في الوقت الذي ليست هناك سوى أيام معدودة تفصل عن المهلة النهائية الأخيرة، من المقرر أن يشارك ممثلون عن النظام السوري والمعارضة في محادثات القرب التي ترعاها الأمم المتحدة في جنيف في 29 كانون الثاني/يناير. ولا يزال من غير المؤكد أي من أطراف المعارضة ستشارك يوم المحادثات، والأهم من ذلك أيٌ منها سيبقى – فـ “الهيئة العليا للمفاوضات” التي تمثل أكبر طيف من الجماعات المسلحة والمدنية أعلنت عن عدم حضورها، إلاّ أن المحادثات لا تزال قائمة بناءً على المعلومات الواردة.
أما الأطراف التي ستشارك في المفاوضات، فستسعى ظاهرياً إلى التوصل إلى وقف لإطلاق النار يسمح للمساعدات الإنسانية بالدخول إلى المناطق المحاصرة، كخطوة أولى نحو تسوية سياسية قائمة على التفاوض. إلا أن “المراوغة” التي اتهم وزير الخارجية الأمريكية جون كيري الجانبين بها عقب زيارته المثيرة للجدل مع “الهيئة العليا للمفاوضات” هذا الأسبوع لا تزال مستمرة بوتيرة سريعة. من جهته، لا يزال نظام الأسد والمعارضة يسعيان إلى حلول قصوى تشمل جميع أرجاء البلاد لا يبدو أي منهما قادراً على تحقيقها على المدى القريب. إذ يدعم أنصار النظام التحرك العسكري لإعادة السيطرة على جميع الأراضي المفقودة من خلال موارد بشرية لا يمتلكها هذا الأخير، في حين تواصل الجماعات المعارضة المطالبة بتنحي بشار الأسد في ظل غياب أي وسيلة لإجباره على ذلك.
أما واشنطن، فيبدو أنها تراوغ قليلاً هي أيضاً. إذ يصر المسؤولون الأمريكيون على أنهم يتفاوضون على سبل رحيل الأسد لا غير، لكنّ تدخل روسيا المسلح وإشراك إيران في المحادثات التي جرت مؤخراً خلقا انطباعاً بأن واشنطن تدفع الآن بالمعارضة نحو عملية يبقى في إطارها بشار الأسد رئيساً إلى أجل غير مسمى. وما يزيد الأمور سوءاً أنه يبدو أن روسيا وإيران – وهما البلدان الوحيدان اللذان يمتلكان قوات برية مقاتلة في سوريا وقوات جوية على الجبهات الرئيسية شمال غرب البلاد – عازمتان على قصف المعارضة لإجبارها على الجلوس إلى طاولة المفاوضات.
انزلاق واشنطن المتصور نحو خطة إيران
تجلى الموقف الرسمي الأمريكي من حل الأزمة السورية في “بيان جنيف” لعام 2012، والذي تم التوصل إليه عن طريق التفاوض بين دبلوماسيين أمريكيين وروس وأوروبيين في حزيران/يونيو من ذلك العام. فقبل الجولة الأخيرة من المحادثات التي رعتها الأمم المتحدة في شباط/فبراير 2014، والمعروفة باسم “جنيف 2″، أصرت واشنطن على منع إيران من المشاركة في العملية إلى أن تقبل المبادئ المركزية للبيان المتعلقة بالفترة الانتقالية.
وينص القسم الثاني من البيان، بفقرته الثانية، على أن “إحدى الخطوات الرئيسية” من أجل التوصل إلى “أي تسوية” للأزمة تتجلى في تشكيل «هيئة حكم انتقالي» تتمتع بـ “صلاحيات تنفيذية كاملة” من شأنها إنشاء “بيئة محايدة لتتم العملية الانتقالية وسطها”. ويمكن لهذه «الهيئة» “أن تضم أعضاءً من الحكومة الحالية والمعارضة والجماعات الأخرى …وأن يتم تشكيلها على أساس التراضي”. وقد سمحت هذه الصيغة لروسيا باستباحة ضم الأسد إلى “هيئة الحكم الانتقالي” بينما تبقى ملتزمة بالبيان، كما سمحت للولايات المتحدة بمقاومة ذلك. إن غياب صياغة نصية محددة تعيّن الطرف الذي سيمثل المعارضة يعني أنه لا يتعين على “الحكومة الحالية” (أي نظام الأسد) سوى التحالف مع جزء من المعارضة للعمل على التوصل إلى حل تفاوضي.
وسط هذا الغموض، سعت إيران إلى المزيد من التأكيدات على أن الأسد سيبقى رئيساً للبلاد، وذلك عبر اعتماد خطتها التي تقوم على أربع نقاط لإنهاء الصراع. فكما أعادت التأكيد في آب/أغسطس الماضي، تشمل المبادئ الرئيسية للخطة وقفاً فورياً لإطلاق النار وتشكيل حكومة وحدة وطنية وإجراء تغييرات دستورية لحماية الأقليات وإجراء انتخابات خاضعة للمراقبة.
