ليست المرة الأولى التي يهبط فيها سعر برميل النفط إلى ما دون الثلاثين دولاراً. ولكنها المرة الأولى التي تستدعي حالة الهبوط إجراءات ترشيد إنفاق في أغلب دول الخليج العربي. علماً بأن القراءات الاقتصادية لأسعار النفط تشير إلى إمكانية هبوطه إلى العشرة دولارات. وإذا كان كثير من شعب الخليج يشعرون بالقلق على دولة الرفاه التي ولدوا فيها وشبوا عليها، فإن السؤال الاستراتيجي الذي يجب ألا نغفل عنه هو كيف ستعيش أجيال ما بعد النفط في دول الخليج؟
في إحدى المقالات التي قرأتها حول قضية انخفاض أسعار النفط استوقفتني فكرة أن من أخطاء دول الأوبك انجرافها نحو رفع سعر البرميل الخام إلى ما يزيد على 140 دولاراً. حيث أدى ذلك إلى لجوء كثير من الدول لتطوير الطاقة البديلة المنتجة محلياً للتخلص من معضلة التكلفة الباهظة للنفط. وفي تصفحي لبعض حسابات «الفيس بوك» حول الأزمة اليمنية فوجئت بحساب مواطن يمني بسيط (يدردش) بأسلوب بسيط حول توسعه في استخدام بطاريات الطاقة الشمسية في قريته بعد أن انقطع التيار الكهربائي بشكل كامل. وكان من ضمن “دردشات” الأخ اليمني قدم استخدام البطاريات الشمسية في اليمن لأن البلاد في ظل حكم علي عبدالله صالح لم تكن تحظى بدولة توفر أبسط احتياجات المواطنين، فكان الشعب يلبي احتياجاته بنفسه عبر استيراد التجار للبطاريات الشمسية من الصين.
إذاً… النفط لم ينضب بعد من جوف الخليج العربي، لكنه لم يعد المصدر الأوحد لتوليد الطاقة. مازال العالم يحتاج لنفطنا، ولكن بإمكان الكثيرين الاستغناء عنا. أمام هذا الواقع يمكننا القول إن النفط خلق في بلداننا الخليجية ثقافة خاصة جوهرها الترف والاستهلاك. فنحن نسكن أفخم المنازل ونركب أحدث السيارات ونستبدل هواتفنا المتنقلة كل عامين في حد أقصى. ونسافر مرة واحدة في السنة على الأقل، ولم نعد نقبل بأقل من السفر إلى أوروبا صيفاً بعد أن سئمنا رحلات شرق آسيا. عدا ذلك لم نؤسس لإمبراطورية خليجية تستثمر الثروة الهائلة التي وردت إلينا من أسفل الأرض ولم نستفد من مجلس التعاون تحت أي صيغة اتحادية أو تنسيقية لخلق تكامل اقتصادي. فليس لدينا اكتفاء زراعي إذ لم نتوسع في استصلاح الأراضي ولم نحافظ على المياه الجوفية. وليست لدينا ثروة حيوانية تغنينا عن استيراد اللحوم. وليست لدينا صناعات إنتاجية حقيقية. أغلب صناعاتنا تحويلية أو مصانع بلاستيك وتعبئة بطاطا مقلية (شيبس). نحن ما زلنا نعول أن بإمكاننا استيراد كل شيء فلا داعي لأن نكدس بلادنا بكل ما سنستورده.
وإذا توقفنا عند الإنجاز الحضاري لدول الخليج سوف نجد أن التعليم الحكومي والخدمات الصحية الحكومية يعانيان ضعفاً حقيقياً. وأن الخدمات البلدية ليست بالجودة المطلوبة. وإذا قدرنا أن وجود النفط حتى هذه الساعة يعد أحد مصادر قوة بلداننا وإحدى أدواتها في التأثير والضغط. فإن الدراسة الواعية لمفهوم القوة عند الدول قديماً وحديثاً تستدعي أن تمتلك الدول تطوراً ثقافياً وحضارياً وإنسانياً متمثلاً في الإنتاج العلمي والتأليف والأنظمة التشريعية والقوانين وقطاعات التعليم والصحة والبنى التحتية وقوة الجيوش والكفاءة الدبلوماسية والسياسية العالية كي تصمد طويلاً أمام أي أزمات أو تغير في موازين القوى وهو الأمر الذي نفتقده.
ماذا ادخرنا لأجيال ما بعد النفط؟ حتى هذه اللحظة لا تبدو الأمور واضحة. فلسنا ندرك ماذا تنتج الدول من طاقات بديلة تعتبر الطاقة الشمسية أبسطها والطاقة النووية أكثرها تعقيداً. غير أن اجتماع صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، وصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة وعقدهما خلوة مع مجلس الوزراء بحضور مجموعة من الوكلاء والمديرين لمناقشة اقتصاد الإمارات ما بعد النفط يعد مؤشراً جيداً. ففضلاً عن كون دولة الإمارات العربية المتحدة من الدول الخليجية التي تمكنت من رفع نسبة مصادر الدخل غير النفطية إلى ما يقارب 70%. فهي الدولة الخليجية الأولى التي تسعى لوضع استراتيجية لاقتصاد متنوع خالٍ من النفط.
لكن… ما يتمناه المواطن الخليجي أن تتوسع الخلوة الإماراتية لتشمل كل دول الخليج. وأن يعلن أصحاب الخلوة عن مشروعات إنتاجية مشتركة متكاملة تبدأ فعلاً ولا تبقى معلقة أو حبيسة الأدراج، وتجيب عن أسئلة المستقبل الحرجة. أسئلة مستقبل دولة الرفاه ومستقبل الإنسان الخليجي الذي ركن طويلاً إلى الدعة والاستهلاك والذي يطمح لأن يعيش أبناؤه وأحفاده الرفاهية ذاتها. والسؤال الذي أصبح بعيده قريباً: كيف سيعيش أبناء الخليج العربي عصر ما بعد نضوب النفط؟
د. انتصار البناء
صحيفة الخليج