مع حلول الذكرى الخامسة لاندلاع الحراك الثوري العربي في مثل هذه الأيام من العام 2011، فيما لا تزال حصيلة العوائد الإيجابية التي كانت متوخاة من ورائه بطيئة ومتواضعة، لا سيما الاقتصادية منها؛ تطل برأسها التساؤلات بشأن احتمالات إعادة إنتاج ذلك الحراك في بعض البلدان التي دهمتها رياحه، خصوصا في ظل انبعاث سيناريوهات ومقدمات تصعيدية مشابهة في تونس على خلفية احتجاجات ومواجهات بين الدولة وشرائح شعبية ناقمة على شظف العيش، بالتوازي مع وقوع عمليات “إرهابية” محدودة بمناطق متفرقة في ربوع مصر، تتزامن بدورها مع دعوات حذرة لإطلاق تظاهرات احتجاجية حاشدة.
ففي تونس، التي يتراءى لمراقبين هناك أن ثورتها قبرت على مذبح تسوية فوقية أبرمت بين بقايا النظام البائد وحزب النهضة الإسلامي الذي قايض شراكته الهامشية في السلطة بمصالحة مع الدولة العميقة، تجددت احتجاجات شبان غاضبين يطالبون بالعمل، واجتاحت مدنا عدة من بينها القصرين غربي البلاد، بعد يومين من انتحار شاب عاطل عن العمل احتجاجا على شطب اسمه من لائحة للتوظيف.
“توسعت رقعة الاحتجاجات لتشمل ما لا يقل عن ثماني مدن تونسية، مما أدى إلى دخول الجيش على الخط وإعلان الداخلية التونسية حظر التجوال بعموم البلاد خلال الليل”
وتوسعت رقعة الاحتجاجات إلى مدن مجاورة قبل أن تتصاعد وتيرتها لتشمل ما لا يقل عن ثماني مدن، كما هددت العديد من النقابات بشن عدد من الإضرابات والاحتجاجات، للتنديد بما أسمته “الفوضى الحكومية في تنفيذ سياستها”، ما أدى إلى دخول الجيش على الخط، وإعلان الداخلية التونسية حظر التجوال بعموم البلاد خلال الليل، ونشر قوات للجيش تحسبًا لإمكانية تحرّك “إرهابيين” في جبال تالة استغلالا منهم لغياب الأمن.
وفي مصر، وبعد مرور خمس سنوات على ثورة يناير/كانون الثاني 2011، لا يزال المصريون يتساءلون عن إنجازاتها وما تبقى منها، وما برح الجدل محتدما والاشتباك لم يفض ما بين 25 يناير/كانون الثاني 2011 و30 يونيو/حزيران 2013، حتى تزايدت المخاوف من اندلاع ثورة جديدة في ظل وجود دعاوى إخوانية بالتظاهر، بالتزامن مع انطلاق دعاوى ثورية واحتجاجية للتظاهر من قبل حركات مدنية أخرى لا تخفي رفضها للمسار الراهن.
غير أن اللافت في الحالة المصرية قد تجلى في رفض قطاع عريض من المصريين لدعاوى التظاهر أو الاحتجاج مجددا، على الرغم من تحفظ الكثيرين منهم على أداء النظام الحالي.
وانطلاقا مما ذكر آنفا، يمكن الوقوف عند بعض الملاحظات اللافتة:
أولها، أن أدبيات علم الاجتماع السياسي، كما خبرات العالم مع التجارب الثورية الشعبية تؤكد أن الحكم على تلك الثورات الحداثية التي لم تتأت على شاكلة الثورات الكلاسيكية التي شهدها العالم خلال القرنين الماضيين، من حيث النجاح أو الفشل أو موعد جني ثمارها، يتطلب مدى زمنيا يتخطى بكثير الخمس سنوات التي تلت اندلاع الحراك الثوري العربي، خصوصا في ظل أجواء الاضطراب الأمني والارتباك الاقتصادي التي تلقي بظلالها على العالم أجمع، وحالة السيولة السياسية والجيوستراتيجية التي تخيم على منطقة الشرق الأوسط برمتها.
وثانيها، أن الدول التي يتهددها شبح الحراك الثوري مجددا تعاني من غياب موجع للكوادر السياسية والإدارية، فضلا عن هشاشة النخب السياسية والفكرية، وعجزها عن ملأ الفراغ السياسي الناجم عن إسقاط الأنظمة البائدة، إضافة إلى إخفاقها في الاضطلاع بمهمة تنفيذ مطالب الثورة وأهدافها، في الوقت الذي تنزع فيه الحكومات المرتعشة المتعاقبة إلى الاستسهال في التعاطي مع التحديات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية عبر التوسع في الإجراءات القمعية وتبني سياسات تقشفية لا تلبث أن تعصف بحقوق البسطاء، دون سواهم، بدلا من ابتكار حلول إبداعية للأزمات المزمنة ، الأمر الذي فتح الباب على مصراعيه أمام انبعاث الاحتجاجات الشعبية الغاضبة.
