يبدو أن إقليم الشرق الأوسط، وفى القلب منه وطننا العربي، فى طريقه إلى إعادة أو صياغة معالم نظام إقليمى جديد فى الشرق الأوسط. وإذا كانت الدعوة إلى صياغة نظام إقليمى بديلا للشرق الأوسط قد فرضت نفسها بقوة فى الأدبيات السياسية الأمريكية، على وجه الخصوص، وبالذات فى الفترة التى استبقت وتزامنت مع الغزو ثم الاحتلال الأمريكى للعراق عام 2003، فإن هذه الدعوة تتجدد الآن مصاحبة لتطورين عربيين مهمين أولهما الاستعدادات متعددة الأطراف لتخليص العراق من تنظيم «داعش» ومواجهة ما سوف ينشأ من منطقة «فراغ قوة» سوف تفرض طرح سؤال: من سيملأ فراغ انسحاب «داعش» من العراق؟ ثانيهما وجود فرص قوية لإنهاء الأزمة السورية، وهذا بدوره يطرح سؤال: أى سوريا سوف تظهر للوجود: سوريا المقسمة أم سوريا الموحدة أم سوريا الفيدرالية، ومن سيكون صاحب أو أصحاب النفوذ فى سوريا أو «سوريات» الجديدة: روسيا، الولايات المتحدة، تركيا، إسرائيل، السعودية، إيران وحزب الله أم خليط من كل هؤلاء؟
وإذا كان هذان التطوران يدفعان أو يحفزان لتجديد الدعوة للحديث عن ضرورة ظهور أو بلورة وصياغة نظام جديد للشرق الأوسط يعبر عن خرائط توازن القوة الجديدة، فما هى أهم معالم تلك الخرائط وما هى أهم المحددات التى ستتحكم فى صياغة معالم هذا النظام؟
فى المرة التى تولت فيها الولايات المتحدة الدعوة إلى تأسيس نظام شرق أوسطى عام 2003 وأعطته اسم االشرق الأوسط الكبيرب كانت هى المتحكمة فى صياغة وتحديد معالم هذا النظام، كانت الدعوة تطرح تحت عنوان «إعادة ترسيم الخرائط السياسية» أى أن إعادة تقسيم العراق إلى دويلات ما بين العرقى والطائفى هى بداية هذا المشروع ليشمل معظم دول الإقليم لينشأ النظام الجديد عرقياً وطائفياً، ربما ليكون أكثر انسجاماً مع الكيان الصهيونى فى طبيعته «كدولة دينية» وفى مستوى حجمه الجغرافى المحدود، كى يكون لهذا الكيان الفرصة لفرض نفسه كقوة إقليمية عظمى، وتحقيق أهم طموحات مشروعه القومى ككيان مسيطر.
هذه المرة يبدو أن أطرافاً عديدة سوف تشارك فى صياغة معالم النظام الإقليمى الجديد، الذى لم يستطع الأمريكيون فرضه بعد احتلالهم العراق. سوف تشارك أطرافاً دولية خاصة روسيا مع الولايات المتحدة فى تأسيس هذا النظام، كما ستشارك أطرافاً إقليمية فاعلة أخرى فى صياغته خاصة إسرائيل وإيران وتركيا، وسيكون لمآل الوضع المستقبلى فى العراق وسوريا أدواراً أساسية فى تحديد معالم هذا النظام وخصائصه. فإذا تم اعتماد التقسيم العرقى والطائفى للعراق وسوريا فإن الصراع العرقى ـ الطائفى سوف يمتد إلى معظم دول الإقليم، وسيكون الاستقطاب الطائفى بالذات الذى يتحدث عنه الإسرائيليون بين عرب أو مسلمين سُنة فى مواجهة عرب أو مسلمين شيعة أهم معالم هذا النظام الجديد، أما إذا تمت المحافظة على وحدة العراق وسوريا فإن النظام الجديد سيقوم على أساس الاستقطاب والصراع السياسى، وفى كلتا الحالتين فإن النظام الجديد سيكون محكوماً بأربعة محددات أساسية.
أول هذه المحددات الفراغ الذى تركه غياب ثقل النظام العربى فى إدارة الأزمات العربية والتفاعلات الإقليمية. فقد بدت الساحة العربية، طيلة الأعوام الخمسة الماضية على وجه الخصوص منذ تفجر ظاهرة الثورات العربية، مفتوحة أمام القوى الإقليمية الكبرى الثلاث: إسرائيل وإيران وتركيا كى تتصارع وتتنافس وتتحالف مع من تشاء من الأطراف العربية، الأمر الذى حفز المملكة العربية السعودية للدخول فى حلبة المنافسة كطرف رابع، مناكف أحياناً، ومعرقل فى أحيان أخرى لمشروعات وطموحات إيران على وجه الخصوص، مع سعى لتحييد إسرائيل أو طمأنتها، وطموح للتحالف مع تركيا، بعد كل ما حدث من فتور فى العلاقات الأمريكية ـ السعودية، انعكست فى شكل تراجع الاهتمامات الأمريكية فى الإمساك بإدارة الأزمات الساخنة، مقارنة بحماس وفعالية المنافس الروسى وحلفائه الإقليميين خاصة إيران ونظام الرئيس السورى بشار الأسد.
