الحُداء فن عربي عريق، استعمله العرب رعاة وغزاة، فكشفوا من خلاله عن روحهم المتوثبة، وعن شجاعتهم التي رمت بهم في قلب الملحمة العالمية، فكانوا من الشعوب القليلة التي اتسم تاريخها بالقيادة والريادة في المسيرة الإنسانية.
ولم تكن تستغني أي قافلة عربية عن حادٍ يُطرب الأسماع بنغماته، ويستحث السائرين بأهازيجه، فيلهب حماس الأصحاب، ويُحِيل السفر متعة وهو قطعة من العذاب. كما لم تكن تستغني أي قافلة عربية عن دليل يأخذ بخطامها في مجاهل الصحراء، فيقودها بحِذْقه وتمرسِّه إلى أخصر سبيل، وينأى بها عن مزالق الخطر وقُطَّاع الطريق.
وقد بنى الإسلام على هذا التراث العربي الإنساني، فظهر في غزوات النبي صلى الله عليه وسلم حُداة يترنمون بأصواتهم النَّديِّة، فيدفعون القافلة المُجاهدة في مسارها، وهو مسار تجاوز -مع الإسلام- الأفق الجغرافي القديم في الانتقال من مكان لآخر، إلى أفق غيبي جديد ينتقل بالروح من عالم الحس إلى عالم الخُلْد. ففي غزوة خيبر -مثلا- كان الصحابي عامر بن الأكوع رضي الله عنه هو الحادي، فكان يستحث الركب المظفَّر بنغماته مرددا:
والله لولا الله ما اهتديْنا / ولا تصدَّقْنا ولا صلَّينا
واستشهد الحادي عامر بن الأكوع في المعركة، ليكون قدوة للأحرار الذين صدَّقتْ أفعالُهم أقوالَهم، وشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بأنه “مات جاهدا مُجاهدا” (صحيح مسلم).
ويدل تاريخ الثورات في العصور الحديثة على أن أي ثورة سياسية حقيقية تحتاج إلى شرارة فكرية تتلخص وظيفتها في أمرين: أولهما أن تكون حاديَ الثورة الذي يُمدُّها بالنفثة الأخلاقية والطاقة المتجددة، ويرسخ إيمانها بذاتها، وبحتمية انتصارها، إذ هي حركة حق وعدل. والثاني أن تكون دليل الثورة في رحلتها التي لا تخلو أبدا من عوائق ومزالق، لتضمن حسن تسديدها حتى تصل إلى غايتها، وهي تحرير إرادة الشعوب، والبرهنة على رشدها وأهليتها للإمساك بمصائرها، دون وصاية من سلطة استبدادية، أو نخبة أنانية.
وقد أسهم الفيلسوف الإنجليزي جون لوك في تفجير الشرارة الفكرية التي قادت إلى الثورة الإنجليزية عام 1688، ثم قدَّم الدليل الأخلاقي والنظري للثورة في كتابيه: “رسالتان في الحكومة” عام 1690 و”رسائل في التسامح” عام 1692.
وشهدت فرنسا في العقود الأربعة السابقة على ثورتها عام 1789 ظهور نصوص تأسيسية لنظرية العقد الاجتماعي والحرية السياسية وحكم القانون، فكانت شرارتَها الفكرية التي فجَّرتْها خيرة العقول الفرنسية قبيل الثورة. ومن أهم هذه النصوص كتاب “روح الشرائع” لمونتسكيو الصادر عام 1748، وكتاب “روح الأمم” لفولتير الصادر عام 1757، وكتاب “في العقد الاجتماعي” لجان جاك روسو الصادر 1762، أي قبل الثورة الفرنسية بربع قرن.
وقد جاء الربيع العربي في خواتيم العام 2010 حصادا لتوسع مُطَّرِد في مساحة الوعي العربي، وإحساس الإنسان العربي بإنسانيته، وبأن الحياة من غير حرية وعدل لا تستحق الحياة. وأسهم في بناء هذه المساحة الواسعة من الوعي عددٌ وافر من المفكرين الأحرار، والمناضلين الأحرار خلال القرن العشرين، ممن قدَّم فكرة محرِّرة فكان حاديا ودليلا، أو تقدم الصفوف فكان قدوة وأسوة.
كما أسهمت مؤسسات إعلامية عربية -وفي طليعتها “شبكة الجزيرة”- في بناء صرح الوعي العربي، وترسيخ الكرامة العربية، فغرست مقت الظلم واحتقار الظالمين في الوجدان العربي. وتعضَّدت مساحة الوعي وتوسعت بفضل شبكة الإنترنت التي فتحت آفاقا واسعة في مجال البناء التنظيمي، والنضال السياسي، والعمل الإعلامي. وقد بسطنا القول في ذلك في مقال قديم على هذا الموقع العامر بعنوان: “الإنترنت.. ثورة الفقراء في عصر التواصل” بما يغني عن ترداده هنا.
