في مطلع شهر مارس/ آذار 2015، كان جيش النظام في سورية قد تلقى عدة ضربات قاسية، جعلته يتراجع على جبهات مهمة، ويخسر مزيداً من الأراضي المحيطة بمعقله الرئيس قرب الساحل، وفي وسط البلاد، وشمالها. فقد تنازل لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) عن مدينة تدمر الأثرية، وتخلى عنها بما تملكه من إشارات حضارية وسياحية، جعلت إنتاجات (ميديا) تنظيم الدولة المرئية ذات صدى أكبر، وتأثير أبلغ، ثم أخلت قوات النظام آخر مواقعها في محافظة إدلب، لصالح جيش الفتح الذي بدت مسيرته سهلة، فتساقطت المواقع أمامه بسهولة، مثل قطع الدومينو. لم تكن تلك الانتصارات حاسمة ونهائية، لكنها أعطت مؤشراً قوياً على تفسخ النظام وبداية انهيار السلطة التي وجدت نفسها منزوية ضمن قطاعها الساحلي الضيق، بعد خسارة جزء مهم من الريف، فأصبح طريقها الدولي من الساحل إلى العاصمة دمشق يسير متقطع الأنفاس، لكثرة الانعطافات فيه، ويحتاج إلى تحايل مواصلاتي شاق، حتى تتم الرحلة بشكل شبه آمن.
أعطى النجاح المحدود الذي حققه النظام بمساعدة فعالة من حزب الله في منطقة القلمون، في ذلك الوقت، مؤشراً جديداً على تهاوي القوة الرئيسية للنظام، وأصبح مؤكداً أنه لن يتمكن وحيداً من الصمود أكثر من ذلك، وصار عرضة للسقوط العسكري أكثر من أي وقت مضى. لا يعني ذلك أن السقوط بات وشيكاً، لأن النظام كان لا يزال يحتفظ بتفوق جوي ملموس، بالإضافة إلى تموضعه في نقاط أساسية تحمي مواقعه الحساسة.
يمكننا أن نعتبر تعاظم قوى المعارضة، والتحسن الكبير في نوعية أسلحتها، وقدرتها على التواصل والتكتل، مع الاستقرار في دفعات الدعم الذي تتلقاه، أسباباً لواقع النظام الهزيل، ودافعاً مباشراً لقيام القوات المعارضة بعمليات هجومية مستمرة، وطويلة، مع قدرةٍ أكبر على الاحتفاظ بالمواقع التي تدخلها، ما حقق لها الاستفادة من المعدات العسكرية الكثيرة التي كان النظام يتركها وراءه بعد عمليات انسحابه السريع.
سبق انهيار النظام العسكري هذا نشاط روسي دبلوماسي محموم، ركض فيه وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، بين عواصم المنطقة عدة مرات، مسوقاً مؤتمرات تعقد في موسكو بين النظام والمعارضة، لتنفيذ توصيات مؤتمر جنيف الأول. لم يفلت الروس الخيط السوري لحظة واحدة، فبقي الدبلوماسي الروسي على مقربة دائمة بحضوره الإعلامي والسياسي، من دون إعطاء فرصة واحدة لإحداث اختراق صغير.
مع بداية العام الماضي، عقد الروس أول مؤتمرٍ، حشدوا فيه بعض المعارضين، وحيّدوا كل ما له صلة بالعمل العسكري المعارض، تنفيذاً لاستراتيجية راسخة، تقوم على اعتبار الوجود العسكري المعارض من أشكال الإرهاب، وتجب مواجهته والقضاء عليه، من دون تمييز كتائبه، إسلامية كانت أو معتدلة.. على الرغم من هزال النتيجة التي خرج بها مؤتمر موسكو الأول، فقد سجلت روسيا في حسابها عدة نقاط، بعد أن استدرجت معارضين، ينظر إليهم باحترام، ولديهم تاريخ وطني ناصع، من أمثال عارف دليلة. ولتجاوز النقد الدولي المتوقع، رُوِجَ أن المؤتمر ذو طبيعة تشاورية، وبوشر البحث عن موسكو الثاني. في وسط كل هذه البهرجة، كانت روسيا تقدم نفسها وسيطاً، يسعى إلى تقريب وجهات النظر بين أقطاب متصارعة على طريق حل الخلاف بطرق سلمية، كما نصت بنود جنيف الأول.
لم يأتِ مؤتمر موسكو الثاني الذي عُقد في إبريل/ نيسان بأفضل من الذي سبقه من حيث النتائج، فتكرس المؤتمر رقماً آخر في الملف السوري، شمل تشاورات جديدة، فيما كانت الجبهات مشتعلة ضمن حقيقة أن ما يحدث من مؤتمرات حالية لا يتعلق بالحرب والحصارات والتقتيل.. لكن اسم موسكو لمع في هذه المؤتمرات، أكثر من القضية السورية التي بدت أشد استعصاء مع تحقيق المعارضة على جبهة إدلب بدايات انتصاراتها الكبيرة باجتياحها، لأول مرة، مركز مدينة إدلب، وتخلي النظام عنها بشكل نهائي.
