ولادة أي مشروع عربي يواجه مشاريع عدد من الدول لا تتم آنيا وفورا، وهي بحاجة إلى إعداد طويل لكي تتشكل البيئة الحاضنة لهذا المشروع جماهيريا وتوفير المستلزمات التي يتطلبها النجاح.
للتعبير عن مخاوفها، دأبت أوساط عربية على الحديث عن مخاطر ما يسمى المشروع الإيراني الذي يتطلع إلى التوسع على حساب العرب والهيمنة عليهم، بخاصة في منطقة الخليج. حكام عرب وأكاديميون ووسائل إعلام مختلفة يتحدثون عن الخطر الإيراني القائم الذي يهدد ما يسمى المشروع العربي، وعن ضرورة مواجهته وإنقاذ الوطن العربي من براثنه ومخالبه.
هناك حملة عربية كبيرة ضد هذا المشروع غير المحدد المعالم، ودون أن يكلف قادة هذه الحملة أنفسهم مهمة تعريف هذا المشروع وشرح أهدافه ووسائل وأساليب تنفيذه. هناك ضجة إعلامية وسياسية واسعة ضد هذا المشروع، لكنها أشبه ما تكون بحمى خطابية على نمط الحمى التي شهدناها ضد المشروع الصهيوني.
وهناك حديث آخر حول المشروع الأميركي في المنطقة، ولكن من قبل الذين لا يؤمنون بوجود مشروع إيراني. ويقول هؤلاء إن أميركا هي التي تهيمن على الوطن العربي وتسوق الحكام العرب وفق مصالحها هي، لا وفق مصالح الأمة العربية.
وآخرون يتحدثون عن المشروع الصهيوني الذي يجسده الكيان الصهيوني ويمعن في تنفيذه عبر العربدة العسكرية والأمنية. فإسرائيل تهيمن على العرب من خلال حروبها المتكررة التي انتصرت فيها على العرب مجتمعين ومنفردين، وهي ذات نفوذ أمني واسع على العرب من خلال أجهزتها الأمنية وأذرعها التجسسية على البلدان العربية، ومن خلال تعاون وتحالف قادة عرب معها.
الافتراض الأساسي لمشاريع الغير
هناك افتراض أساسي يقف خلف كل الأحاديث العربية حول مشاريع الغير التي تستهدف العرب، وهو أن العرب ليسوا إلا مجرد مطايا يقيم الغير مشاريعهم من أجل امتطائنا. هناك افتراض واضح بأن إيران صاحبة مشروع يهدف إلى السيطرة على الأمة العربية وسوقها وفق إرادتها هي، وكذلك هو الأمر بالنسبة للمشروعين الأميركي والصهيوني.
وهذا الافتراض يدفعنا إلى التساؤل حول المشروع العربي: أين هو المشروع العربي المضاد الذي يُفترض أن يهدف إلى صون الأمة العربية والمحافظة على مصالحها، أو في الحد الأقصى يهدف إلى الهيمنة على الغير وامتطائه؟ هل هناك مشروع عربي مشابه لمشاريع الآخرين، أم أن المشروع العربي ينحصر فقط في الأحاديث حول مشاريع الآخرين التي تستهدف الأمة العربية؟ لماذا ينظر العرب إلى أنفسهم على أنهم المستهدفون وهم فقط الذين يصلحون للامتطاء؟ هناك خلل بنيوي واضح في الافتراض بأن الآخرين يستهدفوننا، في حين أننا لا نصنع الكثير في الواقع العملي من أجل المحافظة على أنفسنا.
يضخ السياسيون والإعلاميون الكثير من التخويف في نفوس العرب من مخططات الغير الذين يتربصون بنا.. إنهم يدبون الرعب في قلوب الناس ولا يعملون على طمأنتهم بجهود عربية حثيثة من أجل الإبقاء على العرب أحياء يمكن أن يدافعوا عن أنفسهم.
هناك الكثير من التهويل حول مخططات إيران وأميركا والكيان الصهيوني، وكأن الأمة العربية لقمة سائغة سهلة البلع وعلى وشك الزوال. لقد قيل الكثير عن مخططات أميركا وأساليبها في السيطرة ونهب الثروات، وكذلك الحكايات حول إيران كثيرة. جزء مما يتم الحديث عنه صحيح ونحن نراه يتبلور على أرض الواقع، لكنه لا يبرر الإرعاب الذي يتعرض له العربي من قبل الحكومات العربية ووسائل إعلامها.
