ثمة اتهامات تُوجه لكلِ من إيران وحليفها “حزب بالله” بتكوين شبكات استخباراتية في قارة أمريكا الجنوبية، تسعى من خلالها إلى تصدير ما يسمى “الثورة الإيرانية” داخل القارة. ولم يكن دور هذه الشبكات يقتصر على نقل المعلومات أو غيره، بل إنها اُتهمت أيضاً بالقيام بعمليات إرهابية، كان أبرزها تفجيرات مبنى الرابطة اليهودية “AMIA” في الأرجنتين عام 1994، والذي راح ضحيتها ما يقرب من 85 شخصاً وإصابة أكثر من 150 آخرين.
وقد أدت مثل هذه التصرفات الإيرانية إلى تدهور علاقاتها الدبلوماسية مع دولة الأرجنتين، إلا أن الدولتين اتفقتا في عام 2011 على تشكيل لجنة مشتركة للتحقيق في حادثة تفجير مركز الرابطة اليهودية. وجاء مقتل النائب العام الأرجنتيني “ألبرتو نيسمان” العام الماضي ليطرح الكثير من علامات الاستفهام، حيث كان “نيسمان” قد اتهم إيران بتدبير تفجيرات AMIA، لافتاً إلى أن الحكومة الأرجنتينية تسترت على دور إيران و”حزب الله” في هذه التفجيرات مقابل صفقة سياسية بين البلدين.
وفي هذا الصدد، تأتي الدراسة الصادرة تحت عنوان: “عمليات إيران وحزب الله في أمريكا الجنوبية”، والتي أعدها “ماثيو ليفيت” Matthew Levitt – مدير برنامج ستاين للاستخبارات ومكافحة الإرهاب في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وتطرق خلالها إلى طبيعة الوجود الإيراني في أمريكا الجنوبية والأنشطة التي اضطلعت بها طهران و”حزب الله” في هذه القارة منذ بداية الثمانينيات وحتى الآن، مع التحذير من تزايد تأثير إيران بمرور الوقت من دون وجود رادع لها.
إيران و”حزب الله”.. بداية الوجود في أمريكا الجنوبية
يشير “ليفيت” إلى أن الفترة الممتدة من عام 1975 وحتى عام 1990 شهدت هجرة أعداد كبيرة من اللبنانيين إلى أمريكا الجنوبية نتيجة للحرب الأهلية في لبنان، وقد استغلت إيران و”حزب الله” هؤلاء المهاجرين وجندت العديد منهم داخل القارة، وهو ما أدى إلى تشكيل خلايا إرهابية في هذه القارة مكَّنتها من تنفيذ هجماتها الإرهابية في الأرجنتين خلال حقبة التسعينيات من القرن الماضي – على حد ذكر الدراسة.
وأبرز الكاتب دور مهاجر إيراني يُدعى “محسن ربَّاني” ذهب إلى الأرجنتين في فترة الثمانينيات، وعمل على تدريس الدين والانخراط في أنشطة مسجد التوحيد في مدينة بوينس آيرس، كما كان يرفع تقاريره للحكومة الإيرانية حول الأشخاص والجماعات المؤهلة لتنفيذ الأنشطة الإرهابية والتي قد تساعد في تصدير أفكار “الثورة الإيرانية” داخل قارة أمريكا الجنوبية.
ونتيجة لهذه الترتيبات التي انخرطت فيها الحكومة الإيرانية و”حزب الله” بشكل شبه مباشر، وقع أول تفجير للسفارة الإسرائيلية في بوينس آيرس يوم 17 مارس 1992 والذي دمَّر معظم محتويات السفارة وأدى إلى مقتل 23 شخصاً وإصابة 242 آخرين.
ومن جانبها، أكدت منظمة الجهاد الإسلامي التابعة لحزب الله مسؤوليتها عن هذا التفجير، وبثَّت فيديو أعلنت فيه أن هذه العملية جاءت رداً على مقتل زعيم حزب الله “عباس الموسوي” وابنه في هجمة جوية إسرائيلية في فبراير 1992.
وأشارت تحقيقات النائب العام الأرجنتيني حينذاك “ألبرتو نيسمان” إلى أنه قبل عام من مقتل “الموسوي”، علَّقت الحكومة الأرجنتينية شحن المواد الخام النووية إلى طهران بسبب ظهور بعض المؤشرات على عدم سلمية برنامجها النووي، وهو ما يشير إلى تورط إيران في عملية تفجير السفارة الإسرائيلية كرد فعل من طهران على رفض الحكومة الأرجنتينية التعاون معها في برنامجها النووي – كما ذكرت الدراسة.
ولم تلبث الأمور أن تهدأ بعد تلك التفجيرات، إذ بتفجير أعنف ضرب الأرجنتين، وُصف بأنه الأكثر دموية في تاريخها، وهو تفجير مركز الرابطة اليهودية في بوينس آيرس عام 1994 والذي قامت به سيارة محملة بما يقرب من 400 كيلوجرام من المتفجرات يقودها انتحاري. وقد أثبتت التحقيقات تورط إيران و”حزب الله” في هذه التفجيرات، حيث رصدت الاستخبارات الأرجنتينية بالتعاون مع نظيرتها الأمريكية مكالمات تليفونية تؤكد انخراط “محسن ربَّاني” في التخطيط والإعداد لهذا الأمر، مع دخول “حزب الله” في تفاصيل تنفيذ العملية.