أما ثالثها، فيتجلى في أن هواجس ونذر تجدد الحراك الثوري إنما تنحصر في البلدان التي شهدت انطلاق ذلك الحراك الثوري قبل خمس سنوات، لكنها لم تتعرض للتفكك أو الانهيار أو السقوط في براثن الحروب الأهلية أو الصراعات الطائفية التي باتت تتهدد الدولة الوطنية العربية في مقتل، حيث دشنت تلك الدول مسارات سياسية لإعادة بناء نظام سياسي أقرب للسمت الديمقراطي.
كما انتهجت نهجا تنمويا يتوسل بلوغ نهضة اقتصادية واجتماعية شاملة ومستدامة. لكن المشكلة أن عوائد وثمار تلك المسارات والبرامج قد تأخرت، بسبب الإرهاب وسوء التخطيط وغياب الكوادر الإدارية الناجعة والمبدعة، فلا الديمقراطية ترسخت دعائمها ولا التنمية ظهرت بشائرها حتى الآن.
“واحدة من مشكلات دول الثورات العربية تكمن في ارتفاع سقف توقعات الشعوب وتعجلها قطف ثمار تلك الثورات، في الوقت الذي يعجز فيه مستوى أداء الحكومات والأنظمة الجديدة عن الوفاء بتلك التوقعات “
ورابعها، أن المشكلة الحقيقية تكمن في ارتفاع سقف توقعات شعوب بلدان الثورات وتعجلها قطف ثمار تلك الثورات في الوقت الذي يعجز مستوى أداء الحكومات والأنظمة الجديدة عن الوفاء بتلك التوقعات، في ظل ظروف إقليمية ودولية قلقة ومشكلات محلية معقدة ومزمنة.
وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن الدواعي الاقتصادية والاجتماعية المحركة للاحتجاجات والمغذية للهواجس الخاصة بتجدد الحراك الثوري، والتي تعرف بالاقتصاد السياسي للثورة، إنما تأتي هذه المرة في سياق وضع اقتصادي عالمي متأزم، فلئن قفز معدل البطالة في تونس إلى 15% بعد أن كان 12% عام 2010 -إذ يعاني ثلث الشباب التونسي من البطالة، بينما تبلغ نسبة البطالة في أوساط الخريجين 62%- فليس الحال في مصر بالأفضل على الإطلاق، حيث البطالة المرتفعة والركود الاقتصادي وارتفاع الأسعار وغير ذلك من المشكلات.
وما التراجع الاقتصادي في تلك البلدان بالمنبت الصلة عن تراجع عام يخيم على الاقتصاد العالمي ككل، في ظل عدة معطيات أبرزها: انهيار عدد من أسواق الأسهم الرئيسة حول العالم، وتراجع النمو الاقتصادي في الصين، وتدهور أسعار النفط إلى 27 دولارا للبرميل بسبب زيادة المعروض منه بواقع 31% بعد عودة إيران كمصدر بارز داخل منظمة “أوبك” وزيادة حصص السعودية وليبيا والعراق، فضلا عن تفاقم صادرات الدول من خارج المنظمة، في ظل حرص الدول المصدرة للنفط على إبقاء سعر النفط العادي أقل من النفط الصخري ليستمر الاعتماد الأميركي على نفطها، علاوة على تراجع معدلات نمو الاقتصاد الأميركي بنسب هي الأخطر منذ أربعينيات القرن الماضي.
ونتيجة لذلك تنامت التوقعات بتفاقم معدلات البطالة حول العالم، حيث أعلن المكتب الدولي للعمل أن عدد العاطلين عن العمل في العالم يبلغ حاليا 213 مليون شخص، وقد أرجع خبراء التراجع في معدلات التوظيف وتدهور البطالة في الأشهر الأخيرة إلى تغيير سياسات الدول التي تخلت عن خطط الإنعاش لتتبنى برامج التقشف، وهو ما يهدد باندلاع أزمات اجتماعية حادة.