ربما تريد الحكومات العربية أن تستفز الناس لكي يقفوا معها في مختلف سياساتها.. إن أغلبها حكومات متهاوية وضعيفة ولا تتمتع بتأييد شعبي، وربما تؤدي سياسة التخويف من الغير إلى الالتفاف الشعبي حولها، أي أن سياسة التخويف ليست بريئة.
مشاريع العرب
لم يستطع العرب تصميم مشروع عربي يطرح على الناس من أجل تأييده ودعمه وتوظيف مختلف الطاقات نحو تنفيذه. الأنظمة العربية لم تطرح على الناس مشاريع لا بصورة منفردة ولا بصورة جماعية، ولم تقدم للعرب سوى مشروع استسلام للكيان الصهيوني اسمه مبادرة بيروت العربية التي شكلت ركوعا عربيا جماعيا أمام الهيمنة الصهيونية.
حتى إن الكيان الصهيوني لم يكترث لهذه المبادرة ورفض مجرد مناقشتها، لأن الذين وقعوها -وفق تبريره هو- أتفه من أن يقام لهم احترام. لم يطفُ على الساحة العربية مشروع جاد غير مشروع الإخوان المسلمين، وهم الذين يواجهون الآن حملات شرسة في عدد من البلدان العربية ومن قبل العديد من النخب والفئات السياسية.
هناك جماعات طرحت مشاريع مثل الحزب الشيوعي، لكن الحزب لم يحظ بامتداد جماهيري يجعل من مشروعه محط الأنظار. الاشتراكيون طرحوا مشروعا من الناحية النظرية في مصر والعراق والجزائر وسوريا، لكن أصحابه صنعوا من الناحية العملية ما يعرقل ويمنع نجاح هذا المشروع. هناك الآن تنظيمات إسلامية عدة تتحدث عن إقامة الخلافة، لكنها تمعن في معاداة الناس وتقوض عوامل نجاحها وتعزز عوامل فشلها.
فقط مشروع الإخوان المسلمين المتمثل في إقامة الحياة الإسلامية سجل نجاحا جماهيريا واسعا مكن الإخوان من كسب الانتخابات في عدد من المواقع العربية مثل الجزائر ومصر وفلسطين. ورغم ذلك، عمل عرب كثر من مفكرين وقادة رأي وحكام وعسكريين على تدمير المبادئ الديمقراطية والتمرد على نتائج الانتخابات والحيلولة دون استمرار الإخوان في الحكم.
وكان واضحا أن مقاومة جماعات عريضة لمشروع الإخوان كانت أشد وأقسى من مقاومتهم للكيان الصهيوني أو للهيمنة الأميركية. وصحبت هذه المقاومة حملة شعواء ضد ما يسمى الإسلام السياسي الذي يجب أن يُمنع. لكن أحدا لم يُجب عن السبب الذي يمنع الإسلاميين من التجمع في حزب ولا يمنع البعثيين أو الشيوعيين من التجمع، أو لا يمنع السلطة الحاكمة من إقامة أحزاب سياسية خاصة بها تروج لسياساتها وسوء أعمالها.
وللعلم فإن الإخوان المسلمين ارتكبوا أخطاء كبيرة أثناء ممارستهم الحكم، ولم يتمتعوا بفن حكم يجعلهم مقبولين من قبل الجماهير العريضة. لقد ألحقت طريقتهم في الحكم الضرر بالجماعة، وانتهى حكمهم بسهولة في الأماكن التي كسبوا فيها الانتخابات.
الدولة القطرية وغياب المشروع العربي
أميركا دولة قومية واحدة ومتماسكة على الرغم من أنها مترامية الأطراف وكثيرة بعدد السكان، وكذلك روسيا والهند والبرازيل وإيران. بإمكان الدول الموحدة وذات الثراء والإمكانات المادية أن تصيغ لنفسها مشروعا تعمل على تحقيقه عبر حشد طاقات شعبها وتوظيف إمكاناتها نحو الهدف المحدد.