لكن إذا كان لكل ثورة حداتُها الذين يستحثونها، وأدلَّاؤها الذين يرشدونها في طريقها المليء بالأشواك، فإن لكل ثورة أيضا قُطَّاع طريقها من سماسرة الثورة المضادة الذين يسعون إلى اغتيال الثورات، من خلال وأْدها في مهدها، أو حرْفها عن مسارها، أو تفريغها من محتواها، أو استنزافها بالمعارك الجانبية، أو إغراقها في الأمور الجزئية، أو إفقاد الشعب الثقة فيها، أو تفريق صفها بالإغراء والإغواء، أو تحويلها حربا أهلية أبدية لا غالب فيها ولا مغلوب.
لقد صحبت كل الثورات الحديثة ثوراتٌ مضادة من البدء إلى الختام. وكان لهذه الثورات المضادة صخبُها، وضجيجها، ومهرِّجوها من فقراء الضمائر، المتشبثين بأطناب الليل، الفَزِعين من خيوط الفجر المطل. فقد انبرى الكاتب الإنجليزي أدموند بوركْ (1729-1797) للتشهير بالثورة الفرنسية في كتابه “تأملات في الثورة الفرنسية” الصادر عام 1790، أي بعد عام واحد من اندلاع الثورة. وانبرى يجادل بأن في الكون أناسا خُلقوا سادة، وآخرين خُلقوا مَسُودين.
على أن بورك كان معبرا بصدق عن موقف أرسطوقراطي مبدئي، فهو أفضل حالا -على الأقل- من فقراء الضمائر عندنا اليوم، ممن لحقوا بالثورات في خواتيمها، ثم بالثورات المضادة في بواكيرها، فلبسوا لكل موسم ثوبا، تلونا وتملقا.
وتختلف الثورة المضادة العربية اليوم عن الثورات المضادة القديمة في أنها فعل مركزي، يتم التخطيط له من عواصم عربية وتمويله بأموال عربية بدعم من خبرة غربية وصهيونية. وما يهمنا هنا هو جانب الصخب والضجيج والتهريج التي تبنته الثورة المضادة العربية، للتغطية على أهازيج الثورة، وأصوات الحياة الواعدة، وبشائر الزمن الآتي.
لقد أنفق “الأغنياء الأغبياء” -بتعبير العلاَّمة المغربي أحمد الريسوني- مليارات من أموال شعوبهم على مؤسسات إعلامية ضخمة، تأسس جلها في شكل قنوات ضِرار للمشاغبة على قناة “الجزيرة” والحد من أثرها التنويري، وسَعتْ كلها إلى ضرب هذه الأمة في مكامن قوَّتها المادية والمعنوية. وعبأ هؤلاء الحكام جيوشا جرارة من فقراء الضمائر من كل المشارب والمذاهب، لا تجمع بينهم فكرة ولا مبدأ، سوى الوقوف في وجه حياة العدل والحرية، والتشويش على كل صوت حر في البلاد العربية.
وقد جاء هذا الجيش الجرار تلفيقا قبيحا، يجمع بين الإعلامي المرتزق المتلون بلون الأوراق النقدية التي يقبضها، والفقيه المتملق الذي أدمن الأكل على موائد الظلمة والاستحذاء لهم، والصوفي الأبله الذي باع دينه بدنيا غيره، والمثقف المتاجر بكرامة القلم الهاتك لأعراض الكلمات.. فاتفق هؤلاء على السير في ركاب الظالمين، والشماتة بالمظلومين، فخانوا رسالتهم الأخلاقية والإنسانية، وفرَّطوا في مسؤوليتهم تجاه دينهم وأمتهم وحضارتهم.
لكن هذا الغثاء الهائل من الصخب الإعلامي والفقهي والفكري لم يستطع أن يحجب الشمس بغرباله، ولا أن يطمس الروح التي تفجرت في قلب الأمة منذ خمس سنين. فها هي الشعوب متمسكة بحقها في العدل والحرية، مستمرة في ثوراتها لم تكلَّ ولم تملَّ، فلا أثَّر فيها أي ضجيج، ولا زيَّف وعْيَها أي تهريج، سواء من استطاع منها الالتزام بنهج النضال السلمي، أو من أرغمته همجية المستبدين إلى ركوب الأسنة وحمل السلاح. وما أصعب وضْع السلاح بعد حمله، خصوصا إذا كان حمله بعد حِلم وصبر على الظلم، ففي المثل العربي: “احذرْ غضبة الحليم”.
