شكلت عودة آية الله الخميني في الأول من فبراير 1979 إلى إيران من منفاه في فرنسا نقطة فارقة في المسار السياسي للدولة الإيرانية، التي كانت تمرّ بإحدى أصعب فتراتها وأكثرها دموية واحتجاجا؛ حينها “صدّق الكل أن الخميني سيجعل من إيران جنّة الله على الأرض”، على حد وصف باهمان نيروماند، الخبير في الشؤون الإيرانية.
وكانت الأرضية قد تهيّأت لاستقبال الخميني، قبل ذلك التاريخ بسنوات قليلة، حيث كان الإيرانيون قد وصلوا إلى قمّة الغضب من ممارسات الشاه رضا بهولي وارتفاع نسبة الفقر وتنامي الفساد وكثرة الانتهاكات السياسية والاجتماعية، وضاقت الأمهات ذرعا باعتقال أبنائهن. وسط تلك الأجواء، وجدت تيارات المعارضة داخل إيران، بمختلف توجّهاتها وأيديولوجيّاتها، في بيانات الخميني الصادرة من باريس، تقاربا مع دعواتها وأفكارها، ورأت فيه داعما قوّيا خاصة وأن أنصاره داخل إيران كانوا بالملايين، وكانت تعتقد أنه يمكن استغلاله، وأنه رجل مرحلة وسينتهي بمجرّد سقوط الشاه.
ونجح الخميني بالفعل في كسب ثقة المعارضة بعد تجنّب، في تلك الفترة، الخوض في مسائل حساسة ومحلّ خلاف، على غرار ولاية الفقيه والجمهورية الإسلامية، لكنّ لم يدم ذلك طويلا، فسرعان ما اكتشفت المعارضة من الليبراليين واليساريين، حقيقة ما يبطنه الخميني الذي اختار بمهارة التوقيت المناسب لإزالة كل حلفائه قبل أعدائه، وكل من رآه يشكّل عقبة أمامه وأمام تطبيق نظام ولاية الفقيه في جمهورية إيران الإسلامية.
خالف آية الله الخميني وأنصاره ما عاهدوا عليه شركاءهم وحلفاءهم في النضال من اليساريين واللبراليين ضد حكم الشاه، ليبدأ تعزيز سلطته بقمع وتطهير زعماء أطياف المعارضة اليسارية الإيرانية للسلطة الدينية، ومن أوائل شهر مارس 1979 استشعر هؤلاء خيبات الأمل، عندما أعلن الخميني “لا تستخدموا هذا المصطلح الديمقراطية، إنها مفهوم غربي”، وفي منتصف أغسطس تمّ إغلاق العشرات من الصحف والمجلات المعارضة لفكرة الحكومة الإسلامية الخمينية.
منذ السنة الأولى للثورة بدأت التصفيات السياسية وظهرت ملامح الدكتاتورية الدينية في إيران، وأيقن الإيرانيون أنهم تخلّصوا من سطوة الشاه ليقعوا في سطوة الخميني، التي بقيت حيّة حتى بعد أن توفيّ في يونيو 1989، من خلال مبادئه التي يحكم بها اليوم خليفته المرشد الأعلى علي خامنئي ورجال الدين والمحافظون الذين باتوا يحكمون قبضتهم على مختلف مفاصل الدولة، وأي محاولة للانتفاضة من جديد تواجه بالقمع المشدّد. وكانت أشهر محاولة اعتراض شعبي على حكم الولي الفقيه الثورة الخضراء التي حدثت سنة 2009، حين خرج عدد كبير من الإيرانيين محتجا ضد النظام الإسلامي الحاكم ومتهما الحكومة بتزوير نتائج الانتخابات الرئاسية التي جرت في يونيو 2009 وأدت إلى فوز أحمدي نجاد، المقرّب من المرشد الأعلى علي خامنئي.
انتخابات مختلفة
يستحضر الإيرانيون هذه الأحداث اليوم أكثر من أي وقت مضى، وهم على عتبة إجراء عمليتي انتخاب مهمتين واحدة لمجلس الخبراء والثانية لانتخاب نواب البرلمان. وهذه الانتخابات، تأتي في مرحلة مختلفة عن سابقاتها، باعتبار أنها أول انتخابات تعقد في إيران ما بعد الانفتاح على الغرب وتوقيع الاتفاق النووي ورفع العقوبات عنها، وأيضا تأتي هذه الانتخابات وسط أنباء تروج حول صحّة المرشد الأعلى علي خامنئي، وأن طهران قد تكون بصدد تحضير البلاد والعالم للانتقال لمرشد أعلى ثالث.
وفي خضم التحضيرات للانتخابات المزمع إجراؤها يوم 26 فبراير الحالي، سيتم اليوم الإعلان عن القائمة النهائية للمرشّحين، بعد أن خضعت ملفّاتهم للمراجعة الدقيقة من قبل مجلس صيانة الدستور، والمعروف عنه أنه يقف في صالح المحافظين. وفي الوقت الذي تركّز فيه أعين الأغلبية على الـ290 مقعدا في مجلس الشورى، يجري، في الطرف المقابل، شن معركة أخرى أكثر أهمية، وهي معركة على الـ88 مقعدا في مجلس الخبراء.
ومجلس الخبراء هيئة دستورية من أبرز صلاحياتها تعيين المرشد الأعلى ومراقبة أدائه، وانتخابات هذا المجلس ستكون لها عواقب أكثر أهمية على الطريق، حيث تمتد فترة الجمعية لمدة 8 سنوات، ومن المرجح أن يصبح خامنئي، وفق حالته الصحية، عاجزا، وربما يفارق الحياة، قبل نهاية هذه المدة.