وقد حذرت صحيفة “الغارديان” البريطانية من تزايد المخاوف من انهيار اقتصادي عالمي يذكر بالأزمة المالية في عام 2008، إثر ما سمته “الهلع الذي يسود الأسواق المالية العالمية”، والذي تمخض بدوره عن موجة من الاهتزازات في الأسواق المالية عززت من اندفاع المستثمرين للبحث عن أماكن آمنة لاستثماراتهم. وبناء عليه، هيمن موضوع تباطؤ الاقتصاد العالمي على أجندة الاجتماع السنوي لصندوق النقد والبنك الدوليين في أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
وخامسها، ثمة تحسب أمني محلي وإقليمي عالي المستوى لأي تصعيد للحراك الشعبي العربي هذه المرة، توخيا للحيلولة دون توسعه وانتشاره داخل الدولة الواحدة ككرة الثلج، أو على المستوى الإقليمي وفقا لنظرية الدومينو على غرار ما جرى قبل سنوات خمس خلت، لا سيما بعد أن حذرت زعيمة حزب العمال التروتسكي في الجزائر لويزة حنون من اندلاع ما أسمته “ثورة اجتماعية”، جراء إمعان الحكومة في تطبيق سياسة وصفتها بـ”التجويعية”، من خلال لجوئها إلى الخيارات السهلة بفرض ضرائب ورفع أسعار السلع الاستهلاكية الأساسية كالوقود والكهرباء والماء، لمواجهة تداعيات الأزمة الاقتصادية بما يكبل القدرة الشرائية للفئات الاجتماعية البسيطة، دون المساس بمداخيل الطبقة الثرية وكوادر الدولة. الأمر الذي أدى إلى اتساع الاحتجاجات في الشارع الجزائري ضد السياسة الحكومية بعدما هددت العديد من النقابات بشن إضرابات واحتجاجات، للتنديد بما أسمته “الفوضى الحكومية في تنفيذ السياسات”.
وأدان خبراء افتقاد الحكومة للشجاعة السياسية بغية إقناع الجزائريين بالإجراءات التقشفية التي تبنتها، فبتجاهلها ثقة الشارع المهزوزة فيها، انتهجت الحكومة أسلوب التحايل على الشعب، بعد إفراد قانون الموازنة لبند يسمح لوزير المالية التصرف في الموازنة العامة، وهو ما تعتبره المعارضة مصادرة لحق البرلمان ولسلطة رئيس الجمهورية.
“أحد أخطر التداعيات السلبية لما تشهده تونس ومصر وغيرهما من الدول العربية هذه الأيام، يكمن في إمكانية تقويضه لثقة مواطني دول الثورات، ليس فقط في جدوى “الثورة” كآلية للتغيير نحو الأفضل، وإنما أيضا في أهمية الديمقراطية التي قد تتمخض عنها”
وربما انبلج ذلك التحسب الأمني من رحم تعاظم المخاوف من استغلال الإسلاميين المتطرفين لأي حراك شعبي جديد، وقيامهم باختطافه والزج به وبدول وشعوب المنطقة والعالم إلى مآلات كارثية مثلما حدث في مصر وتونس، حيث جنحت جماعات إسلامية راديكالية إلى مبايعة وموالاة تنظيم “داعش الإرهابي”، فيما انضوى زهاء ثمانية آلاف “متطرف” تونسي تحت لواء التنظيمات “الإرهابية” في سوريا والعراق، كما تقلد بعضهم مناصب قيادية مهمة داخل الهياكل الإدارية لتلك التنظيمات، لتحتل بذلك الدولة المفجرة للحراك الثوري العربي المرتبة الرابعة فيما يخص قائمة جنسيات المسلحين المنخرطين في تلك الجماعات بعد الشيشان والسعودية ولبنان.
أخيرا وليس آخرا، فإن أحد أخطر التداعيات السلبية لما تشهده تونس ومصر وغيرهما من الدول العربية هذه الأيام، إنما يكمن في إمكانية تقويضه لثقة مواطني تلك الدول، ليس فقط في جدوى “الثورة” كآلية للتغيير نحو الأفضل، وإنما أيضا في أهمية الديمقراطية التي قد تتمخض عنها، كأداة ناجزة لتحقيق الاستقرار والتنمية.
فلم تكن الخطوات المهمة والخجولة التي خطتها كل من تونس ومصر على طريق بناء أنظمة مدنية ديمقراطية بفعل الحراك الثوري، لتنعكس بالإيجاب على الأوضاع المعيشية والحياة اليومية للمواطنين، خصوصا على المدى القصير، وهو الأمر الذي من شأنه أن يقلص مستوى الطلب على الديمقراطية في سائر البلدان العربية، وربما على مستوى العالم الثالث ككل، التي لن تجد نخبها وأنظمتها -غير المؤمنة أصلا بأولوية قضية الديمقراطية- أية غضاضة في عرقلة أو تجميد مسيرة التحول الديمقراطي القلقة، كلما تراءى لها ذلك، تذرعا بمحاربة “الإرهاب”، والحفاظ على وحدة الدولة الوطنية، أو توسل النمو الاقتصادي.
بشير عبدالفتاح
الجزيرة نت