لقد برهنت الشعوب العربية لأباطرة الثورة المضادة وللعالم أجمع على أن الربيع العربي ليس في نهايته، بل هو في بداية البداية. كما أدركت الشعوب أن تأجيل ثمن الحرية يضاعف الثمن، وهو أمر يفهمه السوريون جيدا، وهم يخلِّدون اليوم الذكرى الرابعة والثلاثين لمذبحة حماه عام 1982. فالموت قدَرٌ مقدور على الشعوب العربية هذه الأيام، فهي إما أن تموت مقبلة فتنال حريتها، وإما أن تموت مدبرة وتبقى في عبوديتها، وما عليها سوى أن تسترشد بقول المتنبي:
وإذا لم يكن من الموت بدٌّ / فمن العجز أن تموت جبانا
وكأني بقادة الثورة المضادة الذين أهدروا الأموال العربية من أجل إبقاء الشعوب العربية في نير العبودية، وهم يعضون أنامل الندم، ويضربون أخماسا بأسداس، بعد أن أنفقوا الأموال الطائلة، ثم كانت عليهم حسرة، ثم غُلبوا وانهزموا أمام إرادة الأحرار الأبرار، الواثقين بالواحد القهار. وما على أصوات الحرية المعبرة عن ضمير الأمة سوى الإصرار والاستمرار، فهم يمثلون روح اليوم، وأمل الغد، ومنطق التاريخ. وقد صدق الشاعر الفرنسي فيكتور هيغو إذ قال: “لا يستطيع أي جيش أن يصمد في وجه فكرة وُلدتْ في إبَّانها”.
ولعل أحدا لم يعبِّر ببلاغة عن الصراع بين حُداء الثورة وصخب الثورة المضادة مثلما عبر عن ذلك الفيلسوف الجزائري مالك بن نبي في “أنشودة رمزية” صدَّر بها كتابه القيم “شروط النهضة” الصادر منذ أكثر من نصف قرن. إذ تشبه أصوات الأحرار اليوم صوت ذلك “الزارع” الذي ناجاه مالك بن نبي في أنشودته. ويشبه ضجيج الثورة المضادة تلك الأبواق المهرِّجة ومنابر الإلهاء التي تسعى إلى التشويش على صوت الحرية، وصرْف الناس بعيدا عنه بكل حيلة.
لذلك سنختم هذا المقال بأنشودة مالك بن نبي الرمزية التي نورد نصها كاملا، ونترك للقارئ الكريم متعة التأمل فيها، واستخلاص العبرة منها. يقول مالك:
“لقد برهنت الشعوب العربية لأباطرة الثورة المضادة وللعالم أجمع على أن الربيع العربي ليس في نهايته، بل هو في بداية البداية. كما أدركت الشعوب أن تأجيل ثمن الحرية يضاعف الثمن، وهو أمر يفهمه السوريون جيدا، وهم يخلِّدون اليوم الذكرى الرابعة والثلاثين لمذبحة حماه عام 1982”
“أيْ صديقي!
لقد حانت الساعة التي ينساب فيها شعاع الفجر الشاحب بين نجوم الشرق.
وكل من سيستيقظ بدأ يتحرك وينتفض في خدَر النوم وملابسه الرثة.
ستشرق شمس المثالية على كفاحك الذي استأنفتَه هنالك في السهل، حيث المدينة التي نامت منذ أمس ما زالت مخدَّرة.
ستحمل إشعاعاتُ الصباح الجديد ظِلَّ جُهدك المبارك في السهل الذي تبذر فيه، بعيدا عن خطواتك.
وسيحمل النسيم الذي يمر الآن البذور التي تنثرها يداك بعيدا عن ظلك.
ابذُرْ يا أخي الزارع من أجل أن تذهب بذورك بعيدا عن حقلك، في الخطوط التي تتناءى عنك في عمق المستقبل.
ها هي بعض الأصوات تهتف، الأصوات التي أيقظتْها خطواتك في المدينة، وأنت منقلب إلى كفاحك الصباحي.
وهؤلاء الذين استيقظوا بدورهم، سيلتئم شملهم معك بعد حين.
غنِّ يا أخي الزارع! لكي تَهدي بصوتك هذه الخطوات التي جاءت في عتَمة الفجر نحو الخطْو الذي يأتي من بعيد.
وليدوِّ غناؤك البهيج كما دوَّى من قبل غناء الأنبياء، في فجر آخر، في الساعات التي ولدتْ فيها الحضارات.
وليملأْ غناؤك أسماع الدنيا أعنفَ وأقوى من هذه الجوقات الصاخبة التي قامت هنالك.
ها هم ينصبون الآن على باب المدينة التي تستيقظ السوقَ وملاهيَه، لكي يُميلوا هؤلاء الذين جاؤوا على إثرك، ويُلْهُوهم عن ندائك.
وها هم قد أقاموا المسارح والمنابر للمهرجين والبهلوانات، لكي تغطي الضجة على نبَرات صوتك.
وها هم قد أشعلوا المصابيح الكاذبة لكي يحجبوا ضوء النهار، ولكي يطمسوا بالظلام شبَحَك في السهل الذي أنت ذاهب إليه.
وهاهم قد جمَّلوا الأصنام ليُلحِقوا الهوان بالفكرة.
ولكنَّ شمس المثالية ستتابع سيرها دون تراجع، وستعلن قريبا انتصار الفكرة، وانهيار الأصنام، كما حدث يوم تحطَّم هُبَل في الكعبة.” (مالك بن نبي، شروط النهضة، ص 17-18).
محمد بن المختار الشنقيطي
نقلا عن الجزيرة نت