وسط تباينات كبيرة، انطلقت في جنيف في 29 يناير/كانون ثاني 2016 جولةٌ جديدةٌ من المساعي السياسية التي ترعاها الأمم المتحدة لحلّ الأزمة السورية. وعلى الرغم من أنّ الأجواء الدولية بدت، هذه المرة، أكثر اهتماماً بإيجاد حلٍ للصراع الذي أخذت آثاره الأمنية والسياسية والاقتصادية تتجاوز بشكلٍ متزايدٍ الحدود السورية، لتشكل منبع قلقٍ متنامٍ إقليمياً ودولياً، فإنّ المفاوضات غير المباشرة التي قادها مبعوث الأمم المتحدة إلى سورية، ستيفان دي مستورا، ما كادت تنطلق حتى توقفت؛ إذ أعلن دي ميستورا عن تعليق المفاوضات حتى 25 فبراير/شباط الجاري، بعد أن فشل في إقناع النظام السوري بتنفيذ أي من الالتزامات الإنسانية التي حدّدها قرار مجلس الأمن رقم 2254، وخصوصاً رفع الحصار عن المدن المحاصرة، والسماح بدخول الإمدادات الغذائية، وبعد أن أخفق في إقناع المعارضة في الاستمرار بمفاوضاتٍ تراها عبثيةً نتيجة استمرار روسيا في استخدامها غطاءً لتحقيق مكاسب ميدانية على الأرض، في أرياف حلب ودمشق ودرعا واللاذقية.
دواعي مشاركة المعارضة في “جنيف 3”
عندما أبدت الهيئة العليا للمفاوضات التي انبثقت من مؤتمر الرياض الموسّع للمعارضة السورية استعدادها للمشاركة في مفاوضات “جنيف 3″، أوضحت الأسس التي يمكنها المشاركة بناءً عليها؛ وأهمها: رفض محاولات التدّخل في تشكيل وفدها إلى المفاوضات، والتمسّك بموقفها أنّ مؤتمر الرياض الذي انبثقت منه يمثل أطياف المعارضة كافة، بعد أن دعيت إليه شخصياتٌ شاركت في لقاءات القاهرة وموسكو، فضلاً عن ممثلين عن الأكراد، ومن ثمّ، فإنها لن تقبل محاولات النظام وحلفائه الروس والإيرانيين لاختراقها. كما أكدت المعارضة تمسّكها بإجراء مفاوضاتٍ وليس محادثات، وإن أية مفاوضات لن تبدأ قبل تنفيذ الالتزامات الإنسانية الواردة في الفقرتين 12 و13 من قرار مجلس الأمن 2254 بتاريخ 18 ديسمبر/كانون أول 2015، التي نصت على رفع الحصار عن المناطق المحاصرة وإدخال المساعدات الإنسانية وإطلاق سراح المعتقلين، وخصوصاً النساء والأطفال، ووقف الهجمات الجوية والبراميل المتفجرة على المدنيين. وترى المعارضة أنّ هذه القضايا غير قابلة للتفاوض، فهي ملزمة وواجبة التنفيذ الفوري، بنص قرار مجلس الأمن 2254، كما ترى أنّ المفاوضات لا يجب أن تبدأ من الصفر، بل يتعين وضع برنامج تنفيذي لترجمة بيان جنيف لعام 2012 وقراريْ مجلس الأمن رقم 2118 لعام 2013 ورقم 2254 لعام 2015.
أطلق تمسّك الهيئة العليا للمفاوضات بهذه المواقف ورفض النظام وحلفائه لها حركةً دبلوماسيةً نشطةً لإقناع المعارضة بتليين مواقفها، باعتبار أن مفاوضات “جنيف 3” ستكون غير ذات معنى، من دون مشاركة الهيئة. وبعد ضغوط ورسائل متبادلة بين الهيئة والأمم المتحدة ممثلة بدي مستورا، قرّرت المعارضة المشاركة. وأكد دي ميستورا، في رسائله إلى الهيئة، أنّ وفدها هو الوحيد الذي سيمثّل المعارضة، وأنّ ما يجري هو عملية تفاوض، وأنّ مخرجاتها تتمثل في إقامة حكم ذي صدقية، وفق جدولٍ زمني محدّد، وأنّ الأيام الخمسة الأولى من المحادثات ستركّز على تنفيذ الجوانب الإنسانية، وإذا لم يتجاوب النظام، فإنّ دي ميستورا سيعلن مسؤوليته عن تعثّر مسار الحل السياسي.
