إحلال الآلة: تأثير التكنولوجيا على العمالة والسياسة العامة

إحلال الآلة: تأثير التكنولوجيا على العمالة والسياسة العامة

pic 2 (51)

أصبح استخدام “الإنسان الآلي” وغيره من التقنيات التكنولوجية الأخرى واقعاً يساهم في تغيير حياة البشر، بيد أن ثمة مخاوف لدى البعض إزاء هذه التطورات، نظراً للشعور بالقلق من أثرها “اللا إنساني”. لذلك من المهم تحديد الآثار الاجتماعية والاقتصادية للتكنولوجيا الحديثة على حياة المواطنين.

وفي هذا الصدد، أصدر “معهد بروكنجز” دراسة بعنوان: “ماذا يحدث إذا حل الإنسان الآلي (الروبوت) محل الإنسان في شغل الوظائف؟ تأثير التكنولوجيا الجديدة على العمالة والسياسة العامة”، وهي الدراسة التي أعدها “داريل ويست” Darrell M. West – نائب الرئيس ومدير دراسات الحكم بمؤسسة بروكنجز- تناول خلالها أبرز التقنيات التكنولوجية الحديثة، وآثارها على السياسة العامة، وسبُل مواجهة تداعياتها على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي.

تقنيات التكنولوجيا الجديدة

تنمو التقنيات التكنولوجية الجديدة بشكل مُتسارع، ومن أبرز هذه التقنيات ما يلي:

1- الإنسان الآلي (الروبوت) Robots:

توضح الدراسة أن استخدام “الروبوت” آخذ في التزايد والتوسع في دول العالم المتقدم؛ ففي عام 2013 كان ثمة نحو 1,2 مليون “روبوت” قيد الاستخدام، وارتفع هذا العدد إلى حوالي 1,5 مليون عام 2014. ومن المتوقع أن يرتفع إلى حوالي 1,9 مليون بحلول عام 2017.

وتضيف الدراسة أن اليابان لديها أكبر عدد والذي يُقدر بنحو (306,700) روبوت، تليها أمريكا الشمالية (237,400)، والصين (182,300)، وكوريا الجنوبية (175,600)، وألمانيا (175,200) روبوت. وعموماً، ثمة توقعات أن ترتفع قيمة الاستثمار العالمي في قطاع “الروبوت” من 15 مليار دولار حالياً، إلى 67 مليار دولار بحلول عام 2025.

2- خوارزميات الحاسوب Computerized Algorithms:

يشير الباحث إلى ما يُسمى “خوارزميات حاسوبية” وهي مجموعة القواعد الدقيقة لمعالجة حاسوبية، تهدف إلى الحصول على نتائج محددة. وقد حلت محل المعاملات الإنسانية، ففي البورصات – على سبيل المثال – يتم التداول بشكل سريع، حيث يقوم المضاربون بالشراء والبيع من خلال أجهزة الكمبيوتر التي تقوم بمعالجة أوجه القصور أو فروق السوق وتنفيذ الصفقات التي تدر الأموال على المضاربين. كما أصبحت أجهزة الكمبيوتر – باستخدام المعادلات الرياضية المعقدة – أكفأ من الإنسان في تحديد فرص التداول المُمكنة.

3- الذكاء الاصطناعي :(AI) Artificial Intelligence

يشير هذا المفهوم إلى أجهزة الكمبيوتر التي تستطيع أن تُحاكي القدرات الذهنية البشرية وأنماط عملها، من حيث التمتع بالتفكير الناقد. ويتم استخدام “الذكاء الاصطناعي” حالياً في مختلف المجالات، مثل: مجال التمويل، النقل، الطيران، والاتصالات السلكية واللاسلكية. وفي إطاره، تأتي النظم الخبيرة  Expert systemsالتي تعمل على اتخاذ القرارات التي تتطلب توفٌّر مستوى مرتفع من الخبرة، وهذه الأنظمة تساعد في توقع المشاكل أو التعامل مع الصعوبات، ولذلك يتم استخدامها لتحل محل البشر في مختلف المجالات.

4- الحقيقة المدمجة أو الواقع المعزز Augmented Reality:

هي تقنية حديثة يمكن بواسطتها تحويل الصور ثلاثية الأبعاد إلى صورة واقعية افتراضية على شاشة الحاسوب، وتقوم شركات مثلFacebook’s Oculus ، Google’s Magic Leap، Microsoft’s HoloLens بتقديم هذه التقنيات. ويتم استخدام مثل هذه التقنيات من قِبل العسكريين لتدريب المجندين على كيفية القيام بدوريات في الشوارع، فضلاً عن التدريب على أوضاع القتال.

5- أجهزة الاستشعار الطبية والاتصالات بين الأجهزة Medical Sensors and Machine-to-Machine Communications:

أصبحت هناك أجهزة للاستشعار تقوم بتسجيل المؤشرات الحيوية للمرضى، ثم تقوم بإحالتها إلكترونياً إلى الأطباء المتخصصين. فعلى سبيل المثال، مرضى القلب لديهم أجهزة رصد تقوم بتجميع مؤشرات ضغط الدم ومعدل ضربات القلب، وترسل القراءات إلى الطبيب الذي يقوم بتعديل الأدوية وفقاً للمؤشرات التي وصلته، ما ساهم في تخفيض أعداد المرضى الذين كانوا يحتاجون إلى دخول المستشفيات لإجراء هذه المتابعات.

