة العراقية ضد نتائج انتخاباتٍ قضت بفوز إياد علاوي، وغضت الطرف عن سياسات المالكي الطائفية في العراق، والحوثيين في اليمن؛ ما صعّد التوتر الطائفي في المنطقة. واليوم، تعتبر الولايات المتحدة إيران جزءًا من الحلّ في سورية؛ فحسب كيري “لا ينبغي لأحدٍ أن ينكر أنّ إيران قدمت مساهمة مهمة للحوار في خطة السلام التي دعت إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية، وإصلاح دستوري، ووقف إطلاق النار، وإجراء انتخابات” في سورية. وهكذا، تحول كيري من دعم إيجاد هيئة حكم انتقالي إلى حكومة وحدة وطنية في سورية، وأصبحت إيران جزءًا من الحل، على الرغم مما تفعله وميليشاتها في سورية منذ خمس سنوات.
أما على صعيد الأولويات الأميركية في الشرق الأوسط لعام 2016 فيمكن تحديدها، من خلال خطابي أوباما وكيري، في النقاط التالية:
أولًا: محاربة “داعش” و”القاعدة”
اعتبر أوباما أنّ الأولوية الأولى لإدارته “حماية الشعب الأميركي وملاحقة الشبكات الإرهابية”، وتحديدًا “داعش” و”القاعدة”. وحذّر من الإفراط في ادّعاء أنّ هذه “حرب عالمية ثالثة”، موضحًا أنّ تيارات مثل “داعش” و”القاعدة” “تشكل خطراً على المدنيين، وينبغي هزيمتهما. لكنهما لا تهدّدان وجودنا القومي”. وحسب أوباما وكيري، فإنّ الولايات المتحدة تقوم بذلك عبر قيادة تحالف من 65 دولة، يقوم بضربات جوية لمعاقل تنظيم “داعش” في العراق وسورية، ويعمل على قطع التمويل عنه، ويستهدف آبار النفط ومنشآته التي تقع تحت سيطرته، ويعمل على وقف تدفق المقاتلين إليه، بالإضافة إلى تدريب القوات النظامية العراقية وتسليحها، وكذلك الأكراد في سورية والعراق، وقوات المعارضة السورية “لإضعاف داعش وهزيمته”. واعتبر كيري أنّ التحالف مفتوح ليشمل دولاً أخرى، وخصّ بالذكر روسيا، على الرغم من أنّ أغلب التقارير، بما فيها الأميركية، تؤكد أنّ روسيا تركّز في غاراتها الجوية على المعارضة السورية التي تصنفها واشنطن “معتدلة” و”مشروعة”، في حين تمنع عنها السلاح وتحظر على حلفائها تزويدها به.
ثانيًا: إيجاد “حلٍ” للأزمة في سورية
على الرغم من أنّ أوباما لم يولِ الموضوع السوري اهتماماً كبيرًا في خطابه، إلا عبر ثلاث إشارات عابرة، مثل حديثه عن دعم قوات محلية حليفة على الأرض في الحرب على “داعش”، فإنّ كيري كان أكثر تفصيلاً في الموضوع؛ إذ تتمثل الإستراتيجية الأميركية نحو سورية، حسب كيري، في ثلاثة مستويات:
1. تكثيف الحملة العسكرية على “داعش”.
2. منع “داعش” من الانتشار إلى دول أخرى، مثل ليبيا، عبر دعم دول حليفة، كالأردن ولبنان، وتعزيز قدراتها الدفاعية في مواجهة هذا التهديد، أو عبر محاولة احتواء أزمة النازحين واللاجئين في سورية والعراق.
3. نزع فتيل الصراع في سورية، وذلك عبر اتفاق على انتقالٍ سياسي يحافظ على سورية متماسكة، وعلمانية، و”تسمح للسنة والشيعة والدروز والإسماعيليين، والمسيحيين أن يعيشوا جميعًا معًا”. واعتبر كيري أنّ هذا ما تحقّق عبر اتفاق فيينا في نوفمبر/تشرين ثاني الماضي، بين أعضاء مجموعة الدعم الدولي لسورية، والذي نجح في إقناع المملكة العربية السعودية وإيران في الجلوس على طاولة واحدة للمرة الأولى، والاتفاق على “المضي في عملية الانتقال السياسي، لعزل الإرهابيين، ومساعدة الشعب السوري على إعادة بناء بلده”.
