تونس على مفترق طرق حقيقي، وهي البلد الوحيد من بلدان الربيع التي تواصل مسار انتقالها الديمقراطي، ويؤكّد خبراء الاقتصاد والانتقال الديمقراطي أنه لا سبيل لنجاح هذا الانتقال ما لم ينجح في إحداث نقلة اقتصادية واجتماعية.
الانقسام الاجتماعي حقيقة الحقائق في تونس، وهو انقسام عمودي يشقّ البلاد إلى ساحل وداخل وحاضرة وهامش، والهامش ليس حيّزا جغرافيّا بقدر ما هو “مستوى معيشي”، فكما يكون في مدن الداخل المفقّر نجده مجاورا “لأحياء الفساد البرجوازي” في العاصمة، مثلما هي حال “بوسلسلة” و”الجبل الأحمر” الحيَّيْن الشعبيّيْن المُفقّرَيْن، وقد يتحوّل الهامش إلى ما يشبه “الفيتو” أو المخيّم الفلسطيني، مثل أحياء “دوار هيشر” و”سيدي حسين” و”الكباريّة”، التي تمثّل أحزمة الفقر في العاصمة التونسيّة، وتكاد تتحوّل إلى عوالم اجتماعيّة وتبادليّة ولسانيّة ورمزيّة مستقلّة.
والانقسام الاجتماعي ساحل/داخل لا يمكن إلاّ أن يذكرك بانقسام مخيم/مستوطنة في فلسطين المحتلّة وما جاورها.
“كان الانقسام الاجتماعي سبب الثورة العميق، وكانت انتفاضة الهامش المفقّر 17 ديسمبر/كانون الأول 2010 صورته السياسية، وكان رأبُه هو الغاية التي تجري إليها، وكان الوجه الاجتماعي للحرية والكرامة هو توحيد البلاد اجتماعيّا”
يشعر من أقام بضاحية قرطاج أو قمرت من سكّان الداخل -لمصادفة عابرة- بأنّه سكن مستوطنة، ويكون هذا الشعور حافزا له على “اكتشاف” أنّ مدينته الأصليّة لا تشبه سوى مكان واحد هو المخيمّ الفلسطيني. فكأنّ في بلادنا جدل لا ينتهي بين المستوطنة والمخيّم، بل بلادنا مستوطنات قليلة ومخيّمات ممتدّة من “بنزرت” إلى “رأس الجدير”.
كان الانقسام الاجتماعي سبب الثورة العميق، وكانت انتفاضة الهامش المفقّر 17 ديسمبر/كانون الأول 2010 صورته السياسية، وكان سبب انتفاضة الهامش الجذريّة، وكان رأبُه هو الغاية التي تجري إليها، وكان الوجه الاجتماعي للحرية والكرامة هو توحيد البلاد اجتماعيّا.
وكان الوصول إلى هذه الغاية المتمثّلة في “توحيد البلاد اجتماعيّا” من خلال تنمية محلية عادلة ومستدامة هو المضمون الاجتماعي للديمقراطيّة في بلادنا، وكنا على وعي بأنّه لا استقرار دون عمليّة التوحيد هذه.
ولم نكن نطمع أن يتحقّق هذا الهدف بقرار سياسي، وإنّما كان مأمولا أن يشرع أصحاب هذا القرار السياسي، الذي حررت الثورة إرادته بالتفويض التاريخي في 23 أكتوبر/تشرين الأول 2011، في “مشروع التوحيد الاجتماعي” بوضع اللبنات الأولى المطلوبة وتلبية الاستحقاقات الاجتماعيّة العاجلة.
ولكن العوامل الذاتيّة والموضوعيّة التي ألمّت بمن تمّ تفويضهم حالت دون وضع اللبنة الأولى، وبقي الأمر على حاله بسبب انقسام الطبقة السياسيّة وعجزها عن بناء وفاق وطني كانت البلاد في أشدّ الحاجة إليه، وهو انقسام لا يقلّ خطورة عن الانقسام الاجتماعي.