كان قرار الهيئة العليا للمفاوضات، المتمثل بمشاركتها في جنيف، ذا طابع استكشافي، هدفه اختبار مدى جدية النظام وحلفائه الروس والمجتمع الدولي في دفع عملية تفاوض حقيقي نحو الأمام، عبر تنفيذ المادتين المشار إليهما أعلاه من القرار 2254، وتلافياً لتحميلها مسؤولية فشل الحل السياسي، في حال قررت المقاطعة، إلا أنّ الهيئة أوضحت أنها ستنسحب من المفاوضات، في حال عدم تنفيذ ما وُعدت به في ما سمي “رسالة الضمانات” التي تلقتها من دي مستورا حول القضايا الإنسانية (مع أنها لم تتضمن أي ضمانات)، وتعهده بتحديد المسؤول عن إفشال العملية السياسية. وقد بدأ دي ميستورا بالفعل يتراجع عن بعض ما وعد به؛ إذ استخدم عشية إطلاقها تعبير محادثاتٍ لتسمية المفاوضات، في رضوخٍ على ما يبدو لضغوط النظام الذي يرفض فكرة وجود أطراف تفاوض سورية غيره، وأنه جاهز لحوار مع السوريين، وليس لمفاوضاتٍ معهم.
دواعي مشاركة النظام
جاء النظام إلى جنيف مضطراً بفعل الضغوط التي مورست عليه من حلفائه الروس، وعبّر عن هذا الموقف بتسمية مندوبه لدى الأمم المتحدة، بشار الجعفري، المعروف بسلوكه الاستفزازي، كبيراً للمفاوضين، علماً أنّ النظام اضطر، بسبب الضغط الروسي أيضاً، إلى تسمية وزير خارجيته، وليد المعلم، رئيساً للوفد، في حال جرت مفاوضات حقيقية. بدأت مماطلة النظام، منذ اليوم الأول لانطلاق مسيرة “جنيف 3″، فاعتبر أنّ اتفاق مضايا وكفريا والفوعة الذي جرى قبل نحو ثلاثة أسابيع هو الترجمة العملية للالتزامات الإنسانية التي وردت في الفقرتين 12 و13 من القرار 2254، وأنّ الهيئة العليا للمفاوضات لا تمثل المعارضة، في ظل غياب الوفد الذي شكلته موسكو عنها، وأنّ لائحة وفد الهيئة تضم تنظيمات إرهابية، ليس بوسعه التفاوض معها.
تزامنت استعدادات النظام للمشاركة في مفاوضات جنيف مع تصعيدٍ ميداني كبير وتكثيف في القصف الجوي، فقد حاول الوصول إلى جنيف من موقع قوة، مستفيدًا من غطاءٍ جوي روسي كثيف، وحشد أعدادٍ أكبر من الميليشات متعددة الجنسيات التي ترعاها إيران. من جهة أخرى، بدا واضحاً أنّ النظام يحاول زيادة مستوى الضغط العسكري على الأرض، بالتزامن مع انطلاق عملية التفاوض؛ حتى يتحول الموضوع الإغاثي والإنساني إلى موضوع التفاوض الوحيد. ولكي تصبح طلبات الإغاثة المطالب الوحيدة، كمقدمة لفرض الحل الذي مازال يؤكد عليه منذ بداية الأزمة؛ أي “إصلاحات تحت سقف الأسد”.
الموقف الروسي
يُلقي الدعم الروسي الكبير للنظام دبلوماسياً وعسكرياً بظلال كبيرة من الشك على مدى التزام موسكو نجاح مفاوضات الحل السياسي في جنيف. ويثير سلوك الروس مخاوفَ كبيرة لدى المعارضة من أنّ الهدف قد يكون شراء الوقت في المفاوضات لاستكمال محاولتهم قصم ظهر فصائل المعارضة المعتدلة على الأرض، قبل أن يفرضوا طبيعة الحل السياسي الذي يرغبون فيه على الجميع.