التوسع الإيراني في قارة أمريكا الجنوبية
يشير “ليفيت” إلى أنه منذ تلك التفجيرات عام 1994 بدأ الوجود الإيراني داخل أمريكا الجنوبية يتوسع بشكل مُلفت، وقد عبَّر منسق وزارة الخارجية الأمريكية لمكافحة الإرهاب في السنوات اللاحقة بعد التفجيرات عن مخاوفه من تزايد أعداد الدبلوماسيين العاملين في السفارات الإيرانية بالقارة الجنوبية، مُرجحاً أن يكون معظمهم عملاء استخباراتيين.
وفي هذا الصدد، تم عقد اجتماع بين كبار المسؤولين في دول شيلي وأوروجواي والأرجنتين خلال مارس 1995 لمناقشة التمثيل الدبلوماسي الإيراني المُبالغ فيه في هذه الدول، وقد أكد هؤلاء المسؤولون أن الأنشطة التي يقوم بها الدبلوماسيون الإيرانيون تتم مراقبتها عن كثب.
وبعد 15 عاماً، أشار قائد القيادة الجنوبية الأمريكية إلى أن الوجود الإيراني في القارة قد تزايد من مجرد عدد محدود جداً من الدبلوماسيين يقومون بتنفيذ مهام بسيطة ومحددة إلى أن أصبح عددهم 12 دبلوماسياً بحلول عام 2010، ومازال العدد يزداد.
كما أشار الكاتب إلى نجاح إيران في تعزيز علاقاتها الاقتصادية والثقافية والأمنية مع بعض دول أمريكا الجنوبية مثل فنزويلا وكوبا والإكوادور وبوليفيا، خصوصاً في المراكز الثقافية الشيعية في تلك الدول.
ولعل الأنشطة التي قام بها “ربَّاني” بالتعاون مع عدد من زملائه الإيرانيين في دول أمريكا الجنوبية، هي السبب الذي سهَّل وصول إيران بقوة لهذه الدول وتوسيع نفوذها فيها، بما أدى إلى ظهور جيل من “الشيعة المتطرفين” – على حد وصف الدراسة – في بعض الدول مثل البرازيل والأرجنتين وغيرها. وقد شارك هذا الجيل في التخطيط لبعض المحاولات الإرهابية على مدار السنوات الأخيرة، مثل استهداف السفارتين السعودية والإسرائيلية في بوينس آيرس عام 2010، والمحاولة الفاشلة لاغتيال السفير السعودي في واشنطن في شهر أكتوبر من العام نفسه.
وهكذا أبرزت الدراسة نجاح “ربَّاني” في تحقيق الهدف المطلوب منه في أمريكا الجنوبية، حيث استطاع تكوين المنظمات الشيعية ودعمها في عدد من الدول، بالإضافة إلى أنه كان فاعلاً بشكل كبير على الحدود التي تربط الأرجنتين والبرازيل وباراجواي، حيث حافظ على الروابط المختلفة مع قادة “حزب الله” في تلك الدول مثل “فاروق عبد العميري” و”سلمان الرضا”.
ويؤكد “ليفيت” فعَّالية دور هذه الشبكات الإيرانية في أمريكا الجنوبية، بيد أنه ليس من المرجح أن تقوم بأنشطة إرهابية علنية في دول القارة، لكنها في وضع يسمح لها بأن تكون جاهزة إذا ما تم الاحتياج لها؛ لذا فإن سلطات معظم دول أمريكا الجنوبية تتعاطى بحذر ويقظة شديدة مع فكرة “تصدير الثورة الإيرانية”.
المطلوب لمواجهة النفوذ الإيراني في أمريكا الجنوبية
لا يوجد شك في أن المسؤولين الأمريكيين يشعرون بقلق عميق تجاه الأنشطة الاستخباراتية الإيرانية في أمريكا الجنوبية، وكذلك إزاء ما يقدمه “حزب الله” من دعم لوجيستي ومالي للمنظمات التابعة له داخل القارة.
فمن وجهة نظر الكاتب، استثمرت إيران بشكل أكبر في بناء الشبكات الاستخباراتية في معظم دول أمريكا الجنوبية، وهو ما ينبغي أن يدفع المجتمع الدولي لأن يكون مستعداً للتعاطي مع السلوك العدواني الذي تقوم به طهران، سواء في أمريكا الجنوبية أو منطقة الشرق الأوسط.
ويحث “ليفيت” المسؤولين الأمريكيين على إعطاء مزيد من الاهتمام والموارد الكافية لمواجهة مخاطر التهديدات التي تبثها إيران داخل قارة أمريكا الجنوبية، والتي تزايدت خلال السنوات الأخيرة.
مُجمل القول، تؤكد الدراسة أن قارة أمريكا الجنوبية تعد من المناطق الحيوية والجيواستراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة، وعلى الرغم من بروز العديد من التهديدات الإرهابية الأخرى – مثل تنظيم “داعش” – والتي تحظى بالاهتمام الأكبر في الاستراتيجية الأمنية الأمريكية والمجتمع الدولي عموماً في الوقت الراهن، فإن ذلك لا يجب أن يقلل من أهمية التهديدات الراهنة لإيران وحليفها “حزب الله” في أمريكا الجنوبية، وهو ما يمثل خطراً متزايداً على المصالح الأمريكية في القارة الجنوبية.
* عرض مُوجز لدراسة بعنوان: “عمليات إيران وحزب الله في أمريكا الجنوبية”، والمنشورة في دورية PRISM الصادرة عن مركز العمليات المركبة CCO التابع لوزارة الدفاع الأمريكية.
Matthew Levitt
عداد: باسم راشد
المصدر:
Matthew Levitt, “Iranian and Hezbollah Operations in South America: Then and Now”, PRISM, volume 5, no. 4 (Washington: The Center for Complex Operations, December 2015) pp 119 – 133.
مركز المستقبل للابحاث والدراسات المتقدمة