ومع ذلك، وفي مؤشر جديدٍ على التردد الأميركي، وغياب الوضوح والتراجع المستمر، يقوم كيري، الآن، بدور عرّاب روسيا في محاولة للضغط على المعارضة السورية، لإعادة تشكيل وفدها المفاوض الذي نتج من مؤتمر الرياض؛ لضم عناصر وجهات تشترطها روسيا ونظام الأسد. فخلال اجتماع دافوس الاقتصادي، أخيراً، في سويسرا، ذهب كيري إلى اعتبار أنّ الحلّ في سورية لن يتم سوى بالاتفاق على حكومة وحدة وطنية، وأنّ الولايات المتحدة متفقة مع إيران وروسيا على ذلك. كما جرى الكشف عن تهديد كيري، في اجتماع عقده مع رئيس الهيئة العليا للمفاوضات رياض حجاب في الرياض في 23 يناير/كانون ثاني الجاري، بأنه “إذا لم تذهب المعارضة إلى جنيف (للتفاوض مع النظام) ضمن الشروط المفروضة عليها، فإنها سوف تخسر دعم حلفائها”.
ثالثًا: التأكد من تنفيذ إيران “خطة العمل المشتركة الشاملة”
من المعروف أنّ إدارة أوباما تعدّ توقيع الاتفاق النووي مع إيران في فيينا، صيف العام الماضي، الإنجاز الأبرز لها في حقل السياسة الخارجية، ولإرث أوباما الرئاسي الشخصي. وقد أشار أوباما إلى ذلك في خطابه قائلاً: “لهذا السبب، قمنا ببناء تحالف عالمي، بالإضافة إلى العقوبات والدبلوماسية المبدئية، لمنع قيام إيران مسلحة نوويًا. وبينما نحن نتحدث، فقد قلصت إيران برنامجها النووي، وشحنت مخزون اليورانيوم إلى الخارج، وتجنب العالم حربًا أخرى”. وأشار كيري إلى الأمر نفسه، في خطابه، ممتدحاً الخطوة الإيرانية بإزالة قلب مفاعل آراك، الذي صبت فيه الخرسانة في اليوم التالي (14/1/2016). ولا شك أنّ الاتفاق النووي يعدّ إنجازاً فعلاً، غير أنّ أوباما وكيري تجاهلا سياسات إيران الأخرى المزعزعة للاستقرار في المنطقة، وتوتيرها الاحتقان الطائفي فيها، ومحاولات عبثها بأمن دول الخليج العربية، فضلاً عن اليمن والعراق وسورية ولبنان.
خاتمة
لن يطرأ تغيير كبير على السياسة الخارجية الأميركية، على الأرجح، في العام الأخير المتبقي لرئاسة أوباما؛ سواء على مستوى الإستراتيجيات أو الرؤى السائدة، مع أنّ بعض الأولويات في منطقة الشرق الأوسط قد تبدّلت؛ إذ لم تعد إدارة أوباما تشترط رحيل الأسد للوصول إلى اتفاق انتقالي في سورية، في حين أنّ القضية الفلسطينية خرجت أصلاً من قائمة رئيسٍ، جاء معلناً، منذ أول يوم في فترة رئاسته، أنّ قيام دولة فلسطينية يحتل رأس أجندته، فأميركا المترددة تكيّف نفسها برغبة كاملة مع التغيرات في موازين القوى على الأرض.
ولذلك، من الأفضل لحلفاء أميركا في المنطقة أن ينتقلوا من طور القلق من سياسات هذه الإدارة إلى طور المبادرة لتبني سياساتٍ تراعي مصالحهم قبل كل شيء، وذلك قبل أن يصبحوا كحال أوكرانيا في مقاربة أوباما الخارجية؛ فقد انتهى بها الحال إلى بضع كلمات خاوية في خطاب أوباما، في حين أنّ روسيا التي تخضع لعقوباتٍ اقتصاديةٍ، وضمّت شبه جزيرة القرم عملياً، قد تمت إعادة التواصل الدبلوماسي معها في الموضوع السوري، وكيفت الإدارة الأميركية نفسها مع التفسير الروسي لاتفاق جنيف، وحتى مع موقفها من استخدام النظام السوري للسلاح الكيماوي. ولا يُستبعد أن تعيد إدارة أوباما تكرار السيناريو نفسه في سياق علاقاتها الخليجية – الإيرانية عبر الضغط على الرياض، لإعادة العلاقات الدبلوماسية مع طهران. وقد بدأت تقوم بذلك بالفعل.
من يعوّل على موقف أميركي في هذه المرحلة يخدع نفسه. وربما سنحت فرصة تاريخية، لكي تحاول بعض الأنظمة العربية أن تتحرّر من الوصاية الأميركية. ولكنْ، لا بد من الأخذ بشروط هذا التحرّر والتزاماته.
المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات