لا تمر الأسابيع القليلة إلا وتعيد الحلقة الجهنمية الطائفية في العراق دورانها. فمنذ الاحتلال الأميركي وإسقاط بغداد سنة 2003، لم تتوقف آلة الدمار في العراق عن الفتك بالأخضر واليابس، بين أبناء البلد الواحد، إذ تسبب الأميركان في محو معالم الدولة العراقية الموحدة، ممهدين الطريق أمام القوى الإقليمية التي تنتظر اللحظة المناسبة لقضم قطعة من العراق، خاصة الجارة إيران التي سارعت منذ البداية إلى زرع طائفييها في العراق وتأجيج الصراع المذهبي في كل مناسبة تتسنى لها، معتبرة أن الهيمنة على العراق ومقدراته وشعبه هي البوابة الرئيسية لغزو المنطقة العربية بكاملها طائفيا تمهيدا لإلحاقها بـ”الإمبراطورية الخرافية” التي تسعى لتحقيقها.
هذه الاستنتاجات حول محاولات إيران التقدم في العمق العربي ليست وليدة الخطاب السياسي الإيراني وأدبياته فقط، بل إنها ممارسات وسلوكات فعلية ترى بالعين المجردة ويعيشها العراقيون بكل مذاهبهم وأديانهم وطوائفهم بشكل يومي، فسيطرة وجوه سياسية عراقية محسوبة على إيران على مواقع القرار تعد أبرز الدلائل على أن السياسة التي تنتهجها الحكومات المتعاقبة في المنقطة الخضراء لن تزيد الأمور إلا تعقيدا.
ولعل أحداث المقدادية في محافظة ديالى غربي بغداد الأخيرة تؤكد أن المدخل العام للاستقرار الأمني والسياسي في العراق لن يمر عبر الوجوه البارزة في العملية السياسية الحالية في العراق، ولا عبر المنظومة الدستورية والقانونية والحكومية التي تسير دواليب الدولة العراقية الآن، فكل ذلك ليس سوى وراثة لدستور بول بريمر حاكم العراق الأميركي الذي نصبه الاحتلال، والذي مكن الإيرانيين من التغلغل داخل نسيج السلطة العراقية بشكل معقد، وهذا ما صرح به فعلا زعيم ائتلاف الوطنية العراقية العلماني إياد علاوي، مؤكدا أن “العملية السياسية الحالية في العراق تواجه طريقا مسدودا، وعلى المشروع المدني المواطني العراقي أن يظهر الآن بعيدا عن الطائفية والمذهبية والفكر الديني”.
فقد شهد قضاء المقدادية الذي يسكنه خليط من الشيعة والسنة أعمال عنف شملت تفجير عدد من المساجد، وقتل مدنيين من قبل مسلحين مجهولين، ينتمون إلى ميليشيات الحشد الشعبي التي أسستها إيران وتدعمها حكومة حيدر العبادي، وذلك بعد ساعات من تفجير انتحاري استهدف مقهى شعبيا داخل القضاء وخلف أكثر من 50 ضحية بين قتيل وجريح كلهم مواطنون عراقيون من الطائفة السنية.
ما يتردد عن وجود محاولات لتغيير التركيبة السكانية عبر استهداف السنة في المحافظة أمر لا وجود له ونحن نقوم بكل مجهوداتنا لمحاربة داعش
ولئن كان هذا الاستهداف لا يختلف كثيرا عما عهد من هجمات تستهدف المدنيين في العراق منذ الاحتلال، إلا أنه ينذر بأن الاقتتال الطائفي اليوم أصبح أكثر وضوحا.
فبتعلة محاربة تنظيم ما يسمى بالدولة الإسلامية، تقوم الميليشيات الطائفية باستهداف السنة العراقيين بشكل مركز، في عمل اعتبرته جهات أممية أنه “جريمة ضد الإنسانية وتصفية طائفية مرفوضة”.
وقد أصدر مكتـب الأمـم المتحدة بالعـراق، بالشراكـة مع مفوضية حقـوق الإنسـان تقريرا يوثق فيه أعداد الضحايا المدنيين في الصراع الطـائفي العراقي، حيث جاء في التقريـر أن عـدد القتلى المـدنيين في الفتـرة من مطلـع ينـاير 2014 حتى نهـاية أكتوبر 2015، بلغ 18 ألفا و802 شخص، وعدد الجرحى 36 ألفا و245 شخصا. وأشار التقرير إلى أن “عمليات قتل غير قانونية وخطف ترتكبها بعض العناصر المرتبطة بالميليشيات الموالية للحكومة”، فيما حذر من أن عمليات القوات الموالية للحكومة أو الحشد الشعبي تثير القلق كونها تتم دون اتخاذ جميع الاحتيـاطات الممكنة لحماية السكان المدنيين، مشيـرا إلى أن هـذه الميليشيات تقوم بتصفيـة طائفية للسكـان وقتـل المـواطنين وتقـوم بعمليات تهجير قسرية وتغيير في الخارطـة السكانية للعراقيين. وقـد حدثـت مؤخـرا في قضاء المقـدادية بمحـافظة ديالى أحداث تشبـه ما تحدث عنه التقـرير.
فقد أكد رئيس مجلس النواب سليم الجبوري أن الجرائم التي تقوم بها ميليشيات الحشد الشعبي تصب في خانة التصفية الطائفية والإبادة ضد السنة العراقيين، ودعا في السياق إلى نزع سلاح هذه الميليشيات “التي تعلم الدولة أنه سلاح غير مشروع”، مضيفا أن “هناك مؤشرات على وجود العابثين بأمن محافظة ديالى، الذين يريدون خلق الفتنة الطائفية، وعلى الحكومة محاسبة المجرمين”.
وفي المقابل، نفى مثنى التميمي محافظ ديالى كل ما قاله سليم الجبوري عن التجاوزات والجرائم التي تقوم بها المجموعات الطائفية المسلحة. وصرح التميمي أن ما يتردد عن وجود محاولات لتغيير التركيبة السكانية عبر استهداف السنة وتهجيرهم قسريا في المحافظة أمر لا وجود له على الإطلاق.
ميليشيات الحشد الشعبي تقتل العراقيين على الهوية
قال رئيس البرلمان العراقي سليم الجبوري، إن السلاح في المقدادية بمحافظة ديالى، شرقي العراق، “مازال منفلتا، وبعلم الدولة”، مشددا على ضرورة أن تكون محافظة ديالى منزوعة السلاح. وأكد الجبوري أن هذا السلاح “ليس موجها لأعداء العراق بقدر ما يمثل أداة في أيدي الجهات السياسية لتصفية حساباتها الطائفية والقيام بإبادة جماعية ضد المواطنين”.
وقد طالبت كتلة “ديالى هويتنا” بزعامة سليم الجبوري، المرجعيات الدينية بنزع الغطاء عن الميليشيات التي تستغل عنوان الحشد الشعبي وتجريمها أسوة بتنظيم “داعش”، فيما أشارت إلى وجود ممارسات مرفوضة بأداء قوات البيشمركة في بعض المناطق.
وقالت النائبة عن الكتلة ناهدة الدايني خلال مؤتمر صحفي عقدته، في بغداد، مع أعضاء من الكتلة، إنه “في الوقت الذي نستبشر فيه خيرا باندحار داعش الإرهابي في مناطق جلولاء ومحيطها وتقدم قواتنا الأمنية في هذه المناطق المهمة من المحافظة، تأتي الممارسات الإجرامية لبعض الميليشيات التي تعبث بهذا النصر وتحوله إلى إحباط وخسارة في الأرواح والأموال”.
وأضافت الدايني، أن “المواطن أصبح لا يرى اختلافا بين ما يقوم به داعش من إرهاب وإجرام هذه العصابات تحت مسمى الحشد الشعبي استغلالا لعنوانه”، محذرة من “انتكاسة جديدة في الأمن في مرحلة عمليات التحرير”.
وصرح سليم الجبوري في مؤتمر صحفي عقده في مبنى البرلمان، أن “هناك مؤشرات على وجود العابثين بأمن محافظة ديالى، الذين يريدون خلق الفتنة الطائفية، وعلى الحكومة محاسبة المجرمين”.
وشهد قضاء المقدادية، شمال محافظة ديالى، والذي يسكنه خليط من الشيعة والسنة، الأسبوع الماضي، أعمال عنف شملت تفجير عدد من المساجد، وقتل مدنيين من قبل مسلحين مجهولين، يعتقد انهم ينتمون إلى ميليشيات الحشد الشعبي التي صنعتها أجهزة الاستخبارات الإيرانية في العراق كأداة تنفيذية مباشرة للنفوذ الإيراني في البلاد. وبعد ساعات من التفجير الانتحاري، تم استهداف مقهى شعبيا داخل القضاء، وخلف أكثر من 50 قتيلا وجريحا.
وكان رئيس البرلمان العراقي سليم الجبوري قد طالب رئيس الوزراء حيدر العبادي بأن يثبت بالأدلة ما إذا كانت قد جرت محاسبة المجرمين الذين قاموا بحرق المساجد السنية في قضاء المقدادية الأسبوع الماضي، مؤكدا على إمكانية اللجوء إلى “حلول أخرى” في حال بقيت ديالى غير منزوعة السلاح.
ويخضع أبناء الطائفة السنية من سكان محافظة ديالى الواقعة على الحدود مع إيران لضغوط شديدة، منذ استعادة مناطق المحافظة قبل حوالي عام من أيدي مقاتلي تنظيم داعش بجهد أساسي من الميليشيات الشيعية وبدعم ميداني من خبراء الحرس الثوري الإيراني.
وبشأن مطالب اللجنة التنسيقية العليا لتحالف القوى العراقية (ممثل المكون السني بالبرلمان العراقي) بتدويل ما يتعرض له أهل السنة بديالى من انتهاكات وجرائم على أيدي ميليشيات شيعية مسلحة فإنها تعتبر لدى اللجنة التنسيقة خيارا مطروحا رغم اعتراض الكتل الشيعية ومحافظ ديالى.
وقال عضو الاتحاد رعد الدهلكي “إن التوجه نحو طلب حماية دولية وتدويل أحداث المقدادية يأتي بعد أن استنفدت كل الخطوات في إيصال صوتنا إلى الحكومة الاتحادية ببغداد”.
وأشار الجبوري إلى أن استمرار الخطف والاغتيالات في ديالى، يهدد النسيج الوطني، ويزيد الدعوات لحماية آمنة لبعض المكونات، وهي بالأساس السنة والتركمان وأقليات أخرى. وأكد الجبوري في تصريحاته أن السلطة في العراق ليست مستقلة عن قرارات وأوامر تؤخذ في أماكن أخرى خارجة عن مقرات السيادة، مؤكدا أن الأمر لن يستمر بأي شكل من الأشكال على هذا النحو.
لا يوجد تهجير قسري للسنة نحن نقاتل داعش فقط
نفى محافظ ديالى مثنى التميمي انفلات الأوضاع الأمنية بديالى، مؤكدا أن ما يتردد عن وجود محاولات لتغيير التركيبة السكانية عبر استهداف السنة وتهجيرهم قسريا في المحافظة أمر لا وجود له على الإطلاق وقال التميمي “ثقوا أن الحديث عن وجود أي تهجير قسري هو غير موجود والأوضاع طبيعية وأتمنى من السياسيين الذين يتحدثون عن هذا الأمر أن يأتوا للمحافظة ويشاهدوا الأحوال لدينا بالمقدادية وبكل المحافظة على الطبيعة”.