وكان خبراء الاقتصاد يدركون أنّ شرط النهوض الاقتصادي وانطلاق برنامج تنموي حقيقي شرط سياسيّ وليس اقتصاديّا، ويتمثّل هذا الشرط في استقرار سياسي وهدنة اجتماعيّة تضمن استثمارات ضخمة كانت كفيلة بتحقيق مستويات عالية من النموّ الاقتصادي قد تفوق السبع نقاط، وهو ما يعني تشغيل أكثر من مئة ألف عاطل عن العمل سنويّا.
كانت لانقسام الطبقة السياسيّة وما نتج عنه من تجاذبات حادّة واضطراب اجتماعي نتيجتان كارثيّتان: تعطيل الآلة الاقتصاديّة وعودة المنظومة القديمة بعناوين سياسيّة مستعارة. فكما منع التجاذب السياسي الحادّ والعمليات الإرهابيّة توفير الاستقرار الذي يحتاجه الاستثمار، كان انقسام النخبة المنْفذ الوحيد الذي تسرّبت منه المنظومة القديمة للالتحاق بصفّ “المعارضة” مع انطلاق مرحلة التأسيس التي كانت تعني كلّ القوى التي ضمّها المجلس الوطني التأسيسي، غير أنّ الصراع السياسي بعنوان أغلبيّة وأقليّة وحكم ومعارضة، قبل أن تتوفر أرضيّته المؤسسات والديمقراطيّة ودستوريّة، مثّل انحرافا سياسيّا ما زالت تعاني منه البلاد.
ورغم تبدّل الوجوه السياسيّة في تدبير الشأن العام بقي الشرخ الاجتماعي هو القاسم المشترك بين كلّ المراحل التي شهدتها الحياة السياسيّة والاجتماعيّة في سنوات الثورة الخمس، وكان أداء من تمّ تفويضهم متقاربا رغم اختلاف درجات الإخفاق، ورغم اختلاف هذه الجهات المُفوّضة في مرجعياتها وارتباطاتها وغاياتها، لأنّ قانون الشرخ الاجتماعي كان بمعزل عن منطق الحياة السياسيّة، وقانونه هو الاحتجاج المتواتر.
“تبقى أسباب الاحتجاج فاعلة أيّا كانت الجهة السياسيّة الحاكمة، لكن هذا لا يمنع وجود جهات سياسيّة وأيديولوجيّة متهيّئة دوما لركوب موجة الاحتجاجات الأصيلة وتوجيهها بما يخدم أجندتها الحزبية والفئويّة”
وفي هذا السياق يأتي حديث رئيسه الدكتور محمد المنصف المرزوقي عن دور إحدى الدول العربيّة الصغيرة في استهداف التجربة التونسيّة الرائدة، وهو ليس اتهاما منه لهذه الدولة بقدر ما هو تذكير لها بما صرّح به قادتها وأمنيوها، وما تناقلته وسائل إعلام أميركيّة وأوروبيّة باستهداف تونس، وبما اجتمع من مؤشّرات في الأحداث الأخيرة على هذا التدخّل.
لم تكن الثورة نفسها خارجة عن قانون الانقسام الاجتماعي هذا، غير أنّ من ثاروا في الهامش ونقلوا حركتهم إلى الحاضرة كانوا يُحسنون الظنّ بالطبقة السياسيّة التي خرجت لتوّها موحّدة من مواجهة الاستبداد؛ فقد وحّدها مطلب الحريّة.