لكن، يبدو من الواضح أنّ روسيا تدرك تعقيدات الوضع الذي تجلبه مشاركتها في الصراع إلى جانب النظام؛ فهي، من جهةٍ، تبدو قلقةً مما تعرضه وسائل الإعلام من صور لأطفال يسقطون ضحايا قصف طيرانها مناطق المدنيين في سورية، وما يثيره ذلك من مشاعر غضبٍ واحتقانٍ في الشارع العربي والإسلامي عمومًا. كما تدرك روسيا أنّ الصراع في سورية لا يمكن أن ينتهي إلا بتسويةٍ سياسية، تحقق الحد الأدنى من مطالب الشعب السوري الذي دفع ثمناً باهظاً في سبيل نيل حقه في الحياة الحرة والكريمة. ومن دون ذلك، سوف يستمر التورط الروسي في الصراع السوري ويتوسع، وتزداد تكاليفه المادية والسياسية والبشرية مع بدء الحديث عن سقوط قتلى روس في المعارك الدائرة في شمال سورية الغربي.
لذلك، تبدو روسيا مهتمةً بالتوصل إلى حلٍ سياسي للصراع في سورية، لكنّ الحل الذي تريده يتضمن الاحتفاظ بالنظام الذي غدا معتمدًا كليًا في بقائه عليها. علماً أنّ بقاء الأسد نفسه على رأس هذا النظام لا يمثل شرطاً لازماً للحل المنشود روسياً. لكنّ روسيا مازالت، على ما يبدو، تجد صعوبةً في إيجاد بديلٍ يسمح باستمرار تماسك النظام، في حال دفعت برحيل الأسد، وصعوبةً أيضاً في بناء شبكة تحالفاتٍ تعتمد عليها في حكم سورية، في مرحلة ما بعد انتهاء الصراع. من هنا، تستمر روسيا في قصف مواقع المعارضة المسلحة، لإضعافها إلى الحد الذي لا تعود معه قادرةً على مقاومة التسوية التي تراها روسيا؛ والتي لن تخرج، في نهاية المطاف، عن المبادرة التي طرحتها إيران قبل عامين، وتقوم على وقف إطلاق النار، وتشكيل حكومة وحدة وطنية بوجود الأسد، وتعديل الدستور، والدعوة إلى انتخابات برلمانية ورئاسية. وهذا ما تطرحه روسيا في هذه المرحلة، ولا تعارضه أميركا؛ جرياً على نهجها الحالي بالتكيّف مع موازين القوى على الأرض السورية، وتجنبها الصدام مع روسيا على قضية مثل قضية السورية.
الموقف الأميركي
فيما يقف الروس بقوة إلى جانب النظام، ويدعمونه بكل الطرق والوسائل، يتحوّل الموقف الأميركي من موقفٍ داعمٍ للمعارضة إلى موقف الوسيط الذي يضغط عليها للمشاركة في جنيف، ويخفض توقعاتها من الحل السياسي المرتقب. ومع أنّ واشنطن لا ترغب في رؤية موسكو تنتصر في سورية، فإنها لا تفعل شيئاً لمنع انتصارها، فمازالت تعرقل إيصال الدعم للمعارضة من حلفائها، وتركّز بشكل مطلق على محاربة تنظيم الدولة “داعش”؛ علمًا أنّ ضرب روسيا المعارضة يفيد “داعش”؛ وهو ما يقوّض جهد التحالف الدولي الذي تتزعمه واشنطن لمواجهة التنظيم.
وقد حثّ وزيرُ الخارجية الأميركي، جون كيري، في لقائه مع الهيئة العليا للمفاوضات في الرياض، عشية انطلاق “جنيف 3″، المعارضةَ على المشاركة، لكنه امتنع عن تقديم أي ضمانات، ومع أنه أكد أنّ وفد الهيئة سيكون الوحيد الممثل للمعارضة، وأنّ “جنيف 3” مفاوضات حول عملية لحلٍ سياسي في سورية، فإنّ ما عدا ذلك سيكون موضوعاً خاضعًا للتفاوض، بما في ذلك الوضع الإنساني والإغاثي ومصير بشار الأسد. ولم ينفِ كيري “حق” الأسد في المشاركة في الانتخابات التي تجري، في نهاية المرحلة الانتقالية، لكنه “طمأن” المعارضة أنّ الأسد لن ينجح فيها، لأنّ كيري شخصيًا “ضمن” ذلك من خلال تضمين القرار 2254 حقّ كل السوريين، بمن فيهم اللاجئين في دول الجوار وغيرهم من السوريين المهجّرين بالإدلاء بأصواتهم في تلك الانتخابات. وفي نهاية اللقاء، لم يفتْ كيري أنّ يلمّح إلى أنّ المعارضة إذا لم تذهب إلى المفاوضات، فإنها تغامر بفقدان تأييد حلفائها.