ويذكر أن ديالى التي تبعد 65 كيلومترا شرق بغداد، تشهد توترا متصاعدا على مدار الأيام الماضية بعد حرق وتدمير تسعة مساجد سنية من قبل ميليشيات وفصائل شيعية مسلحة ردا على تفجير مقهى شعبي، ما أدى إلى مقتل وإصابة 50 شخصا من الشيعة والسنة.
وأضاف التميمي أن الأجهزة الأمنية حصرا هي من تمسك الملف الأمني بالمقدادية، متمنيا أن تأتي الفضائيات مع السياسيين وتتجول بالمحافظة وتشاهد وتنقل للجميع الواقع على الأرض.
وقال “المشكلة أنه لا يوجد سياسي سني زار المقدادية وبعقوبة، باستثناء رئيس مجلس النواب سليم الجبوري وظل يتحدث بهذا الحديث، ونقول إنه رئيس برلمان للجميع وعليه أن يأتي مجددا لديالى ليحل المشاكل التي يتحدث عنها وإذا لم تكن هناك مشاكل فلماذا هذا اللغط والتهويل الإعلامي”.
وأكد محافظ ديالى الحرص على توفير الحماية لكل أهالي المحافظة دون تفرقة طائفية، قائلا “والله نحمي السنة قبل الشيعة وحررنا المناطق السنية من تنظيم الدولة الإسلامية داعش قبل غيرها”.
وأضاف “هذا الموضوع غير ممكن والأحداث في المقدادية هدأت خلال الـ48 ساعة الماضية والوضع مختلف تماما حيث سيطرت الأجهزة الأمنية على الأوضاع بالكامل، والقوى السنية والشيعية متفقة على إدارة الملف ونحن مكتفون بالقوات العراقية”. وأشار التميمي إلى أن الحديث عن تدويل القضية أمر يتنافى مع الدستور، قائلا “لا اعتقد أن السكان السنة طلبوا التدخل الخارجي”.
وبشأن التشكيك في قيامه بدوره ومسؤوليته الوطنية وواجبه كمحافظ في حماية كل سكان ديالى دون أي تفريق على أساس طائفي، قال التميمي “أنا محافظ للجميع للسنة والشيعة وللأكراد وعلاقتنا قوية بكل المناطق واليوم عندنا ممثلون وأعضاء مجلس محافظة من السنة وقائم مقام قضاء المقدادية هو من الأخوة السنة”. وشدد التميمي على أن القوات الخاضعة لسلطة المحافظة كافية للسيطرة على الأوضاع، إلا أنه لفت إلى أن تلك القوات تخوض في الوقت نفسه معارك مع داعش مما يجعلها تعمل على أكثر من جهة.
وأشار إلى أنه يوجد في محافظة ديالى أكثر من 20 ألف منتسب بقيادة الشرطة وسبعة آلاف منتسب بقيادة الفرقة الخامسة يخوضون معارك مع داعش، لافتا إلى اندلاع معارك عنيفة مؤخرا مع داعش قتل خلالها أكثر من مئة عنصر منهم بالإضافة إلى مشاركة قوات من محافظة ديالى في معارك ضد هذا التنظيم بمحافظة صلاح الدين. وأضاف “ومع ذلك نقول إن قواتنا كافية بأذن الله للسيطرة على الأوضاع الأمنية”.
وحول تصريحات محافظ ديالى السابق عمر الحميري والتي ذكر فيها أن عملية الإنزال التي قامت بها القوات العراقية في المحافظة دعائية الهدف منها امتصاص غضب الشارع دون القبض على أي مسلح ممن ارتكبوا عمليات القتل ضد السنة بالمقدادية، قال التميمي “لم تحدث أساسا عمليات إنزال، بل انتشار للقوات العراقية بالمحافظة وهذا أمر طبيعي جدا وتم القبض على 30 مشتبها بهم على خلفية أحداث المقدادية”. وأضاف أنه “تم القبض على هؤلاء على خلفية التداعيات التي حدثت في أعقاب حادث تفجير المقهى، والتحقيق في هذا الصدد لا يزال مستمرا”.
صحيفة العرب اللندنية