التفكك القادم: مستقبل الدولة العربية في ظل تصاعد الصراعات الطائفية

التفكك القادم: مستقبل الدولة العربية في ظل تصاعد الصراعات الطائفية

4334

لا شك في أن الدولة القومية العربية أصبحت تُواجَه بعددٍ من التحديات الجسام التي تعوق مسيرتها واستمراريتها كوحدة مستقرة ومتجانسة، خاصةً في أعقاب الثورات العربية. ومن أبرز هذه التحديات ما يتعلق بالصراعات المذهبية والطائفية، والتي تُغذِّي بشكل مباشر مشكلة الإرهاب في المنطقة العربية.

وقد تجسَّد هذا التحدي في عددٍ من التطورات الفارقة، مثل: تقنين مبدأ المحاصصة الطائفية في بعض الدول العربية، واتخاذ الصراع على السلطة في البعض الآخر بعدًا مذهبيًّا، مع انتشار العمليات الإرهابية بناء على الانتماء الديني. هذه التطورات مجتمعة قد يكون لها بالغ الأثر على مستقبل الدولة القومية العربية، وقد يعرضها -بجانب عوامل أخرى- للانهيار والتفكك إلى كيانات ووحدات صغيرة.

عوامل مساعدة:

في هذا الإطار يُمكن الحديث عن مجموعة العوامل التي ساعدت على نمو هذه الظاهرة وتفاقمها، ويكمن مردها الرئيسي في سياسات بعض القوى الإقليمية، والصراعات الداخلية في بعض الدول العربية، بالإضافة إلى سياسات مكافحة الإرهاب في المنطقة.

أولا:- الدور السعودي في مناصرة الجماعات والكيانات السنية: تسعى الرياض منذ وقت طويل إلى إقامة تحالف سني لمواجهة التمدد والتغلغل الإيراني في المنطقة العربية، وقد تجلى ذلك في انتهاج المملكة عددًا من السياسات التدخلية في الدول التي تشهد صراعات داخلية على أساس طائفي. وقد تخطى الأمر في بعض الأحيان حدود المتوقع من خلال تحريك قوات خليجية بقيادة الرياض لمواجهة تلك المعضلة. ويُعد المثال الأبرز في هذا الصدد، هو إرسال قوات درع الجزيرة في (14 مارس 2011) لمساعدة السلطات البحرينية على مواجهة المظاهرات التي اندلعت في ميدان اللؤلؤة بالمنامة وطالبت بالمزيد من الإصلاحات الدستورية، وقد اعتبرها المتظاهرون آنذاك قوات “احتلال”، يتعين مغادرتها في أقرب وقت، ومن المعلوم أن المتظاهرين كانوا ينتمون إلى التيار الشيعي المدعوم إيرانيًّا.

ويُعد الصراع في اليمن مثالا آخر على استخدام الأداة العسكرية من قبل الرياض لمواجهة حلفاء إيران في المنطقة، ولكن في هذه الحالة تم استخدام القوة في نطاق تحالف أوسع مكوَّنٍ من عدد من الدول في 26 مارس 2015، تخطى الوصف الخليجي، حيث ضم دولا مثل: مصر، والسودان، والمغرب، والأردن، فيما أُطلق عليه “عاصفة الحزم”، وتمحورت أهدافه حول إعادة الشرعية إلى اليمن، والضغط على الحوثيين للدخول في مفاوضات سياسية لحل الأزمة، والحفاظ على حرية الملاحة في مضيق باب المندب.

وتزامنًا مع تطورات الأحداث في المنطقة، أعلنت المملكة عن إقامة تحالف إسلامي لمكافحة الإرهاب في 15 ديسمبر 2015، يتكون من 34 دولة، معظمها ذات أغلبية سنية. كما اعتمدت المملكة على أدوات أخرى غير عسكرية في بعض الحالات لمواجهة النفوذ الشيعي في المنطقة، مثل: تمويل الجماعات الموالية لها، وتدريبها، وإمدادها بالسلاح، والوقوف خلفها إعلاميًّا، كما يحدث الآن في الحالة السورية بتمويل جماعات المعارضة، وما يسمى بالجيش السوري الحر، ومساندة الكيانات السنية أيضًا في لبنان والعراق.