جاءت زيارة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، تل أبيب بعد شهر من اختتام مؤتمر موسكو الثاني، وقبيل سقوط محافظة إدلب الكامل، وكانت الزيارة تحت عناوين اقتصادية، لكن مسؤولاً إسرائيلياً قال، بشأن المحادثات عن سورية، إن “هناك شعوراً بأنّ نتنياهو وبوتين وجدا لغةً مشتركة”؛ أما ما قاله بوتين، وبشكل صريح ومباشر، في تل أبيب، فهو أن “لروسيا علاقات استراتيجية مع سورية”. وأعرب من فوق أرض فلسطين المحتلة عن معارضته التدخل الغربيّ في سورية، ورفضه فكرة استعمال الدول الغربيّة قوتها العسكرية لإسقاط النظام السوري، وقال: “ينبغي التفكير في نتائج هذا الأمر، قبل الشروع فيه، انظروا إلى ما حدث في العراق وأفغانستان”. وأضاف “القيام بعمل من دون معرفة نتائجه مسبقاً ليس فيه حكمة كبيرة. ينبغي التفكير جيداً هل ستكون المعارضة السورية التي تصل إلى الحكم كما يريدها الغرب، أم ستكون عكس ذلك تماما؟”.
بعد تلك الزيارة، كانت إدلب وتدمر قد انتقلتا بشكل كامل إلى حكم كتائب معارضة يصنفها الغرب على قائمة الإرهاب لديه. كان التحول حينها كبيراً ومنتظماً، وبدا النظام هنا فاقداً قواه العسكرية، ومعرّضاً للسقوط، ومخططاً الالتجاء إلى ساحله، ليتحصن خلف مرامي الأسلحة قصيرة المدى. لم يمض أكثر من ثلاثة أشهر، حتى أصبحت الأرضية الدبلوماسية مفروشة أمام تدخل عسكري روسي مباشر، وبدأت طائرات السوخوي تشن هجماتها داخل الأراضي السورية على مواقع المعارضة، منطلقةً من قواعد سورية، برضى كامل من المجتمع الدولي الذي كان يصرّح، في الوقت نفسه، أن الحل في سورية سلمي فقط.
كانت الهجمات الروسية تترجم قناعات موسكو بأن كل سلاح معارض داخل سورية لا بد أن يكون تابعاً لجماعات إرهابية، تجب مواجهتها. لذلك ركز الطيران الروسي، في البداية، على الجبهات المحرجة للنظام في ريف اللاذقية وقرب حلب، وقدم بعض المساعدة في ريف دمشق، وتجاهل بشكل شبه تام الوجود الوقح لتنظيم الدولة الإسلامية في الرقة.
جاء التدخل الروسي المباشر في سياقٍ يمكن تخمينه، فالسياسة الروسية ترغب بتوسيع ملاعبها، وقد لاحت لها انفراجات عراقية مغرية، في ظل قلق داخلي، ذي طبيعة مذهبية، يمكن التسلل من خلاله، واللعب بخيوط إقليم عريض، يتألف من سورية والعراق ولبنان، يغطيه نفوذ لدولة إيران التي تعتمد على دعم روسي عسكري ونووي، بينما أميركا محجمة، عن سابق إصرار وتصميم، عن التدخل المباشر، وفضَّل رئيسها باراك أوباما المراقبة البعيدة لاستنزاف خصوم له، تحدث عنهم في خطابه أخيراً، فقال إن “روسيا تستخدم الكثير من مصادرها في أوكرانيا وسورية”، ما يعني أن إطالة أمد هذا التدخل سيؤدي إلى مزيد من المصادر الروسية المنثورة على شكل هباء.
على الرغم مما يقوله أوباما، بدت روسيا سيدة الموقف، بعدد طائراتها الكبير الذي يحلق براحة في أجواء المنطقة، وحتى بعد سقوط إحداها بصاروخ تركي، فقد تمادى الروس في قصف القوات التي تعتبرها أميركا وحلفاؤها معتدلة، بدون اعتراض من أحد، فأخلى القصف الروسي محيط اللاذقية من الوجود العسكري المعارض، وهيأ لقاعدته العسكرية هناك مزيداً من المساحات الأمنية، وبدأت قوات النظام بالتمدد تحت مظلة القصف الروسي، فحققت انتصاراتٍ معنوية مهمة في ريف اللاذقية، وعينها على إدلب، من دون أن تفترّ همة وزير الخارجية الروسي، لافروف، الذي يحفظ، عن ظهر قلب، مقرّرات مؤتمر جنيف الأول، ومقولات الحل السلمي، فالتقى وزير الخارجية الأميركي أكثر من مرة، وذهب إلى الرياض لمقابلة نظيره السعودي، عادل الجبير، ووصل إلى مؤتمر فيينا الذي أصدر تسع نقاط تستوعب مستجدات الحالة السورية بعد حرب السنوات الخمس، وتكمل مقررات مؤتمر جنيف الأول.. أما القرار الدولي الذي صدر بالإجماع في الأمم المتحدة، وبحضور روسي لافت، وموافقة لمندوب موسكو في الأمم المتحدة، فيُعتبر طريقاً لرسم خارطة مصغرة ومختصرة تمهد إلى حل نهائي، يبدأ من مؤتمر جنيف.
