في سيرة حزب الله منذ نشأته حتى اليوم أن المقدس لديه هو السلاح. ففي كل المحطات التي مرت على لبنان – الدولة طيلة العقود الثلاثة الماضية، كان حزب الله يعلي دائما من شأن سلاحه، بما يجعله فوق كل الاتفاقات التي تريد الذهاب بلبنان إلى تثبيت مرجعية الدولة والدستور والقانون والمساواة بين المواطنين. ودائما كان حزب الله، ومن خلفه النظام السوري أو القيادة الإيرانية، يسعيان معا نحو جعل سلاح حزب الله خارج أيّ مساءلة أو محاسبة وقبل ذلك ثابتة لا تمسّ في لبنان.
كانت ذريعة المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي إحدى أبرز الذرائع التي اعتمدت لتبرير وجود هذا السلاح لبنانيا، لكن اليوم يمكن القول إن هذه الذريعة لم تكن إلا وسيلة من وسائل فرض وجود هذا السلاح على اللبنانيين. إذ يكفي أن نشير إلى أن حصر سلاح المقاومة بيد حزب الله، بضغط سوري وإيراني في عقد التسعينات من القرن الماضي، ومنع أيّ لبناني من مقاتلة إسرائيل إذا لم يكن تحت قيادة حزب الله، هو مؤشر إلى أن الغاية تتجاوز فكرة تحويل مقاومة الاحتلال إلى مشروع لبناني وتحقيق السيادة اللبنانية وتعزيز قدرات الدولة وأجهزتها.
قدسية السلاح الحزبي، على حساب مرجعية الدولة وعلى حساب حصريّة امتلاكها القوة العسكرية، هو المسار الذي انتهجه حزب الله ولا يزال. ذلك أن معيار المصلحة الوطنية والانتماء للبنان يفرضان اندراج أي سلاح لمن ينتمي إلى لبنان، فضلا عمّن يشارك في السلطة التشريعية والتنفيذية، تحت شروط الدولة التي يشارك في حكمها. وعليه أن يقدم ما يمتلكه من خبرات عسكرية ومن سلاح إلى الدولة وأجهزتها، وأن يسلم بمرجعيتها وشروطها التي قبل بها وانخرط في مؤسساتها. إذ لا يمكن لأي دولة في العالم، متقدمة أو متخلفة، أن تقوم على ثنائية عسكرية واحدة رسمية وأخرى حزبية فئوية.
من هنا لا يمكن إحالة رفض حزب الله الاندراج في شروط الدولة إلا لقرار خارجي، أي إلى القوى التي تقوده وتتحكم بخياراته. وهي كما هو معروف اليوم إيران، التي جنّدت هذه القوة العسكرية منذ نشأتها في مشروعها الإقليمي، ضد أميركا وضد إسرائيل، وضد الدول العربية كما حصل حين محاولة اغتيال أمير الكويت قبل ثلاثين عاما، وضد الدول الأوروبية والغربية منذ مرحلة تفجير السفارات في عقد الثمانينات، إلى عمليات خطف الرهائن الغربيين في نفس الفترة. كل ذلك جرى في سياق الوظيفة الإيرانية التي سخّرت إيران حزب الله في سبيلها، بعناوين أيديولوجية وسياسية، باسم الإسلام حينا، وباسم المستضعفين أحيانا أخرى، لكن دوما كان من يقرر هذه الحرب وينهيها ويفتح جبهة أخرى، هي القيادة الثورية في إيران.
