أذكر أنني قرأت قصة طريفة في أحد كتب الأديب والطبيب السوريّ الراحل عبدالسلام العجيلي، وأظنه كان كتاب «جيل الدربكة» الصادر عام 1990 عن «دار الريس». تتحدث القصة عن حادثة جرت مع مريض في الولايات المتحدة ظهر له مسمار لحم في خنصر قدمه مما سبب له ألماً ومعاناة فقرّر أن يتخلص منه بعملية جراحية. طبعاً العمليات الجراحية من هذا النوع بسيطة ولا تحتاج سوى الى تخدير موضعي، لكن المريض كان لديه رعب من رؤية الدم وأدوات الجراحة، فطلب أن تُجرى له عملية تخدير كلية ليصحو بعدها ويجد نفسه وقد تخلص من مسمار اللحم ذاك.
مع دخوله غرفة العمليات بدأت سلسلة حوادث مضحكة مبكية، إذ يبدو أن نسبة المُخدّر الذي حُقن به كانت كبيرة مما أدى إلى حدوث اضطراب عنيف في تنفسه، بحيث وصل الأمر إلى ضرورة ثقب الرغامى ووضع أنبوب لإيصال الهواء إلى الرئتين. لكن العملية كانت تحتاج إلى نقله إلى غرفة عمليات أخرى في طابق أدنى من الذي أجريت فيه عملية المسمار. ولسوء حظه كان المصعد الكهربائي معطلاً يومها فاستُدعي ممرضون على عجل لنقله على حمّالة، بيد أن أحد المُمرضين تعثر فسقط وسقط بسقوطه المريض المُخدّر وراح يتدحرج على الدرج كالجثة الهامدة، ما سبب له مجموعة كسور في جسده. بعد زوال المُخدّر استعاد المريض وعيه فتفاجأ بنفسه مُربّطاً بأقمشة كالمومياء، وذراعه وساقه مجبّرتان بالجبس وهناك أنبوب يخرج من عنقه المفتوح ليمرّر له الأوكسجين. اجتمع الأطباء والممرضون حوله مبتسمين مؤكدين له بأن كل العلميات التي أجريت له تمت بنجاح منقطع النظير وبأنه محظوظ لتوافر فريق طبي ماهر.
وإذ تسابق الصحافيون لتغطية الحدث، قال المريض، ما إن استطاع التحدث، إنه لم يكن يعرف بشيء مما حدث له نتيجة التخدير، لكن أكثر ما يزعجه أن المسمار اللعين لا يزال في خنصر قدمه وأن أحداً لم يقترب منه لانشغالهم بالعلميات الأُخرى الطارئة.
أستعيد هذه القصة من الذاكرة لإسقاطها على واقع الثورة في سورية ونجاح نظام الأسد بكل مهارة في إشغالها بالعمليات والتفاصيل الكثيرة ثم الدخول في تفاصيل التفاصيل لإبعاد الرأي العام وفعاليات الثورة عن الهدف الأساسيّ، وهو إسقاط ذاك النظام الذي ظل كمسمار اللحم اللعين.
في مؤتمره الصحافي حول لجنة تقصّي الحقائق العربية، قال وليد المعلم بسخرية مملوءة بالدلالة، إن على اللجنة أن تتعلم السباحة إذ ستغرق في تفاصيل الحالة السورية. وهذا ما حصل، ليس فقط مع تلك اللجان وإنما في جميع محاولات التدخل أو التوسط الخارجي، إذ كان النظام يُغرق الجميع بالتفاصيل، كأن يطلب مثلاً تفسير بعض المصطلحات كالشبيحة، والبراميل المتفجِّرة، ويطالب بأسماء الوفود المشاركة في هذه اللجنة أو ذاك اللقاء الخ…
في بحر التفاصيل أُغرقت أهداف الثورة وأُشغل العالم عن أسبابها. فُتح الكثير من الملفات التي انشغلت بها المعارضة، من اللاجئين إلى الإغاثة إلى توحيد المعارضة إلى الإرهاب وداعش وربط المعارضة بالإسلام المتطرف إلى ما هنالك. وبهذه الاستراتيجية الدقيقة حُرف الانتباه عن الثورة ومُيّع كل شيء. هذا بالإضافة إلى استراتيجية إعلامية مدروسة منذ البداية جعلت كل ما يقال عن الوضع السوريّ قابلاً للتصديق والتكذيب بالقدر نفسه. هكذا قضي على معيارية الصدق وقُتلت الحقيقة عبر الضخ الإعلامي الهائل والتكذيب المستمر للأخبار. وقد حدث مراراً أن بثّت الستخبارات السورية أشاعات تلقفتها وتبنتها جهات إعلامية موالية للثورة ثم أثبت إعلام النظام كذبها بالوقائع.
هكذا تلاعب النظام ولا يزال بعقول الناس ومشاعرهم بحيث يضيع كل معيار لتمييز الصدق من الكذب والصحيح من الخاطئ والمعقول من غير المعقول.
وللتخفيف من خسائر الثورة، لعل المطلوب اليوم العودة إلى البدايات قبل تراكم هذه الجبال من التفاصيل وتفاصيل التفاصيل، والعودة إلى النبع حيث كانت الثورة واضحة الأصوات والتوجهات والمطالب، وقبل أن تغرق في بحار التفاصيل التي دفعها إليها النظام وخنقها بها. ولعل رفض المعارضة السورية مؤخراً في مؤتمر جنيف 3 الدخول في لعبة تفاصيل النظام، التي لا هدف لها سوى إضاعة الوقت، كان استفاقة ولو متأخرة من اللعب مع النظام بأوراقه وخدعه وأحابيله وتفاصيله اللامنتهية.
قديماً قيل: «في التفاصيل يكمن الشيطان»، وبناءً على هذه المقولة وعلى ضوء ما شُرح أعلاه، يمكننا القول: «في التفاصيل يكمن سر بقاء بشار الأسد ونظامه» قبل أن يكمن في الدعم العسكريّ الإيراني والروسيّ غير المحدود.
خلدون النبواني
صحيفة الحياة اللندنية