أما مجلس الشورى فهو ممثل السلطة التشريعية في الجمهورية الإسلامية، ويتنافس على مقاعده 290 نائبا في مجلس الشورى الإسلامي، ويسيطر المحافظون على أغلب مقاعده منذ سنوات. ويتوقع تقرير لمجموعة الشرق الاستشارية، في واشنطن، أن يجري التقليص في نسبة الفصائل الإصلاحية والوسطية بشكل فعال إلى ما دون الأغلبية، على الرغم من الدعم الشعبي الكبير للاتفاق النووي مع مجموعة دول 5+1 والانفتاح على الغرب. وكان مجلس صيانة الدستور أعاد، في 9 فبراير الماضي، نتيجة ضغوط متزايدة من الرئيس روحاني وغيره من الجماعات الإصلاحية والمعتدلة، 1400 مرشح لمجلس الشورى الإسلامي، الذين تمّ رفضهم في البداية.
لكن، وفي محاولة للالتفاف على هذا الواقع، خاصة وأن إيران باتت مطالبة بتقديم ما يفند سجلها الحافل في انتهاك حقوق الإنسان، نقل التقرير الأميركي عن مصادر وصفها بالمطلعة على السياسة الانتخابية الداخلية في إيران أن المحافظين يرون أن استبعاد بعض المرشحين وتجميع الأصوات في بعض المناطق سوف يضمنان تحقيق الأغلبية لأنصارهم. فالحرس الثوري الإيراني وقوات الباسيج التابعة له، سيضمنان أكثر من مليون ناخب سيصوّت للقوائم المحافظة. ومع حساب أفراد أسر الحرس الثوري وقوات التعبئة الشعبية، فإنَّ عدد الناخبين المؤهلين من هذه الكتلة يقترب من 3 ملايين صوت.
بالنسبة إلى انتخابات مجلس الخبراء، فإن هناك ثلاثة مرشحين يخوضون الانتخابات ويحددون خطوط المعركة هناك. أولهم الرئيس السابق علي أكبر رفسنجاني، الذي رشّح نفسه مجددا لشغل منصب في مجلس الخبراء ومن الممكن جدا أن يبرز كرئيس لهذه الهيئة القوية. والرجل الثاني الرئيس حسن روحاني، والثالث وهو أبرز المرشحين حسن الخميني، حفيد مؤسس الجمهورية الإسلامية وهو يمتلك شعبية في صفوف الإصلاحيين، وقد كان محلّ جدل في الأيام الماضية بعد رفض مجلس صيانة الدستور ترشيحه ثم عاد وقبله إثر حملة شنها رفسنجاني لدعمه.
وفي خطاب شديد اللهجة ضد المرشد الأعلى خامنئي، احتج رفسنجاني وتحدى مجلس صيانة الدستور بأن يستمروا في قرارهم بإخراج الخميني من عملية الاقتراع، فيما استنكر خامنئي خطاب رفسنجاني، ورغم أنه لم يذكر رفسنجاني بالاسم، لكنه هاجم الذين طعنوا في شرعية مجلس صيانة الدستور ووصفهم بأنهم مناهضون للثورة.
روحاني حليف الطرف الأقوى
أدى انتخاب الرئيس المحافظ البراغماتي حسن روحاني في يونيو 2013 إلى برنامج إصلاح اجتماعي وسياسي واقتصادي يتعرض حاليا لمقاومة شديدة من الأجنحة اليمينية المتشددة داخل المؤسسات الدينية والأمنية. وقد دخل روحاني أيضا في نقاشات عديدة نيابة عن المرشحين الإصلاحيين في مجلس الشورى الإسلامي ومجلس الخبراء، لكن في سلسلة من الجلسات المغلقة مع خامنئي. ودعا الرئيس الذي ينظر له الغرب على أنه حليف رئيسي، إلى التمثيل الكامل لجميع الفصائل في الانتخابات، وحذر من أن ما يصل إلى 10 ملايين من الإيرانيين، بما فيهم أغلبية من الشباب، يمكن أن يحرموا من فرصة انتخاب المرشحين المعبرين عنهم، مشيرا بوضوح إلى الشرائح المؤيدة للإصلاحيين من السكان.
وتشير مجموعة الشرق الاستشارية إلى أن الخطوط العريضة لمعركة انتخابات 26 فبراير رسمت بشكل واضح، لكن مع ذلك لا يزال هناك غموض يحيط لا بنتائجها، التي من المتوقّع أن تكون لصالح المتشدّدين على الرغم من التأييد الساحق للمرشّحين الإصلاحيين والمعتدلين، ولكن بالآثار الجانبية لهذه النتائج.
ويستحضر المراقبون أحداث الثورة الخضراء التي أعقبت رفض الاعتراف بنتائج فوز أحمدي نجاد بالانتخابات الرئاسية والتي أفضت إلى اعتقال أبرز رموز المعارضة الذين من بينهم مهدي كروبي ومير حسين موسوي (ينتميان للتيار الإصلاحي). ويخضع كروبي وحسين موسوي، للإقامة الجبرية منذ 5 سنوات، بعد اتهامهما، بـ”دعم المظاهرات” التي خرجت عقب الانتخابات عام 2009.
لا شكّ في أن الأيام القادمة ستكون على درجة عالية من الأهمية بالنسبة لإيران، وأيضا بالنسبة إلى المنطقة والعالم. فإذا نجح المحافظون، مرّة أخرى، في الفوز في الانتخابات، مقابل إخراس صوت الشارع المعارض، فإن الرئيس الإيراني حسن روحاني يحرص على إيجاد علاقة إيجابية مع المرشد الأعلى من أجل ضمان إعادة انتخابه، وسوف تواصل إيران سياساتها المؤذية لنفسها ولجيرانها وللعالم.
صحيفة العرب اللندنية