6- الطباعة ثلاثية الأبعاد  3-D Printing:

تعد أحد أشكال “تكنولوجيا التصنيع بالإضافة” Additive printing، حيث يتم إرسال مخططات التصميم إلى الطابعات المتخصصة التي تنتج نماذج طبق الأصل تشبه كثيراً منظر وملمس ووظيفة النموذج الأولي للمنتج. وتتيح الطابعات ثلاثية الأبعاد للمطورين القدرة على طباعة أجزاء متداخلة معقدة التركيب.

7- المركبات ذاتية التحكم Autonomous Vehicles :

أصبحت “المركبات ذاتية التحكم” و”الطائرات بدون طيار”، تقوم بوظائف كانت تتطلب تدخلاً بشرياً، ما أدى إلى إيجاد سوق جديد من الآلات والأجهزة. فالسيارات بدون سائق تُمثل واحدة من أحدث الأمثلة على ذلك، وقد وجدت الشركات المُصنعة للسيارات – مثل “أودي، وجنرال موتورز” – أن السيارات ذاتية الحكم تشهد عدداً أقل من الحوادث مقارنةً بتلك التي يقودها أشخاص.

تأثير التكنولوجيا الحديثة على القوى العاملة

حققت العديد من الشركات التكنولوجية الكبيرة توسعاً اقتصادياً دون استخدام أعداد كبيرة من الموظفين، فعلى سبيل المثال “شركة جوجل” تُقدر قيمتها بنحو 370 مليار دولار ولكن ليس لديها سوى حوالي 55 ألف موظف.

وتؤكد الدراسة على استبدال العامل البشري بآلات تكنولوجية متقدمة في مجالات متعددة، موضحة أن لذلك عواقب وخيمة على وظائف الطبقة الوسطى، وعلى مستوى الدخل الوارد إليها، حيث لن يجد أبناء هذه الطبقة فرص عمل في المستقبل. لكن من الصعب تحديد مدى تأثير التقنيات التكنولوجية الحديثة على الوظائف المختلفة بدقة، وتشير أحد الدراسات الأمريكية إلى أنه يوجد احتمال كبير بفقد 47% من العاملين في الولايات المتحدة لوظائفهم، نتيجة استبدالهم بالتقنيات التكنولوجية الحديثة على مدى العشرين عاماً المقبلة.

تأثير التكنولوجيا على المجموعات السكانية المتنوعة

يختلف تأثير التكنولوجيا الحديثة على الأفراد وفقاً للعمر والجنس والدخل والعرق، حيث أن بعض الأفراد أكثر عُرضة للتأثر في سوق العمل من غيرهم في المستقبل، خاصةً الذين يتمتعون بمهارات فنية محدودة. فالشباب على سبيل المثال، سيواجهون مخاطر عديدة في بداية حياتهم المهنية، نظراً لاستبدال العامل البشري بالتقنيات التكنولوجية الحديثة. وكذلك ستتأثر النساء، حيث شغلن تقليدياً الوظائف التي تركز على تقديم الرعاية، ومع التقدم التكنولوجي وتطور أجهزة المتابعة الصحية الآلية ستتأثر وظائفهم في المستقبل.

كذلك تواجه الأقليات العرقية فرص عمل مزرية؛ فبسبب التمييز ونقص التدريب، ترتفع معدلات البطالة بين الأقليات والفقراء، ودون الحصول على التدريب المطلوب ورفع مستوى مهاراتهم في المستقبل، سيكون من الصعب عليهم التكيف مع البيئة الاقتصادية الجديدة.

التداعيات التكنولوجية على السياسة العامة

تشير الدراسة إلى محدودية النقاش العام حول الأثر الاقتصادي والسياسي لاستخدام التقنيات التكنولوجية الحديثة. وثمة اتجاه بين المراقبين يخشى من تسببها في خلق طبقة دنيا دائمة من العاطلين، ولذلك سيصبح على السياسة الاجتماعية تغطية احتياجات ليس فقط من هم خارج سوق العمل، بل حتى كثيرون داخله ممن تأثرت وظائفهم بسبب التكنولوجيا.

ومن ثم، هناك عدد من الخطوات على المديين القصير والبعيد للتعامل مع التكنولوجيا الحديثة وآثارها، وهي:

1- الأمن المرن  Flexicurity:

إذا تسبب استخدام التقنيات التكنولوجية الحديثة في زيادة نسبة العاطلين عن العمل أو البطالة الجزئية، فسوف تزيد الحاجة إلى إيجاد وسيلة لتوفير الرعاية الصحية أو المعاش التقاعدي. ومن هنا يظهر مفهوم “الأمن المرن” Flexicurity or Flexible security الذي يعني الفصل بين الفوائد والخدمات التي يتمتع بها العاملون نتيجة التحاقهم بالعمل، وبين التمتع بالخدمات المختلفة لغير العاملين. وتوضح الدراسة أنه لابد من العمل لاستكشاف طرق لرعاية هؤلاء الناس في ظل الاقتصادات التكنولوجية الحديثة.