وبعد إبرام الاتفاق النووي الإيراني في حزيران/يونيو الماضي وبعد أن بدأ التدخل العسكري الروسي بعد ذلك بوقت قصير، وافقت واشنطن على مشاركة طهران في عملية التفاوض من دون إجبارها على قبول “بيان جنيف”. وخلص اجتماع عُقد في 30 تشرين الأول/أكتوبر إلى إصدار بيان مشترك يدعو لاتخاذ تدابير مشابهة جداً لخطة طهران القائمة على أربع نقاط، بما في ذلك وقف إطلاق النار في كافة أنحاء البلاد، وإنشاء “حوكمة غير طائفية موثوقة وشاملة”، وإقرار “دستور جديد”، وإجراء انتخابات على غرار رواية “جورج أورويل” بما “يرضي الحوكمة”. وفي حين ذكر النص أن النقاط الثلاثة الأخيرة ستتم وفقاً لبيان 2012، إلا أنه لم يأتِ على ذكر كلمة “انتقال”.
وعقب الاجتماع التالي الذي تم في 14 تشرين الثاني/نوفمبر، أصدر المتفاوضون – الذين كان قد وصل عددهم آنذاك إلى ثماني عشرة دولة والذين باتوا يطلقون على أنفسهم اسم “المجموعة الدولية لدعم سوريا” – بياناً يتوازى مع توجه النص الذي استُعمل في عام 2012 حول عملية الانتقال والصيغة القائمة على النقاط الأربع التي أُقرت في 30 تشرين الأول/أكتوبر. وعندما تم اعتماد هذا النص إلى حد كبير على أنه قرار مجلس الأمن رقم 2254 في كانون الأول/ديسمبر، “دعمت” مادته الأولى البيانين الصادرين في 30 تشرين الأول/أكتوبر و14 تشرين الثاني/نوفمبر في “السعي إلى التنفيذ الكامل لبيان جنيف” على أنه “الأساس لعملية انتقال سياسي بقيادة سورية وملكية سورية”. هذا وحددت المادة الرابعة مدة ستة أشهر كهدف لتحقيق الصيغة القائمة على النقاط الأربع ولإقامة “الحوكمة”.
ومع انطلاق الجولة الأخيرة من المفاوضات، لا يزال هناك التباس كبير حول كيفية تطبيق دعوة بيان 2012 إلى “الانتقال” بـ “التراضي” وفقاً للبيانين الصادرين في تشرين الأول/أكتوبر وتشرين الثاني/نوفمبر اللذين لا يعالجان سوى “الحوكمة”. وبحكم تعريفها تنطوي عملية الانتقال على نقل السلطات من كيان إلى آخر، في حين أن إنشاء “الحوكمة” لا ينطوي على ذلك. وقد أدى هذا إلى انتشار القلق في صفوف المعارضة، وخاصة “الهيئة العليا للمفاوضات” والتي مقرها الرياض، وداعميها الإقليميين الذين يخشون من أن يبقى الأسد جزءاً من “الحوكمة” في سوريا خلال الأشهر الثمانية عشر القادمة. فمن شأن هذا الاحتمال إلغاء أي فرصة تقريباً للمرشحين الآخرين لهزيمة الأسد عند عقد الانتخابات الرئاسية المقبلة في سوريا كجزء من العملية الانتقالية.
سد الفجوة في القوى البشرية
على الرغم من العمليات العسكرية المستمرة التي يقوم بها حليفا نظام الأسد الروسي والإيراني، إلا ِأنه يعاني من نقص مزمن في القوى البشرية اللازمة لاستعادة السيطرة على البلاد، وهو وضع نشأ نتيجة مواقفه السياسية الصلبة واستراتيجية إطلاق النار على الغالبية العربية السنية لإجبارها على الخضوع. وفي خلال السعي إلى حل تفاوضي مع عناصر المعارضة المعتدلة، قد يأمل النظام بتجنيد العرب السنة في مزيد من الهجمات ضد المناطق التي يسيطر عليها تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش»)/«الدولة الإسلامية» و«جبهة النصرة» التابعة لتنظيم «القاعدة»، مما يجعل استعادة السيطرة على هذه المناطق أكثر سهولة. وفي الوقت نفسه، من المرجح أن تدفع الهجمات الروسية وتلك المدعومة من إيران بعض فصائل الثوار إما إلى الخروج من البلاد أو إلى التقرب من الجهاديين (الأمر الذي يقطع عنهم المساعدات الغربية وربما يجعل منهم أهدافاً محتملة للتحالف المناهض لـ تنظيم «الدولة الإسلامية»).