ثانيا:- الدور الإيراني والتمدد الشيعي: حيث تدفع العديد من الدراسات بوجود دور محوري للدين في السياسة الخارجية الإيرانية في منطقة الشرق الأوسط، فطهران بعد الثورة الإسلامية عام 1979 تحاول وبقوة تصدير نموذجها الثوري إلى محيطها العربي، وقد وجدت بغيتها في مساندة ومناصرة الجماعات والكيانات الشيعية في المنطقة العربية، كما هو الحال في العراق وسوريا والبحرين واليمن ولبنان. لذلك حولت طهران ذلك التوجه إلى شكل مؤسسي من خلال التعويل على بعض المؤسسات الثقافية في هذا المجال، مثل: المستشاريات الثقافية الإيرانية، والمجمع العالمي لأهل البيت، والمدارس والحوزات الإيرانية في الدول العربية، وممثليات مرشد الثورة في الخارج، ومنها على سبيل المثال جامعة أزاد الإسلامية، ومعهد الرسول الأكرم في لبنان. إلى جانب سياسة نشر التشيع في العالم العربي، والتي أفصحت عنها الاستراتيجية الإيرانية لعام 2025. إضافة إلى تسخير أداتها الإعلامية على مختلف أنواعها لتكوين الهلال الشيعي، حيث تدعم طهران إعلاميًّا وبشكل واضح جماعة الحوثي وحزب الله وجميع المكونات الشيعية، من خلال قنوات: المنار، والميسرة، وعدن لايف، والأنوار، والمعارف، وكربلاء، والنجف، والإمام الحسين، والعالم، فضلا عن عدد من الصحف والمطبوعات الأخرى، مثل صحف: المسار، والديمقراطي، والحقيقة، والبلاغ، وبيت الله، إلى جانب عدد من المواقع الإلكترونية مثل: موقع أنصار الله، وأفق نيوز، والمنبر الديمقراطي.

ومن الوسائل الأخرى التي تعتمد عليها إيران هي الدعم المالي والعسكري للجماعات الشيعية، سواء بإرسال عناصر وقيادات من الحرس الثوري الإيراني كما هو واضح في الحالتين العراقية والسورية، أو الدعم بالسلاح كما هو الحال في الحالة اليمنية. ولعل الأزمة الأخيرة التي اندلعت بين طهران والرياض، على خلفية إعدام القيادي الشيعي آية الله الشيخ نمر باقر النمر، والتي أدت لقطع العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين؛ تدلل على عمق الأزمة الطائفية التي تشهدها المنطقة.

ثالثا:- الصراعات الداخلية الحالية في بعض الدول العربية: والتي عمّقت من الحالة الطائفية، وغلّفت الصراع على السلطة بهذا الطابع، فالمجتمع اليمني اليوم منقسم على نفسه ما بين جماعة الحوثي الزيدية، والتي تسعى إلى تحويل معادلة القوة لصالحها في صنعاء، وبين السلطة والجماعات المسانِدة لها المدعومة من الرياض. وهو الوضع أيضًا في الحالة السورية، والتي أضحت تُعاني من حرب أهلية شاملة بسبب الصراع الطائفي على السلطة، والتدخلات الإقليمية والدولية في هذه الأزمة. كما يُغيِّم هذا الوضع بالسلب على الحالة اللبنانية؛ حيث عجزت الدولة منذ 25 مايو 2014 عن انتخاب رئيس للجمهورية من خلال مجلس النواب لعدم اكتمال النصاب القانوني للحضور، والذي يتطلب حضور ثلثي الأعضاء البالغ عددهم 120 عضوًا. ويتنازع مجلس النواب قوتان أساسيتان هما قوى (14 آذار) المناهضة لحزب الله ودمشق، وقوى (8 آذار) المدعومة من دمشق وطهران. كما تعاني العراق من حالة مماثلة لعدم القدرة حتى هذه اللحظة على تحقيق التوافق السياسي المطلوب بين القوى السنية والشيعية على مواجهة الإرهاب. كما أدت السياسات الطائفية في العراق إلى تعميق حالة الانقسام والتحزب داخل المجتمع العراقي، وإهدار المال العام في قضايا فساد عديدة.