العرب لم يصلوا إلى درجة الدولة الموحدة. الأمة العربية 22 شعبا مفرقين ومتناحرين أحيانا وتحكمهم أنظمة سياسية متخاصمة ومتنافسة ومتحاربة أحيانا. أمم الأرض توحدت وأصبحت لها حكومات مركزية أو اتحادية تدير شؤونها وتدفع بها نحو التقدم والنهوض، إلا العرب. إيطاليا توحدت وكذلك ألمانيا والصين والهند، وبقي العرب ممزقين ودون إشارات جادة نحو الوحدة العربية.
الدولة القطرية العربية عجزت عن إقامة مشروع خاص بها، إما لأنها فعلا عاجزة لا تملك مقومات القيام بأعباء المشروع، أو لأنها غير راغبة ومسيّرة من قوى خارجية يعنيها تمزق العرب وبقاؤهم ممزقين.
حاول عبد الناصر أن يصنع شيئا في هذا الاتجاه، لكنه لم يدون مشروعا عربيا يجمع العرب حوله، وبقي هو رمزا لمشروع تائه غير مؤطر أو ممأسس. ربما كان لقادة عرب آخرين مثل صدام حسين طموح لقيادة مشروع عربي، لكنهم فشلوا وأفشلوا الدولة القطرية التي تزعموها.
وربما يشكل مشروع المقاومة المثل الأسطع على مقاومة الدولة القُطرية للمشروع العربي، فحزب الله وحماس والجهاد يتحدثون عن مشروع مقاومة عربية، لكن الملاحظ أن هذا المشروع يحظى أحيانا بمقاومة عربية أشد من مقاومة إسرائيل له.
متطلبات المشروع العربي
ولادة أي مشروع عربي يواجه مشاريع عدد من الدول لا تتم آنيا وفورا، وهي بحاجة إلى إعداد طويل لكي تتشكل البيئة الخصبة لاحتضان هذا المشروع جماهيريا وتوفير المستلزمات التي يتطلبها النجاح. وحتى تكون لدينا البيئة المناسبة الحاضنة لمشروع عربي، يتوجب توفر الأمور التالية:
أولا- نحن بحاجة إلى قيادة عربية حقيقية تتميز بالطموح والشجاعة والإقدام والإيمان بأن الشعوب الحرة فقط هي التي يمكن أن تحمل مشاريع تقدمية وثورية ومنتجة. في الساحة العربية يوجد حكام لا قيادات، وإذا فتشنا في كل زوايا الوطن العربي لا نجد قيادات تاريخية تتمتع بقدرات فكرية واسعة ومعرفة ممتدة وعقلية علمية تعرف قيمة العلم والعلماء والمفكرين.
ثانيا- توفر النية لدى القيادة للدفع باتجاه مشروع عربي وحشد جماهير الناس في مختلف الأقطار العربية حول هذا المشروع. من المطلوب أن تقدم القيادة خطابا مكتوبا حول المشروع ومتضمنا الوسائل والأساليب والأهداف التي سيستخدمها أصحاب المشروع والأهداف التي يريدون تحقيقها.
ثالثا- من المفروض أن تؤمن القيادة بأن الحرية أساس الإبداع، وأن الشعوب العربية لا يمكن أن تبدع وتصبح منتجة وتسعى في طريق العلم والعقلانية إلا إذا كانت حرة، وارتفعت من فوق رقابها أحذية أجهزة الأمن العربية، أي أن المطلوب إعادة صياغة النظام السياسي ليصبح حديثا ومؤمنا بمشاركة جماهير الناس في صناعة القرار وتحمل المسؤولية.
دفع الجامعة العربية إلى الواجهة الأمامية يمثل الخطوة الأولى نحو الوحدة العربية. لا يمكن لمشروع عربي أن يتبلور ويتكون إلا بالوحدة العربية، ولا مستقبل لعربي بدون الوحدة. الدولة القطرية عنوان التمزق العربي، وعنوان الضعف العربي والتخاذل والانحطاط الأخلاقي والعلمي، والبحث عن مشروع عربي يؤكد صلابة العرب، ورغبتهم في التقدم والنهوض تتطلب التخلص من الدولة القطرية وما يسمى السيادة الوطنية. ليس من حق حاكم عربي الآن أن يتحدث عن مشاريع الغير بروح الدفاع عن الأمة العربية، لأنه هو نفسه يشكل عقبة أمام منعة الأمة وتحصينها.
عبد الستار قاسم