وفي الواقع، تشعر إسرائيل والأردن بالقلق من أن تكون العمليات الروسية والإيرانية للسيطرة على مدينة الشيخ مسكين الواقعة جنوب سوريا قد ساعدت بالفعل على نشر التعاطف مع تنظيم «داعش»، وهو خطر قد يقرع أبوابهما في وقت قريب إذا أدى القتال إلى تدفق اللاجئين الذين يفرون خوفاً من تسلل تنظيم «الدولة الإسلامية». وقد تسببت هذه المخاوف الأمنية إلى قيام الأردن بإغلاق حدودها الشمالية على نحو فعال، قاطعة الطريق أمام 16 ألف لاجئ من المناطق التي يسيطر عليها تنظيم «داعش» في مخيمين مؤقتين في المنطقة المحايدة بين الحدود السورية والأردنية. وبالمثل، فإن هجمات النظام في الشمال قد تدفع بالمزيد من السوريين إلى البلدان المجاورة وأوروبا.
انعدام خيارات سهلة
بغية إيصال الجماعات المعارضة إلى طاولة المفاوضات وإبقائها بعيدة عن أيدي تنظيم «الدولة الإسلامية» وسائر الجهاديين، يجب على واشنطن أن تدعم فوراً مطالب هذه الجماعات بأن يراعي كل من الأسد وروسيا وإيران جانبي المساعدات الإنسانية ووقف إطلاق النار الواردين في قرار وقف إطلاق النار رقم 2254. ويعني ذلك تجاوز الاكتفاء بالخطاب واتخاذ العديد من الخطوات الملموسة.
إن “الحد من التصعيد”، وهو المصطلح الرائج الجديد في أوساط السياسة الأمريكية لكيفية إنهاء الحرب، هو هدف ملفت للمساعدة في تخفيف المعاناة وبدء عملية سياسية. ولكن، لكي ينجح، لا يمكن لواشنطن أن تقف متفرجة بكل بساطة فيما يتم وضع المعارضة في مرمى النيران الروسية وتلك المدعومة من إيران. إن القصف العشوائي للمناطق المدنية، بما في ذلك المستشفيات، لن يؤدي سوى إلى تنفير المعارضة نفسها التي تقول موسكو إنها تريد أن تكون جزءاً من التسوية السياسية. كما أن دفع المعارضة إلى طاولة المفاوضات فيما تستمر حملة النظام الهجومية سيزيد من سوء الوضع الإنساني والسياسي. لذلك، من الضروري أن تطالب الولايات المتحدة بإنهاء القصف الروسي لمناطق المعارضة كحافز لانضمام هذه الأخيرة إلى محادثات جنيف.
لا بد من الإشارة إلى أن القرار رقم 2254 قد تم اعتماده بالإجماع، أي أن موسكو سبق وأن أعربت عن دعمها لوقف إطلاق النار في كافة أنحاء البلاد “فور بدء ممثلي الحكومة والمعارضة السورية بالخطوات الأولى نحو عملية انتقال سياسي تحت رعاية الأمم المتحدة”. ومع اقتراب هذه اللحظة، فإن عدم وقف روسيا للعمليات يُعطي الانطباع بأنها تنظر إلى المفاوضات على أنها مجرد غطاء لحل عسكري قسري. كما ويدعو البيان الأطراف إلى تأمين وصول الهيئات الإنسانية بشكل سريع وآمن ومن دون عوائق إلى “جميع الأشخاص المحتاجين”. وبالتالي، فإن إقناع روسيا بتسهيل هذه النشاطات يمكن أن يساعد على بناء ثقة المعارضة.
وبغية دفع النظام السوري وموسكو نحو الامتثال، يجب على واشنطن ألا تحدّ من التصعيد إلى أن يحين الوقت المناسب. إذ من شأن مثل هذه الاستراتيجية أن تؤدي إلى تفاقم أزمة الافتقار إلى القوة البشرية التي يعاني منها النظام وإلى إقناع الأسد وحلفائه بأنهم لا يستطيعون الفوز عسكرياً من خلال خلق حالة من الجمود. وهذا يعني على وجه التحديد الاستمرار في الدعم السري للثوار المعتدلين، وفي بعض الحالات زيادته، إلى أن يصبح من الواضح أن “جنيف 3” أو المحادثات اللاحقة قد تؤدي إلى إحراز تقدم ملحوظ، أي وضع الأساس السياسي لتسوية قابلة للتنفيذ تشمل جميع أنحاء البلاد من شأنها القضاء على الملاذات الجهادية. وفي الوقت نفسه، يجدر بواشنطن البحث عن فرص للثوار العرب والقوات الكردية (أي «وحدات حماية الشعب») للتعاون ليس ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» فحسب، بل أيضاً ضد أي قوات تابعة للنظام المستمرة في شن الهجمات. وأخيراً، يجب على واشنطن نفض الغبار عن خطط إنشاء مناطق عازلة داخل سوريا، وهو نهج يلقى دعماً متزايداً بين مرشحي الرئاسة الأمريكية والمنظمات الإنسانية وكتّاب الأعمدة في الصحف. وتظهر كل هذه الإجراءات مجتمعةً عزم الولايات المتحدة، كما تساعد على إيصال المعارضة إلى طاولة المفاوضات وعلى التوصل إلى تسوية تنهي كل من الحرب والملاذات الجهادية الآمنة في سوريا.
أندرو جيه. تابلر
معهد واشنطن