رابعا:- سياسات مواجهة الإرهاب في المنطقة: أفرزت تلك السياسات أيضًا حالة طاغية من الطائفية، أوضح ما تكون في النموذج العراقي، فعقب الانهيار السريع للجيش العراقي أمام تنظيم “داعش” الإرهابي، تكوّنت ميلشيات الحشد الشعبي عبر فتوى “الجهاد الكفائي” التي أطلقها المرجع الشيعي العراقي السيد علي السيستاني، وقد قامت هذه الميلشيات المدعومة حكوميًّا وإيرانيًّا بعددٍ من الانتهاكات الممنهجة ضد العشائر السنية في العراق، خاصةً في تكريت؛ حيث خطفت وشردت عشرات السنة نتيجة تدمير منازلهم بعد انسحاب داعش بحسب تقرير صادر عن منظمة هيومن رايتس ووتش في 21 سبتمبر 2015. كما جرت محاولات لقلب المعادلة الديمغرافية في بغداد وديالي وصلاح الدين من جانب تلك الميلشيات.

تطورات مقلقة:

هذه الحالة الحرجة من المذهبية والطائفية قد انعكست في مجموعة من التطورات المثيرة، والتي تمثل خصمًا كبيرًا من رصيد الدولة القومية العربية، وتؤثر على مستقبلها ووحدتها، والتي تمثلت في:

أولا:- المحاصصة الطائفية والمذهبية: وهذا التطور وليد الحالة الطائفية في كلٍّ من لبنان والعراق، والتي تقررت في لبنان بموجب اتفاق الطائف 1989 بعد الحرب الأهلية اللبنانية، وكرسه اتفاق الدوحة 2008، مما جعل المؤسسات السياسية والإدارية والعسكرية رهينة الانتماءات الفرعية، وبعيدة عن الانتماءات الوطنية. أما في العراق فقد تقرر هذا المبدأ بموجب الدستور الجديد الذي تم اعتماده في 15 أكتوبر 2005 في ظل الاحتلال الأمريكي للعراق، والمتعلق بتقاسم السلطة بين السنة والشيعة والأكراد. ويعتبر هذا المبدأ من الخطورة بمكان على وحدة الدولة العربية، ومما يزيد من خطورته وجود رغبة في تطبيقه في بعض الدول الأخرى، فهو إحدى الصيغ المطروحة لحل الأزمتين اليمنية والسورية.

ثانيا:- بزوغ وتعضد الولاءات ما دون الدولة القومية: حيث افتقد عدد من المجتمعات العربية صفة التجانس والوحدة، وانتشرت بين جنباتها عدد من الولاءات الفرعية العشائرية والقبلية والطائفية، مما كرس معه غياب فكرة الدولة، حيث توزع الولاء ما بين الخارجي والداخلي، وأصبحت الجماعات الطائفية تسيطر على أماكن نفوذ لها داخل الدولة، مثل سيطرة حزب الله على الضاحية الجنوبية في بيروت، وسيطرة الحوثيين على صعدة في اليمن، وتقاسم مناطق النفوذ في العراق، فالشيعة يسيطرون على المناطق الجنوبية، ويتمركز السنة في الوسط، والأكراد في الشمال، وهذا الوضع في العراق عمّق من مفهوم الطائفية، وساهم في انتشار أعمال العنف بين الجانبين. ولا غلوّ في القول أيضًا إن الولاءات الفرعية لم تقتصر على المكونات الشيعية فقط، بل امتدت لتشمل بعض المكونات السنية مثل جماعة الإخوان المسلمين في الوطن العربي والتي تخطى ولاؤها حدود الدولة القومية.