ثانى هذه المحددات، حرص إيران على استثمار نجاحها فى حل أزمة برنامجها النووى مع القوى الدولية الكبرى خاصة الولايات المتحدة الأمريكية، ونجاحها بالتبعية أخيرا فى إنهاء العقوبات الاقتصادية التى سبق أن فرضت عليها بسبب برنامجها النووي، لتأمين تحركاتها فى إقليم الشرق الأوسط وفرض نفسها كقوة إقليمية مسيطرة، على الأقل فى المناطق التى تراها مناطق نفوذ طبيعية (الخليج والعراق وسوريا ولبنان واليمن) والتى بها وجود مميز للمكون الشيعي، مع حرص على التمسك بأربعة التزامات؛ أول هذه الالتزامات عدم التفريط فى الفرصة التاريخية لتأسيس علاقة تعاون برجماتية (عملية) مع الولايات المتحدة، ومحاولة نزع كل أسباب الصدام مع واشنطن، والحرص على إيجاد مناطق وفرص للتعاون المشترك فى مجال إيجاد حلول مشتركة للأزمات، وعلى الأخص الحرص على تأسيس شراكة، حتى ولو كانت غير رسمية أو غير معلنة، للحرب ضد الإرهاب وخاصة تنظيم «داعش» فى العراق، أو تولى المسئولية الأهم فى هذه الحرب. ثانى هذه الالتزامات الحرص على تمتين العلاقة مع الحليف الإستراتيجى الروسى وطمأنته من مغبة تطوير العلاقات مع الولايات المتحدة، والتأكيد على أن هذه العلاقات لن تكون على حساب العلاقات الإيرانية ـ الروسية. أما ثالث هذه الالتزامات فهو العمل بشتى الطرق على تجنب الدخول فى صدام مباشر مع تركيا للحيلولة دون حدوث تحالف تركى ـ إسرائيلي، أو حتى تحالف تركي ـ سعودى على حساب المصالح والنفوذ الإيرانى خاصة فى سوريا. أما الالتزام الرابع فهو نحو باقى الدول العربية أعضاء مجلس التعاون الخليجى عبر مسارين؛ أولهما: توظيف العلاقة مع هذه الدول فى اتجاه الحيلولة دون حدوث صدام إيراني- سعودى مباشر، وضبط العلاقة مع الرياض فى حدود التنافس إن لم يكن التعاون ممكناً، وثانيهما الحيلولة دون حدوث توحد بين دول مجلس التعاون الخليجى ضد إيران، من خلال استغلال طهران لبعض هوامش التنافس التاريخية وتناقض المصالح بين بعض هذه الدول والسعودية خاصة سلطنة عمان والكويت وبقدر الممكن قطر.
ثالث هذه المحددات؛ الميل الأمريكى للانسحاب التدريجى من هموم إقليم الشرق الأوسط، وحرص واشنطن على نزع فتيل الصدام بين الحلفاء القدامى (إسرائيل والسعودية وباقى دول مجلس التعاون الخليجي) والحليف الجديد (إيران)، والطموح لتأسيس معادلة «وفاق قوى» بين الدول الخليجية وإيران على أمل أن يضم مستقبلاً تركيا ودول عربية (مصر والأردن) قد يتطور إلى صيغة «منظمة تعاون إقليمي» على غرار منظمة «الأمن والتعاون الأوروبي» لا تكون إسرائيل بعيدة عنه.
الرئيس الأمريكى عبر عن صيغة «وفاق القوى» كبديل لسياسة «الأحلاف الأمنية» التى رفضها فى لقائه مع قادة دول مجلس التعاون الخليجى (مايو 2015)، لكن اللافت أكثر هو حديثه فى لقائه بواشنطن مع حيدر العبادى رئيس الحكومة العراقية عن أنه «لا يرى فى الخليج غير قوتين إقليميتين كبيرتين: إيران وإسرائيل». هنا نلحظ أولاً اعترافه بإيران كقوة إقليمية كبرى، ونلحظ ثانياً اعتباره إسرائيل قوة إقليمية خليجية، وهذا هو الأخطر.
أما رابع هذه المحددات فهو الدخول الروسى القوى فى تفاعلات إقليم الشرق الأوسط وبالذات فى سوريا متحالفاً مع إيران ومتصادماً مع تركيا ومهادناً لإسرائيل.
كيف سيؤثر هذا كله على صراعات القوى الإقليمية فى قيادة نظام الشرق الأوسط؟ وأين مصر من هذه الصراعات؟.
د. محمد السعيد إدريس
المركز العربي للدراسات والبحوث