تعلمنا من الطب والتاريخ على حد سواء أن حب السلطة يفوق أي حب آخر، وأنه إذا تمكن هذا الحب المرضي من المصاب به دفعه بكل قوة إلى التجاوز عن كل الأعراف والقيم، ودفعه بكل اقتناع أيضا إلى ارتكاب كل الجرائم تحت مقولة أو مظنة الدفاع عن النفس.
وقد يقوده ذلك إلى تدمير مدينة بأكملها لأنها قد تضم إنسانا واحدا قد يفكر في ما من شأنه الانتقاص من وضعه، وحتى إنه قد يشرع بل يخطو خطوات واسعة في استئصال جنس بأكمله، أو جيل بأكمله، أو القضاء المبرم على من يعتنقون فكرة أو مذهبا أو دينا يرى أن أيا منها تمثل مصدر خطر محتمل عليه.
الفارق بين الطب والتاريخ في هذه الجزئية المعرفية أن علوم الطب وفنونه وممارساته قد انتبهت بأكثر وبأبكر (من البكور) مما انتبهت علوم التاريخ والاجتماع والسياسة إلى ما سميته في مناقشاتي بثنائية الأهمية والآلية: أهمية وآلية حماية الطاغية من نفسه، حتى من قبل التفكير الجاد في العمل على حماية المجتمع منه، وحماية البيئة منه، وحماية الوطن منه، وحماية الإنسانية منه في المقام الأخير.
“حب السلطة قد يقود صاحبه إلى تدمير مدينة بأكملها لأنها قد تضم إنسانا واحدا قد يفكر في ما من شأنه الانتقاص من وضعه، وقد يشرع بل يخطو خطوات واسعة في استئصال جنس بأكمله، أو جيل بأكمله، أو القضاء المبرم على من يعتنقون فكرة أو مذهبا أو دينا يرى أن أيا منها تمثل مصدر خطر محتمل عليه”
ربما يتعلق نجاح هذه الثنائية بما هو متوفر بالفعل من العلم والفهم والقدرة المهنية، فقد نبهنا الطب البشري (والبيطري أيضا) مبكرا إلى كثير من مظاهر صور جنون العظمة المرضي، ومنها على سبيل المثال ما أسميه المظاهر النصوصية في حديث المصاب بها، كما أطلعتنا مراجع الطب النفسي بصورة شبه كاملة ودقيقة أيضا على المظاهر الإكلينيكية الكفيلة بتشخيص هذه الحالات، كما أرشدتنا وهدتنا ممارسة التوجيه الأسري والطفولي والارتقائي إلى آليات تربوية واجتماعية كفيلة بالحد من الآثار المرضية أو السلبية لهذه الحالات التي هي (لحسن الحظ البشري ) ليست واسعة الانتشار.
وعلى الرغم من ذلك فقد بقيت للحالات “متأخرة الظهور” من المرض درجات عالية من “السمية المعقدة” التي هي كفيلة بأن تصعب من ظروف العلاج وتربك مساراته تماما.
يزداد الأمر صعوبة حين لا تظهر الصورة المشخصة لجنون العظمة إلا بعد الاستحواذ على السلطة، وكأنما أتى هذا المرض نفسه عقابا إلهيا للاستحواذ على السلطة بطريقة غير مشروعة سياسيا أو قانونيا، وفى هذه الحالات يعيش الطاغية المريض مع مجموعة مشاعر مركبة ومعقدة ومتناقضة تفوق طاقة البشر على التحمل والتصور والتكيف. ويصل الأمر به إلى حالات شبيهة بأن تكون هي بعينها الصرع الروحاني الداخلي أو المستبطن.
وتبدأ هذه المظاهر في الاستعباد التام للمصاب بها إذا رأى مثلا أن أوامره قد أصبحت تنفذ بحذافيرها في التو واللحظة وبأفضل مما يتوقع، فإذا به يقول لنفسه: أين كنت أيتها السلطة الفاتنة حين كان هؤلاء المرؤوسون أنفسهم لا ينفذون إلا نسبة الربع من تعليماتي؟ ثم إذا هو يحادث السلطة المعشوقة بوله المحب العاجز عن مفارقتها بعد أن أصابته بالنشوة في كل لقاء يجمعه بها، ثم إذا هو يستزيد من جرعاتها ليزداد استمتاعه، ثم إذا هو يحارب بكل قسوة من أجل استبقاء هذا الممتلك الرائع.
ومع ما جبلت عليه النفس البشرية من الأثرة والأنانية والغيرة فإنه سرعان ما يعتقد في الحق الإلهي، وفي الأحقية التي كرسها له تاريخه المزور، أو غدره المكشوف، أو طموحه الظالم.
في الوقت ذاته، فإن أصحاب المصلحة في سوق السياسة والعمل الدولي والإقليمي -بمن فيهم تجار السلاح وتجار النفوذ وشركات العلاقات العامة المستحدثة- يبدؤون العمل الجاد والحثيث بل المحموم في مسارات مبدعة أو إبداعية تستهدف الاستثمار الخبيث لمعارفهم وخبراتهم السابقة فيما يمكنهم من الحصول على أكبر قدر ممكن من المكاسب المتاحة في ظل وبفضل وجود الطاغية.
وعلى سبيل المثال، فقد بدأ التأييد السوفياتي لبشار بالفيتو في مجلس الأمن على النحو المعهود من روسيا (والاتحاد السوفياتي من قبلها) بالتأييد السلبي المستند في هذا الحسم إلى آلية التعطيل بالفيتو، وكأن الفيتو لم يخلق إلا لقتل مسلمي السُنة أو أي طرف يكونون هم الأغلبية فيه.
