ناعمون وغليظون

ناعمون وغليظون

349

ليس أكثر تشويقاً من قراءة كتاب “القوة الناعمة” الذي أصدره جوزيف ناي في عام 2004، فأدخل من خلاله هذا التعبير الذي سبق أن صاغه ناي نفسه، في أواخر الثمانينيات، إلى قاموس السياسة. استفاد من الكتاب جينتاو، الأمين العام الأسبق للحزب الشيوعي الصيني، صاحب الولاية السياسية، على أضخم نظام شمولي على سطح الأرض. ربما لأنه بدأ حياته مهندساً مائياً، فمهندسو المياه مسكونون، بحكم وظيفتهم، بهاجس الانسياب السلس، والضخ الذي يُحيي ولا يُميت، ناهيك عن تأثر الرجل الذي تربّى يتيماً بتجربةٍ مثيرةٍ مع القوة الغليظة التي راح ضحيتها أبوه. أما العسكر، فإنهم على النقيض، ميالون بطبيعتهم، إلا من رحم ربي، إلى العنف والنيران، في الهجوم والدفاع!
للقوة الناعمة لغتها ومسارها، فصاحب الكتاب يقرّر أن “المصداقية تُعد أندر الموارد”، وليس أفضل من الشفافية والسخاء المادي والأريحية المعنوية للتأثير في الرأي العام. كان وزير الدفاع الأميركي الأسبق، روبرت غيتس (2006 ـ 2011) قرأ كتاب “القوة الناعمة”، قبل أن يتسلم مهام وظيفته من الغليظ دونالد رامسفيلد، فقال يوم أن تسلم صلاحياته “لا بد من تعزيز القوة الأميركية الناعمة، بزيادة الإنفاق على الوسائل المدنية، لا الأمنية، للإقناع، في إطار خطط الأمن القومي نفسه، والتركيز أكثر، على الاتصالات والمساعدات ومشروعات التنمية وتأسيس الوداد مع الآخرين”.
للقوة الناعمة وظيفة رئيسة، وهي بناء قوة روحية ومعنوية للدولة أو للحكم، أو للمؤسسة المعنية مباشرة بالعلاقة مع المجتمع، بل إن لهذه القوة الناعمة لزومها في علاقات الرجل الشخصية مع محيطه، وفي علاقة المرأة بمن تحب. فعندما تتغالظ الأخيرة وتتوحش، فإنها تخسر ما ربحته بالقوة الناعمة. اشتغل الأميركيون على دعم مسارات القوة الناعمة، في العالم العربي، لتستفيد منها الديكتاتوريات. فمن ذا الذي ينسى أنها، في الخمسينيات والستينيات، دخلت مستترة على خط المدارس الأدبية الحداثية، ذات الأشعار الغامضة وتهويماتها، وقصائد الغيمة التي تلد فأراً، من دون أن تصارح في شيء، ودعمت “سي آي إيه” إصداراتٍ رآها الواهمون بوابات أمل للحداثة والرحرحة، مثل مجلة “شعر” التي أصدرها الشاعر يوسف الخال، في الخمسينيات، فدخلت المخابرات الأميركية على خط وعينا النخبوي، مقنّعة بلثام منظمة أهلية، لتدعم المجلة التي نذرت نفسها لدعم شعر التفعيلة الحداثي والموسيقا!
مثلما يحتاج الحاكم العربي للقوة الناعمة، في استخدامها الحميد والوطني، فإن المستكبر الاستعماري يحتاجها للاستخدام الخبيث، ودس السم في الدسم. ذات حدثٍ في السجن، فوجئنا ذات صباح، بأوعية الطعام البليدة، وقد فاحت منها رائحة الفول المدمس الذي لم تشم أنوفنا رائحته منذ سنوات. اندهش الشباب، وتشكلت أسئلةٌ بمعانٍ ضمنية: هل هي ترضية من القوة الغليظة، لتتبدّى وكأنها رهيفة القلب حريصة على بهجة ذائقتنا، وهي المتعسفة مع أجسادنا وأمراضنا وعواطفنا ومصائرنا؟ جاء الجواب في صرخةٍ من صديقي الظريف، اليساري الراحل عبد الله أبو العطا، بصوته الخشن، وبنبرة تحذير صارمة: إنها خطة خبيثة لتمييع الصراع.
كان محض طبق فول، رآه صاحبي يُؤذن بلعبةٍ كبيرة، فما بالنا بألعاب المستعمرين والمستبدين، وهي كثيرة وكبيرة ومتنوعة. لكن أقبح أنواع القوة الناعمة هو ما يرافق القوة الغليظة على خط موازٍ، ولنا من وقائع السياسة الكثير من أمثلة الترافق الموازي للقوتين المتناقضتين: الحاكمون الإيرانيون ناعمون مع الأميركيين، غليظون مع العراقيين والسوريين وأهل عربستان داخل حدودهم. وأندادهم الروس ناعمون مع إسرائيل، غليظون مع السوريين. والأميركيون ناعمون حيال التوحش الروسي والأسدي والإيراني في بلادنا، غليظون مع أهل فلسطين ومجافون للعدالة.

عدلي صادق
العربي الجديد