الوظيفة العسكرية والقتالية هي شريان الحياة الرئيس. فعندما اقتضت المفاوضات النووية الإيرانية مع الغرب تراجعا في التوتر الإيراني مع الغرب، وتراجعا في العداء بين حزب الله وإسرائيل، كان لا بد من توفير وظيفة عسكرية لحزب الله لإبقائه على قيد الحياة العسكرية، ولاستكمال شروط تنفيذ السيطرة الإيرانية في أكثر من إقليم، فكان الإرهاب هو البديل. فانخراط حزب الله في القتال دفاعا عن النظام السوري بعد قيام الثورة، شكل الوسيلة الفضلى لإنعاش الانقسامات المجتمعية في هذا البلد، والعلّة الموضوعية لتنامي ظاهرة الإرهاب، لا بل كشف حزب الله بشكل صريح عن أدوار يلعبها في الصراعات التي تشهدها دول مثل اليمن والعراق تحت شعار “سنكون حيث يجب أن نكون”، وبالتأكيد فإن كفاءة حزب الله ليست إلا كفاءة أمنية وعسكرية.
انطلاقا من هذا المسار العسكري والأمني والوظيفة الإيرانية لدوره في المنطقة، سيبدو من المستحيل على حزب الله أن يندرج في سياق سياسي مدني يقوم على وظيفة كما هي وظيفة حزب أو قوة اجتماعية في أيّ بلد، أي الوصول إلى السلطة والحكم من خلال قواعد الدولة وشروطها الداخلية والخارجية. حزب الله لن يقبل بأن يَتولّى حكم الدولة اللبنانية من ضمن قواعد الحكم الطبيعي في أي دولة من هذا العالم. فهو لا يريد، حتى لو سلم اللبنانيون له مصيرهم ودولتهم، أن يتولى هذه المهمة. ذلك أنه يريد غُنم الدولة ولا يريد أن يتحمل غُرم المسؤولية، وهو نجح في أخذ ما يريد من الدولة ولكن لا يتحمل مسؤولية الحكم ولا الاقتصاد ولا هو معني بالنظر إلى مصالح الدولة في علاقاتها الخارجية، أو مواجهة أزمة الدين العام. هو لا يريد تحمل هذه الأعباء بل يريد مكاسب السلطة وقد تحقق له ذلك فعليا.
نخلص في هذا التوصيف إلى محاولة فهم لماذا يحرص حزب الله على حماية الفراغ الدستوري في موقع الرئاسة الأولى؟ هو أولا، ينتمي بالكامل إلى شروط لعبة إقليمية يشكل فيها إحدى أذرع إيران العسكرية في المنطقة وهذا ما تثبته الوقائع الميدانية على امتداد مناطق الصراع التي تشكل إيران طرفا فيها في المنطقة العربية. وثانيا، في الساحة الداخلية يريد للبنية السياسية الرسمية أن تشكل حاميا لهذه الوظيفة. وهذا يبدو متوفرا إلى حدّ كبير، وسبب توفره هو أن لبنان بنظر المجتمع الدولي تضيع فيه المسؤولية لعدم وجود رئيس للجمهورية. وبسبب الانقسام في السلطة، والتعطيل الذي يشوب المؤسسات الدستورية، هذه الوضعية ملائمة لحزب الله لأنها تخفف عنه عناء الضغوط الخارجية عبر الدولة.
وبعدما استقر الخيار الرئاسي في لبنان على حليفيْ حزب الله سليمان فرنجية وميشال عون، فإن وصول أيّ منهما سيعني انتصار حزب الله، لكن لماذا لم يسارع حزب الله إلى دفع حليفيْه إلى الذهاب نحو منافسة انتخابية وليفز من لديه أكثرية الأصوات؟
ببساطة لأن حزب الله لا يريد الآن رئيسا ولا يريد بالتحديد حليفا في موقع الرئاسة الأولى، لأن وصول الحليف سيعني أن حزب الله يجب أن يراعي موقع الرئاسة، ويجب أن يقدم شيئا لحليفه كي ينجح في إدارة شؤون الدولة المثقلة بالأزمات، ومعنيّ بأن يساعدها على تنشيط علاقاتها الخارجية. وهذا ما لا طاقة لحزب الله على فعله لأنه في هذا المضمار هو المطالب بالتنازل، من هنا يتحول تمديد الفراغ وتعليق الدولة إلى خيار مثالي لحماية وظيفة حزب الله الإيرانية في لبنان وفي نشاطه الإقليمي.
علي الأمين
صحيفة العرب اللندنية