ثم تطور استخدام الفيتو أو توظيفه من موقف إلى موقف حتى وجد الروس أنفسهم أمام فرصة ذهبية بلغة الإستراتيجية القديمة التي لا يريد الروس أن يعترفوا بأن الزمن عفا عليها، وهكذا أصبح الروس ذات يوم يصورون أنفسهم في الإعلام وقد ربحوا معركة “عودة الوجود ” أو “الوجود الثاني” في الشرق الأوسط في مقابل حفاظهم على رقبة طاغية.
وعلى الرغم من غرابة (ولا نقول سخافة) هذا المسلك (وهذا الطرح) في الأعراف الدولية فإن الأوروبيين من بعد الأميركيين أخذوا “على استهزاء ثم على استحياء” يسوغونه بدأب متخف سرا، ويتقبلونه على مضض علنا مع وجود فرصة دعائية (ممجوجة ولكنها كافية لسد الثغرات الخلقية) تمثلها حقيقة غير معلنة وتغطيها غاية غير صادقة.
فأما الحقيقة غير المعلنة فهي التنغيص على تركيا، والتربص بمشروع أردوغان الذي لم يعد من مفر أمام الجميع من تصويره والتعامل معه على أنه مشروع عثماني أحيانا (وإخواني أحيانا أخرى) إن لم يكن إسلاميا صريح المعاداة (حتى وإن كان في ذاته خاليا من أي نية عدوانية) مائة في المائة، وهنا عرف العالم المعاصر لأول مرة مواجهة مشروع لم يعلن العداء بمعاداة جاهزة!! ومن هنا جاء الوصف الاصطلاحي الذي لجأت إليه: صريح المعاداة.
“وجد الروس أنفسهم اليوم أمام فرصة ذهبية بلغة الإستراتيجية القديمة التي لا يريد الروس أن يعترفوا بأن الزمن عفا عليها، وهكذا أصبح الروس ذات يوم يصورون أنفسهم في الإعلام أنهم قد ربحوا معركة عودة الوجود أو الوجود الثاني في الشرق الأوسط في مقابل حفاظهم على رقبة طاغية”
وأما الغاية غير الصادقة فهي بصراحة شديدة لا تعدو أن تكون نسخة غير مرخصة من الأسطوانة المشروخة المسماة بمحاربة الإرهاب.
وعلى هذا النحو، تحولت أرض سوريا دون أي ذنب جناه شعبها إلى ما يمكن وصفه بأنه محطة أبحاث متقدمة للممارسات الإجرامية في السياسة، على نحو غير مسبوق.
بيد أن دهاء التاريخ، والتاريخ داهية كبير، ينبئنا أن هذه المسرحية السوداء تمضي في طريق مفيد للإسلام وللمسيحيين العرب من حيث لم يخططوا ومن حيث لم يتوقعوا، ومن الواجب عليّ أن أصف بلغة الطب وعلم النفس ذلك الفارق الكبير بين معركة سوريا الحالية ومعارك المئة سنة الماضية من عمر المنطقة بما فيها معارك نهاية الحرب العالمية الأولى ودخول البريطانيين إلى القدس لأول مرة منذ الحروب الصليبية وحتى التدخل الدولي في حرب الخليج وفي ليبيا.
وبمصطلحات الطب والعلاج (وعلم النفس والاجتماع أيضا) فإن المعركة في سوريا الآن “معركة بعث” على حين كانت سابقاتها “معارك إدمان” فالسوريون يزيحون بشار التي تتضافر القوى الدولية والأمم المتحدة نفسها للإبقاء عليه بينما كانت هذه القوى (والمنظمة الدولية معها) تسهم في إزاحة صدام ومعمر بالقرار والكرار (وهو لفظ في العامية المصرية يدل بصورة ما على اللوجستيات) ومن الطبيعي أن هذا الإسهام ينشئ الإدمان، على حين أن الإسهام المعاكس للتاريخ والمعادي للشعوب يقود إلى البعث.
فإذا ما انتقلنا من وصف مسارات العلاج إلى وصف معقباتها، فمن الواضح أن هذا التكثيف على أرض الشام قمين بأن يرشد العقل الجمعي العربي إلى حتمية التطهر من بؤر الفكر الشمولي والشوفوني التي أسست لكل هذا الإجرام باسم الوطنية، ومحاربة عدو مصطنع هو في الواقع أقرب الداعمين لمن يصور نفسه مقاوما له، ومع أن هذه القضية تبدو محسومة سلفا لمصلحة الحق فإنها على أرض الواقع تمثل معضلة تفوق في صعوبتها المآسي التي نراها الآن على أرض سوريا.
ومن الإنصاف أن أشير إلى أن هذا التعقيد والتعقد يدفعان بعض المفكرين والساسة المخلصين إلى نصحي بتأجيل الكلام في مراجعة التراث القومي الحديث وتجريم مجرميه وتطهير ضحاياه وتطعيم مواجهيه وعلاج مصابيه، لكني لا أزال أعتقد أن من المفيد حتى للمفاوضات مع بشار (ونسخ بشار المستحدثة) أن أنادي بهذه الخطوات الأربع قبل أن تتكرر مسرحية بشار مرات أخرى في ساحات أخرى ترحب بها.
محمد الجوادي
المصدر : الجزيرة