بدتْ تصرفات روسيا، بعد بداية الثورة بأشهر، وكأنها تعتبر سورية إحدى مقاطعاتها، وظهر بشار الأسد مع الرئيس الروسي، بوتين، في الكرملين بدون بروتوكولات الرئاسة المعتادة، وتم التوقيع السريع على معاهدةٍ نَشَرتْ أسراب الطائرات الروسية في مطار حميم، ما يؤكد الشغف الروسي الذي لا ينضب بالسواحل الشرقية للبحر الأبيض المتوسط، ومحاولة ربطها جغرافياً مع بغداد، ليكتمل القوس الدفاعي الجنوبي عن موسكو، وليزداد نصف قطر الأمان الاقتصادي، بعد السيطرة على سوقين كبيرين وإطلالة على مياه الخليج. لذلك، تكافح روسيا بكل ما تملكه من قدرة دبلوماسية على تحقيق حلمها، وتتركها أميركا، بإدارتها الديمقراطية، تنزف ببطء حتى تسقط خائرة القوى.. بدت أولى النتائج عالمياً بتهاوي أسعار النفط السريع، نتيجة مباشرة لعملية القفاز النظيف، والمراقبة عن بعد التي يعتمدها أوباما.
الاستحقاق الحالي المنشود في ظل تصدر روسي المشهد، وتواطؤ أميركي يكمن بجر المعارضة (الحقيقية هذه المرة) إلى جنيف، بالشروط الروسية، للبدء بتنفيذ ما قرره مجلس الأمن.
لا تبدو روسيا متعجلة، وكيري أيضاً غير مستعجل، لأن البطء يدخل ضمن عوامل الاستنزاف الروسي الذي يجري العمل عليه، لاقتناص الدب، وتبدو عمليات التسمية والاختلاف على الأسماء جزئية، وغير مهمة، لأن الروس عملياً يتربعون على القاعدة التي يرغبون بالانطلاق منها لتنفيذ البند الثاني، معتمدين صدور نتائج أولية في مصلحتهم، لن تؤدي، بأي شكل، إلى زحزحة مكانتهم الجديدة خطوة واحدة.
لدى الروس وفد كامل، لديه المقدرة على شد الانتباه نحو اتجاهات أخرى للحوار، مثل مكافحة الإرهاب التي يجد الغرب فيها جاذبية، ومن ثم ترك تصنيف الإرهاب عائماً ليشمل كل من يشمل ويبقي النظام على مبعدة من هذه الوصمة.
ورث الروس الملف السوري عن الاتحاد السوفييتي، وشاهدوا بأم العين انكماش مناطق نفوذ السوفييت، فكانت الحرب السورية فرصة مناسبة للدخول المباشر في لعبة الأمم، وتقديم النفس بصورة قطب عالمي، يقف في وجه المد الإرهابي. وفي الوقت نفسه، يقدم الدعم لحليف موثوق، ليحميه من السقوط، وتواطأت أميركا على ذلك في أثناء تفرغ رئيسها أوباما نحو تحقيق أرقام قياسية على الصعيد الداخلي، وتخليه عن التدخلات المباشرة ما أمكن، وترك المنطقة لتفاعلاتها السياسية والعسكرية الداخلية، طالما كانت لا تهدد المواطن الأميركي بشكل مباشر، متكئاً على حقيقة أن الروس لن يحققوا انتصاراً أكيداً، في ظل عدم قبول إقليمي واسع، ووهن اقتصادي لا يساعد على التوسع العسكري بشكل أكبر. ولكن، ما يمكن أن يحصل هو تآكل المنطقة إلى قطع جغرافية وديمغرافية أصغر، وهو الأمر الذي لا تأبه به أميركا، بل قد تساعد عليه، وسيطمئن الروس، والحالة هذه، أنهم قد وضعوا أرجلهم في المنطقة بشكل أعمق، وربما أكثر رسوخاً.
تستثمر روسيا في حالة “قلة الحيلة” الراهنة، وتلعب بالورقة نفسها، منذ اليوم الأول. ويمكن القول إن ما نشاهده حالياً لا يعني نجاحاً روسياً، بقدر ما هو تورط كامل، وقد نجد مستقبلاً أن أوباما على حق في فكرة أن الموارد تتآكل بسرعة، وأن فم النار المفتوح يحرق كل ما يلقى فيه، لكننا، بعد حلول الكارثة، لن نهنئ أوباما على نفاذ نظرته الاستراتيجية، لأنه سيكون قد غادر البيت الأبيض لصالح رئيسٍ، ربما، يكون من حزب جمهوري يحمل، على الأغلب، تفكيراً مخالفاً.
فاطمة ياسين
صحيفة العربي الجديد