ثالثا:- انتشار العمليات الإرهابية ذات الطابع المذهبي والطائفي: شهدت بعض الدول العربية عددًا من العمليات الإرهابية القائمة على البعد الطائفي، من خلال استهداف المكونات الشيعية، ومنها سلسلة التفجيرات التي حدثت -وما زالت- في المملكة العربية السعودية في مدن أبها والقطيف ونجران والدمام، وتفجير مسجد الإمام الصادق في الكويت، وتفجير الضاحية الجنوبية في بيروت، وتفجير قرية سترة في البحرين. كما كانت هناك بعض التفجيرات الأخرى التي استهدفت أماكن أو أشخاص ينتمون للتيار السني، وأبرزها تفجير موكب رئيس الوزراء اللبناني السابق، رفيق الحريري، في بيروت.

تداعيات محتملة:

هناك عوامل وتطورات ساعدت في تكريس أزمة المذهبية والطائفية في الوطن العربي، وبالتالي سيكون لتلك الأزمة بالغ الأثر على مستقبل الدولة القومية العربية، والذي يمكن ردها إلى أحد تلك السيناريوهات التالية:-

السيناريو الأول: تفكك الدولة القومية العربية. في ظل هذه الحالة غير المتجانسة التي تعاني منها، وانتشار أخطار أخرى مثل الإرهاب، مع ضعف البنية الاقتصادية والسياسية لها – فإن سيناريو التفكك ليس بعيدًا، وقد تحقق في السودان على إثر انقسامها إلى دولتي السودان وجنوب السودان. كما أن هناك عوامل أخرى خارجية تدفع لتعزيز هذا التصور مثل التدخلات الدولية، ورغبة القوى الخارجية في إضعاف الدولة العربية، وهذا السيناريو مطروح وبقوة في الحالتين العراقية والسورية.

السيناريو الثاني: الحكم الذاتي. قد يتكرر السيناريو الكردي العراقي مرة أخرى في مناطق النزاع العربية، خاصة في الحالتين السورية واليمنية، فقد يحصل السنة الأكراد -على سبيل المثال- على حكم ذاتي في الحالة السورية لإدارة المناطق التي يتمركزون فيها، وقد يكون هذا التصور أيضًا أقرب للحالة اليمنية، بحصول الحوثيين على الحكم الذاتي.

السيناريو الثالث: الدمج. إن تطورات الأوضاع في كلٍّ من العراق وسوريا تشير إلى إمكانية توحد السنة في كلا الدولتين، ليكونوا نواة لدولة جديدة لإنهاء حالة الصراع القائم، وقد تكون معالم تلك الدولة، المنطقة التي يسيطر عليها الآن تنظيم داعش الإرهابي، كما تظهر احتمالات الدمج في أماكن أخرى، مثل انبثاق دولة كبيرة للشيعة تجمع بين المنطقة الجنوبية في العراق والشرقية في المملكة العربية السعودية.

رابعا: الثبات والاستمرار. هذا التصور قائم أيضًا ولكن بشروط، منها ضرورة تطوير الفكرة القومية العربية، وإيجاد آليات جديدة تُعزز منها، مثل القوة العربية المشتركة، والثورة على كل ما يعطل التعاون العربي، وبالتالي ضرروة الحاجة إلى تطوير جامعة الدول العربية، وتبني استراتيجية عربية واضحة لمكافحة الإرهاب والتطرف.

 حاصل القول، لقد أصبح وضع الدولة القومية العربية في ظل التحولات الإقليمية والدولية مقلقًا بدرجة كبيرة، وأضحى مستقبلها مفتوحًا أمام جميع الاحتمالات والسيناريوهات السالف الإشارة إليها، وهذا الوضع بالطبع يقتضي ضرورة توافر الوعي الكامل من الجميع -المواطنين قبل الحكام- من أجل الحفاظ على الهوية والوحدة العربية.

إبراهيم منشاوي

المركز الاقليمي للدراسات الاستراتيجية