كان الهامش الثائر يُحسن الظن بمناضلي الطبقة السياسيّة، لأنّه لم يختبرها، وكانت انتظاراته من أدائها كبيرة، ولكنّ حصاد السنوات الخمس من الثورة كان مرّا، وكان يمكن لبعض الأفذاذ من أهل الاختصاص في الحركات الاجتماعيّة أن يتبينوا ملامح ما سيكون على مدى خمس سنوات منذ القصبة (1) والقصبة (2) وما كان فيهما من احتكاك سياسي غير مسبوق بين الحاضرة ونخبتها والهامش الذي حلّ بينهم ليكتب دستور ثورته على جدران “قصبتهم” الناصعة.
بقي الهامش موضوعا للسلطة حين يستسلم وموضوعا للركوب حين يثور؛ فلم يستطع أن يكون لسان حال نفسه، أو أن يبني مع الحاضرة “خطابا مشتركا جديدا” يمكن أن نطلق عليه خطاب الثورة. كانت هنالك أصداء لصوت الهامش تظهر على مدى السنوات الخمس الماضية وفي محطّات مختلفة: في زمن الترويكا، وفي حكومة التكنوقراط الشهيرة، وهذه الأيّام، ولكن ضجيج الطبقة السياسية -حُكْمًا ومعارضةً- وفي المراحل المذكورة جميعا، كان يطغى على هذا “الصوت الوليد” فيختلط الأمر حتّى على محترفي السياسة والخائضين فيها، وهذه الأيام بدا صوته أوضح رغم ركوب الراكبين وخوف المذعورين.
هذه الحقيقة لا تبرّئ الفريق الحاكم بوصفه مسؤولا مسؤوليّة مباشرة، ولا تُبرّئ أحدا، مع اختلاف في درجة الإدانة؛ فمن الإنصاف أن يُنسّب مَنْ تحمّل المسؤوليّة يوما حديثه في المسألة الاجتماعيّة وأن يكون مروره بنصيبه من الإخفاق أدعى للمصداقيّة، ومن المروءة أن يكفّ من احترف ركوب الاحتجاج الاجتماعي عن توظيف حركة المحرومين من التشغيل وقيام المهمّشين من أجل حقوقهم في خدمة أجندته الفئويّة، ومن المروءة أن يجتهد في بناء معادلة تجمع بين تحقيق جانب من أهداف المحتجّين ونجاحه في دعم صورته ومصلحة البلد.
ومن المفاجآت السارة أن يتجنّب من بيده الحكم اليوم اللغة الخشبيّة وأن يعترف بإخفاقه وافتقاده الرؤية الواضحة والبرنامج الدقيق الملائم، وألاّ يُعلّق فشله على خمسين عاما من التنمية المشوّهة والسياسات الاقتصاديّة الفئويّة، لأنّه لا يفتأ يذكر وراثة إرثها السياسي والرمزي، ولأنّه كان بالأمس لا يُنصف مَنْ طالبه بالهدنة كي يتوفّر المعلوم من شروط التنمية بالضرورة.
ومن الكياسة أن ينتهي الجميع إلى أن منطق التسوية المسمّى “توافقا” لن يُسعف البلاد بالخروج من الأزمة الخانقة، ولئن كان من “فوائد” التسوية تجنيب البلاد الاحتراب الأهلي، إلى حدّ الآن على الأقلّ، فإنّها أورثت حالة من الهشاشة السياسيّة جعلت البلاد غير قابلة للحكم إن لم يكن حكمها مستحيلا أصلاً.
ويتأكّد هذا الاستعصاء بعد انتخابات 2014 التشريعيّة والرئاسيّة التي حملت نداء تونس عنوان المنظومة القديمة إلى الحكم، وهو الحزب الذي وعد التونسيين بازدهار اقتصادي تصنعه كفاءاته الفذّة وبرنامجه الاقتصادي “المذهل”.