2- ضمان مورد للدخل Basic Income Guarantee:

نظراً لإمكانية استمرار معدلات البطالة أو البطالة الجزئية، اقترح البعض قيام الحكومات بدفع دخل أساسي لكل مواطن، بما يضمن حصوله على السلع الأساسية الضرورية. ومن شأن ذلك أن يساعد الذين يعانون من محدودية فرص العمل على الحصول على سُبل الإعاشة الأساسية دون القلق من التشرد أو الفقر المدقع.

3- تجديد الائتمان الضريبي على الدخل (EITC):

الهدف من ذلك هو تأكيد فكرة وجود دعم أساسي لأصحاب الدخول المنخفضة، ففي حالة وجود أعداد كبيرة من العاطلين، وأصحاب الدخول الضعيفة، سيتعين على الحكومة إعادة النظر في  الائتمان الضريبي وتطبيقه على قطاع أوسع من المواطنين، لمعالجة الاختلالات الوظيفية المستجدة.

4- صناديق أو حسابات مالية للتعلم والتدريب Activity Accounts for lifetime learning and job retraining:

الهدف من وراء ذلك توفير وسيلة لتمكين الشباب من اكتساب مهارات جديدة؛ فعندما يتم توظيف العاملين، يُمكن للشركات المساهمة بمبالغ محددة لصناديق أو حسابات العاملين، ويمكن زيادة المبلغ في هذا الحساب من مساهمات الشخص نفسه وكذلك من الحكومة على غرار صناديق أو حسابات التقاعد. وبذلك يُمكن لصاحب الصندوق أو الحساب الاعتماد عليه لتمويل نفقات التعلم مدى الحياة، وإعادة التدريب الوظيفي، على أن ينتقل هذا الصندوق أو الحساب مع الشخص في حالة انتقاله أو تغييره لوظيفته.

5- حوافز للعمل التطوعي Incentives for Volunteerism :

في ظل العالم الرقمي، ثمة ضرورة للتفكير في الحوافز والاعتمادات المخصصة للعمل التطوعي، والتي قد تتضمن مزايا اجتماعية أو مكافآت عامة تقديراً للمساهمات في تنمية المجتمع المحلي. ففي المملكة المتحدة – على سبيل المثال – يتم تغطية نفقات المتطوعين أو يحصلون على اعتمادات مالية لبرامج التدريب المهني تقديراُ لتطوعهم.

6- تشجيع المشاركة في الربح المؤسسي Corporate Profit Sharing:

تؤكد الدراسة على ضرورة تشجيع تقاسم الأرباح مع المؤسسات بالنسبة للعاملين، حيث يُمثل ذلك وسيلة لتعميم فوائد تحسين الإنتاجية على قطاع عريض من المواطنين، وهذا من شأنه أيضاً تحسين أجور العمال وتقاسم المزيد من أرباح الشركات.

7- تعديل المناهج الدراسية  Curricular Reform:

من المهم ألا تقوم المدارس بتدريب الطلاب على وظائف لن تكون موجودة في المستقبل. فالمؤسسات التعليمية التي تركز على المناهج التقليدية لن تتمكن من تزويد الشباب بالمهارات المطلوبة مستقبلاً، ولذلك فإن نظم التعليم والتدريب المهني للطلاب تعد الأقرب إلى الاحتياجات الحالية والمستقبلية لسوق العمل.

8- تشجيع الفنون والأنشطة الثقافية:

قد يتسبب التقدم التكنولوجي في إيجاد المزيد من أوقات الفراغ، لذلك لابد من تشجيع استغلال المواطنين لأوقات فراغهم في مجالات الفنون والثقافة، والتي يمكن أن تشمل القراءة والشعر والموسيقى وغيرها من المجالات والهوايات.

ختاماً، تؤكد الدراسة أن التقدم التكنولوجي قد يتسبب في حدوث مشاكل اقتصادية متعددة، والتي يمكن تلافيها بل وتعظيم المكاسب الاقتصادية عبر إعطاء مزيد من الاهتمام للعقد الاجتماعي، حيث يحتاج إلى إعادة كتابته للتوافق مع التطورات المتسارعة، ومعالجة القضايا والأزمات التي ستظهر نتيجة هذا التطور التكنولوجي.

Darrell M. West

إعداد: د. إسراء أحمد إسماعيل

مركز المستقبل للابحاث والدراسات المتقدمة

* عرض مُوجز لدراسة بعنوان: “ماذا يحدث إذا حل الإنسان الآلي (الروبوت) محل الإنسان في شغل الوظائف؟ تأثير التكنولوجيا الجديدة على العمالة والسياسة العامة”، والصادرة في شهر أكتوبر 2015 عن معهد بروكنجز.

 المصدر:

Darrell M. West, What happens if robots take the jobs? The impact of emerging technologies on employment and public policy (Washington: The Brookings Institution, October 2015).