خاتمة
مؤكد أنّ المعارضة كانت متجهة إلى الانسحاب من العملية السياسية، لولا أنّ دي ميستورا استبق إعلانها بهذا الخصوص، واتخذ قرار تعليق المفاوضات، لأنّ عدم تنفيذ البنود الإنسانية في القرار 2254 يجعل موقفها ضعيفاً أمام حاضنتها الشعبية والفصائل المسلحة التي فوّضتها التفاوض باسمها؛ إذ سوف يتساءل سوريو المناطق الثائرة عن جدوى مفاوضاتٍ لا توقف القصف عليهم، أو ترفع الحصار عنهم، أو تتيح مدّهم باحتياجاتهم من الغذاء والماء والدواء. وحتى لو أمكن تجاوز هذه النقطة في الأسابيع الثلاثة المقبلة، بافتراض أنّ المفاوضات سوف تستأنف، وأنّ الروس ضغطوا على النظام لتخفيف الحصار على المناطق الثائرة، لكي لا تفشل المفاوضات، فإنّ التوصل إلى وقفٍ لإطلاق النار سوف يكون مادةً لمفاوضاتٍ صعبةٍ في ظل اختلاف رؤية كل طرفٍ للموضوع. فالنظام وحلفاؤه الروس يرغبون في صدور قرارٍ من مجلس الأمن، ينصّ على وقف إطلاق النار فور انطلاق العملية التفاوضية على اعتبار أنّ هذا القرار سيتضمن وقف توريد أو دعم أطراف الصراع بالسلاح والذخيرة. هذا القرار سوف يؤثر في المعارضة أكثر من النظام؛ لأنّ لدى الأخير كمياتٍ كبيرةٍ من السلاح، جرى تخزينها على امتداد الشهور الماضية، فإذا استؤنف القتال وهو المرجّح، لن يكون لمصلحة المعارضة التي تعاني أصلًا قلة الدعم العسكري لها.
أما الهيئة العليا للمفاوضات فترى أنّ وقف إطلاق النار يجب أن يكون جزءًا من الاتفاق الشامل الذي يستند إلى بيان جنيف لعام 2012 وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة، وأنّ تنفيذه يبدأ مع تنفيذ اتفاق الانتقال السياسي وكجزءٍ منه، استنادًا إلى نص الفقرة الخامسة من القرار 2254. ومع ذلك، وحتى إن تم التوصل إلى اتفاقٍ لوقف إطلاق النار، فإنّ الأمم المتحدة، وحسب مذكرةٍ مسرّبةٍ لدى ميستورا، لن تكون قادرة على فرضه، أو إيفاد مراقبين في الظروف السائدة إلى سورية.
أخيراً، ليس مرجحاً أن تسفر مفاوضات “جنيف 3” عن نتائج أفضل مما أسفرت عنه “جنيف 2″، نظرًا للعقبات المذكورة، وفي ظل عوامل أخرى عديدة، منها: سلوك النظام الذي يبدو أنه متجه للمماطلة والتسويف، ودفع موضوع المرحلة الانتقالية إلى ذيل سلم الأولويات في العملية التفاوضية، كما حصل في “جنيف 2″، واستمرار قصفه وعمله على الأرض، كأنه لا تجري عملية سياسية في جنيف، بما في ذلك سعيه المستمر إلى إجراء هدنٍ ومصالحاتٍ محلية، واستمرار القصف الروسي. وفي ظل الوضع الميداني الحالي، لا بد أن تضع المعارضة السياسية والمسلحة استراتيجية للتصدّي لتحديات التدخل الروسي، الذي يشكل اليوم العامل الأبرز في تحديد نتائج الصراع.
المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات