لم يشهد التاريخ ما تشهده الثورة السورية من انقسامات وتباينات إقليمية ودولية، وكلما زاد نشاط الكتلة الدولية على خط الصراع السوري، ومحاولات إيجاد حلّ، طفت على السطح التناقضات الدولية، والخطط المتعارضة، وكل ما يوحي بأن إيجاد حل لمعاناة السوريين ليس في متناول اليد، والانتقال السياسي في سورية بعيد عن أي طاولة مفاوضات، أو حسم عسكري.
في البدء، ومع انطلاق محادثات “مجموعة الدعم الدولية” في ميونيخ الألمانية، اليوم الخميس، بين القوى الدولية والإقليمية المنخرطة في الملف السوري، وبحضور المعارضة السورية، ممثلة بالهيئة العليا للتفاوض، يلمح كل من منسق الهيئة رياض حجاب، ومستشارة الرئيس السوري، بثينة شعبان، إلى أن المفاوضات لن تقود إلى حل.
يؤكد حجاب على أهمية وقف إطلاق النار، وإيجاد حل للأزمة الإنسانية في المدن المحاصرة، قبل الذهاب إلى جنيف. كذلك ترى شعبان، أن “النظام سيستعيد حلب ويسيطر على الحدود مع تركيا”، مما يعني استمرار المعارك. بالإضافة إلى تأكيدها أنه “لا أمل بإيجاد حلّ دبلوماسي للصراع السوري”، مشددة على أن “دعم وقف إطلاق النار قبل المفاوضات، يعني مساندة الإرهابيين”.
هذا على الجانب السوري ـ السوري، أما دولياً، فيبدو الأمر أكثر تعقيداً وتناقضاً، فحول أجندة اجتماع ميونيخ، يُمكن قراءة التضارب الدولي في تصريحات وزير الخارجية الألماني، فرانك فالتر شتاينماير، أمس الأربعاء. من جهة يتفهّم صعوبة موقف المعارضة، وصعوبة التفاوض من دون وقف إطلاق النار، كما يرى أن الرئيس السوري بشار الأسد ليس الرجل المناسب لحفظ مستقبل سورية، مما يُعتبر تفهّماً أيضاً للمطالبات برحيل الأسد.
من جهة أخرى، يجد شتاينماير نفسه متفهّماً أيضاً لأسباب روسيا في محاربتها “الإرهاب”، ويرى أن مؤتمر اليوم سيحاول وضع أسس للمحادثات حول سورية، والأهم تجنّب أي مواجهة بين حلف شمال الأطلسي وروسيا. رؤية شتاينماير الحذرة، تشتبك مع رؤية أخرى، تطرحها السعودية أخيراً، وتتباحث في شأنها مع الولايات المتحدة وتركيا، حول محاربة تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) في سورية.
تريد السعودية الحدّ من النفوذ الإيراني في سورية، بالتالي سيبدو رحيل الأسد أمراً غير قابل للتفاوض بالنسبة لها، كبداية لتخليص دمشق من الهيمنة الإيرانية. رحيل الأسد، هو ما رددته السعودية على لسان وزير خارجيتها، عادل الجبير، طيلة العام الماضي.
اقرأ أيضاً: المعارضة السورية تطالب بضمانات مكتوبة…وروسيا تعرض “خطتها” على واشنطن
من ناحية أخرى، لا يمكن التدخل في سورية، لصالح المعارضة، من دون التصادم مع روسيا، حليفة الأسد الأبرز، التي قلبت معادلات الوضع في سورية، منذ تدخلها المباشر لصالح النظام السوري. بالتالي يُمكن وضع تصريحات شتاينماير، في سياق تجنّب أي صدام مستقبلي بين الأطلسي وروسيا، وهو أمر غير وارد في حال قيام تحالف سعودي ـ تركي بغطاء أميركي ـ أطلسي للتدخل في سورية، سواء لمحاربة “داعش” أو لمساندة المعارضة.
كما أن استمرار تسليح المعارضة، أو إرسال أسلحة نوعية إليها عبر بوابة تركيا، كما أشيع أخيراً، سيعني عاجلاً أم آجلاً، صداماً تركياً ـ روسياً. مما يعني أن تركيا، العضو في الأطلسي، قد تجرّ الحلف لمواجهة لا يمكن التنبؤ بنتائجها، مع روسيا، بسبب الأوضاع في سورية.
تحاول روسيا أن تتفاوض بطريقة مختلفة، فهي لا تتباحث مع تركيا أو السعودية، ولا تبدو أنها مهتمة بعقد تسوية مع المعارضة السورية. ترى روسيا أن الولايات المتحدة هي الفاعل الأهم، التي تستطيع التأثير بشكل حاسم على خيارات حلفائها في تركيا والسعودية. من هنا جاء الإعلان عن خطة روسية للحل في سورية، تمّ التباحث حولها حصرياً مع الولايات المتحدة. الخطة التي قيل إنها قصيرة، وتحتوي خطوطاً عامة للحل، استقبلتها واشنطن باهتمام.
مع عدم وجود أي تسريبات حول الخطة الروسية في سورية، يمكن توقع ما ستحويه، من خلال تسريبات عن مبعوث الأمم المتحدة إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، ومن خلال تصريحات وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف أيضاً.
بدأ دي ميستورا بجسّ نبض المعارضة السورية، من خلال طرح مسألة “الفيدرالية” كحلّ. الأمر الذي أشارت مصادر متعددة إلى رفض المعارضة السورية لهذه الفكرة تماماً. طرح مسألة الفيدرالية، يعيد إحياء الاقتراحات التي طُرحت في بداية التدخل الروسي في سورية، باعتبارها تدفع باتجاه تقسيم سورية، وإقامة دويلة بقيادة الأسد على الساحل السوري، تحت حماية موسكو. وعلى الرغم من خيالية الفكرة، إلا أن إعادة طرحها من مبعوث الأمم المتحدة، قد توحي بملامح الحل الدولي الأخير في سورية، في حال فشلت الجهود السياسية، والحسم العسكري: التقسيم.
من جهته، يطرح سيرغي لافروف رؤية أخرى، في مقابلة صحافية، إذ يرى ثلاثة سيناريوهات في سورية، لا يرى خسارة لروسيا في أي منها. يرى لافروف في الخيار الأول، احتمالاً لنجاح المفاوضات من خلال التوصّل لحل وسط بين النظام والمعارضة، الأمر الذي تنفيه المعارضة والنظام على حد سواء. أما الخيار الثاني فهو الحسم العسكري لصالح النظام وبدعم روسي، بينما يتمحور الخيار الثالث، المعلق حتى إشعار آخر، باندلاع حرب بين دول المنطقة، تكون روسيا طرفاً فيها، وبالتأكيد تركيا، التي أسقطت مقاتلة روسية اخترقت أجواءها قبل أشهر.
الطريف في الرؤية الروسية، محاولة إظهار لافروف موسكو، باعتبارها تقف ضد الحسم العسكري، على الرغم من أن العقيدة السياسية للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، تتضمّن فكرة الحسم العسكري دائماً. كما فعل مع جورجيا وخلال الأزمة الأوكرانية، واليوم في تدخله العسكري لصالح نظام الأسد. هنا يرى لافروف ببساطة أن لروسيا الحق بأن تحسم الأمور عسكرياً، بينما لا يحق للأخرين حتى التلويح بهذا الأمر.
ما زالت روسيا في هذه النقطة، تستفيد من التراخي الذي واجهت فيه واشنطن كل الخطوات الروسية لمواجهة الأطلسي، خلال السنوات العشر الأخيرة. الولايات المتحدة كانت منشغلة لمدة 8 سنوات تقريباً بالحرب على الإرهاب، والحرب على العراق، التي شنّها الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن، ثم توّج هذا الانشغال بسياسات الرئيس الحالي، باراك أوباما، التي تقوم على تجنب الصدام مع روسيا، أو إيران، أو كوريا الشمالية، ومحاولة لملمة الأضرار التي طاولت أميركا، جراء حقبة محاربة الإرهاب، واحتلال أفغانستان والعراق.
كل هذا الاشتباك الدولي، يبدو محرجاً، مع إصرار الرياض على طرح مسألة محاربة “داعش” من جديد. من خلال الرؤية السعودية التي أُعلن عنها أخيراً، التي تتحدث عن استعداد السعودية لإرسال قوات خاصة لقتال تنظيم “داعش” على الأرض في سورية، ضمن تحالف دولي تقوده الولايات المتحدة. كل الأطراف، بما فيها1 النظام السوري، يطرح محاربة “الإرهاب” ضمن أجندته. مما يعني أن محاربة الإرهاب تقدّم بعداً أخر لمقاربة الأوضاع في سورية، يُمكن لها أن تزيد من تعقيدات الوضع.
ربما كان الخوف من زيادة تعقيد الوضع السوري، هو الذي جعل واشنطن تُرحّب بالخطة السعودية بحذر، على الرغم من التصريحات بأنها خطة أميركية بالأساس. هو الأمر أيضاً، الذي يجعل الروس، يرفضون التدخل البري ضد “داعش”، بحذرٍ أيضاً.
عند العودة إلى سيناريوهات لافروف، هناك سيناريو رابع، لا يريد الوزير الروسي ذكره على الأرجح، رغم علمه بأنه ممكن، ألا وهو خوض حرب بالوكالة ضد روسيا في سورية. صحيح أن الأوضاع الإقليمية لا تسمح بتكرار ما حدث للاتحاد السوفييتي في أفغانستان، مع روسيا في سورية اليوم، لكن ما هو صحيح أيضاً، أن روسيا تتدخل بحذر في سورية، وهي التي أرادت تدخلاً عسكرياً سريعاً، يرجح من كفة النظام، ويقوي من حضوره في أي مفاوضات سياسية، ستكون هي الحل في نظر الروس.
لكن فشل المفاوضات، وعدم رغبة الأطلسي بالصدام مع روسيا، يلغي خياري الحل السياسي أو الحرب الإقليمية، مما يعني استمرار التدخّل الروسي العسكري في سورية، ومواصلة القوى الإقليمية تسليح المعارضة السورية بحذر، في انتظار تورط روسيا أكثر، وضغطها بشكل حقيقي على نظام الأسد لإجراء تسوية سياسية، أو دخول روسيا حرب استنزاف طويلة الأمد، تستنزف الروس، وقد تعني مواجهة أكبر بينهم وبين “داعش”، الذي أفادت تقارير صحفية روسية عن محاولاته القيام بعمليات على الأراضي الروسية خلال الأيام القليلة الماضية.
بدر الراشد
صحيفة العربي الجديد