“تونس هي البلد الوحيد من بلدان الربيع التي تواصل مسار انتقالها الديمقراطي، ويؤكّد خبراء الاقتصاد والانتقال الديمقراطي أنه لا سبيل للنجاح هذا الانتقال ما لم ينجح في إحداث انتقال اقتصادي اجتماعي”
وكان للتونسيين ما توقّعه زعيم النداء، الذي صار رئيس تونس، من الدوار وفقدان الصواب أمام نسبة النموّ التي قاربت الصفر، وتشير بعض الدوائر الاقتصاديّة العليمة إلى تدحرجها إلى ما تحت الصفر، في حين تراوحت النسبة زمن الترويكا بين 2.8 و3.5% وهو ما يجعل المقارنة بين حكم الترويكا وحكم النداء وحلفائه مثيرة للعديد من المفارقات.
ومن هذه المفارقات ما كان قادحا على السؤال التالي: إذا كان فشل الترويكا الرئيسي بسبب رفض المنظومة القديمة وحلفائها النتائج السياسيّة للانتخابات التأسيسيّة أدّى إلى حرمانها من شروط النجاح الاقتصادي والإصلاح الاجتماعي، فما الذي حرم الائتلاف الرباعي المسمى “ائتلاف التسوية” من النجاح رغم رعاية القديم العائد؟
الجواب يجد حقيقته في المسألة الاجتماعية، وتحديدا في الصدع الاجتماعي الذي لم يُرأَبْ، فضلا عن عامل الفساد الذي تفاقم بعد الثورة، ولا سيّما عودة المنظومة القديمة برموزها التي كانت عناوين الأزمات الاجتماعيّة الحادّة التي عرفتها تونس على مدى عقود.
من المهمّ الإشارة إلى أنّ الإسلام السياسي الذي عُدّ أحد أهمّ الشروط في بناء الديمقراطيّة صار جزءا من التسوية المذكورة رغم إصراره على تسميتها “توافقا”، ومن المهمّ لفت الانتباه إلى أنّ التسوية التي عقدها مع القديم تقع داخل مجال المنظومة الديمقراطيّة سليلة المسار الثوري، ولكن يبدو أنّها مشروطة بإكراهات القديم وبمصالحه الموروثة عن منظومة الفساد.
يقف المتتبع للشأن التونسي على تعقّد المشهد السياسي، وأنّه مشهد انتقالي بامتياز، ولم يفصح عن نتاجه ليستقر عند معادلة سياسيّة واضحة المعالم، ومن المثير أنّ القديم والجديد ليسا جبهتين متقابلتين مثلما كانت عليه الحال عند اندلاع الثورة أو في بدايات المسار التأسيسي، ولئن كان الجديد كلّه منضويا داخل المنظومة الديمقراطيّة فإنّ بعض مكوّناته اليوم جزء من ائتلاف التسوية، في حين توزّع القديم بعد انشقاقه بين داخل المنظومة الديمقراطيّة وخارجها، وهو في موقعيه المختلفين مهدّد للديمقراطيّة الناشئة.
تونس على مفترق طرق حقيقي، وهي البلد الوحيد من بلدان الربيع التي تواصل مسار انتقالها الديمقراطي، ويؤكّد خبراء الاقتصاد والانتقال الديمقراطي أنه لا سبيل لنجاح الانتقال الديمقراطي في تونس ما لم ينجح في إحداث انتقال اقتصادي اجتماعي.
لن تصبح تونس قابلة للحكم إلاّ على أساس أرضيّة وفاق وطني جامعة قوامها خطّة وطنيّة لمقاومة الفساد ومنوال تنموي بأفق مواطني اجتماعي لرأب الصدع الاجتماعي ومصالحة وطنيّة من أجل محاسبة على قاعدة قانون العدالة الانتقاليّة وإستراتيجيّة وطنيّة لمقاومة الإرهاب.
عندها يمكن لصوت الهامش أن يلتقي مع صوت الحاضرة لأوّل مرّة في تاريخ تونس الحديث، وعندها يكون لديمقراطيتنا نكهتها الخاصّة في جمعها بين الحريّة والكرامة.
زهير إسماعيل
الجزيرة نت