تزايدت التحذيرات في الفترة الأخيرة من احتمالات انهيار سد الموصل في العراق، والمخاطر الجسيمة المترتبة على ذلك، وكان آخرها تقييم أصدرته كتيبة المهندسين في الجيش الأمريكي وورد في تقرير أصدره البرلمان العراقي يوم 9 فبراير الجاري، وأفاد بأن سد الموصل يواجه تهديداً بالانهيار بشكل أكبر بكثير مما كان يُعتقد أصلاً، وهو ما يمكن أن يدمر مناطق تقع جنوبه.
ولعل الأخطار التي يشكلها احتمال انهيار السد ليست جديدة، بل هي معروفة على المستويين الرسمي والعلمي حتى قبل إنشاء السد مطلع الثمانينيات، واكتماله عام 1984 في عهد الرئيس الأسبق صدام حسين. فقد حذرت دراسة جدوى من بناء السد بسبب عدم ملاءمة طبيعة الأرض في المنطقة لمثل هذا المشروع، وتوقف إنشاؤه حينها عملاً بتوصيات تلك الدراسة.
ومع ذلك، فإن المهندسين العراقيين قد قرروا المُضي في بناء السد بعد أن اطمأنوا، على ما يبدو، إلى أن مشكلة الانهيار قابلة للعلاج عبر تشكيل فريق صيانة متخصص يعمل على مدار الساعة لمراقبة السد وحشو الفجوات والفراغات التي تنشأ بالأسمنت فور حصولها من أجل المحافظة على تماسك السد ومنع انهياره الذي سيخلِّف خسائر بشرية ومادية وخيمة في مدينة الموصل، ويهدد سكانها بالغرق أو التشرد.
وفي عام 2003، حذر خبراء أمريكيون من خطر انهيار سد الموصل، ونتيجة لهذا الخطر الذي استشعره الأمريكيون، أقدم الجيش الأمريكي على نقل قواته بعيداً عن السد بكلفة قُدِّرت بملايين الدولارات. وفي عام 2006 أعاد تقرير عسكري أمريكي التحذير من انهيار السد، ووصفه بأنه “أخطر سد في العالم”، وهو الرأي نفسه الذي تبناه المفتش العام الأمريكي في تقريره نهاية أكتوبر 2007 عندما أكد أن سد الموصل يمكن أن ينهار في أي لحظة.
سد الموصل.. أخطاره تفوق فوائده
يعتبر سد الموصل رابع أكبر سد في الشرق الأوسط، وثمة عدة أهداف من بناء السد، الذي تبلغ طاقته التخزينية 11 مليار متر مكعب، أولها تخزين المياه الزائدة في بعض الفصول واستخدامها عند الحاجة، وثانيها حماية المناطق الواقعة جنوب الموصل من فيضان نهر دجلة الذي كان يفيض باستمرار في فصل الربيع ويترك دماراً وأضراراً كبيرة على المزارع والأهالي والمدن القريبة، وكان الفيضان يستدعي تدخل الفرق الهندسية المتخصصة في الجيش العراقي لصد المياه وحماية المدن والمجمعات السكانية من الغرق. وبالإضافة إلى الهدفين أعلاه، فقد استُخدِم السد لتوليد الطاقة الكهرومائية لسد حاجة المنطقة منها.
لكن تناقص مياه نهر دجلة الداخلة إلى العراق، بسبب تزايد الاستخدام في تركيا، وتحويل إيران مجاري روافد الأنهار الآتية من أراضيها، وبالتحديد نهر ديالى الذي يغذيه نهر الوند، واستغلالها داخل الأراضي الإيرانية، قد أدى إلى تناقص المياه ومعها خطر الفيضان. ومن المتوقع تناقص مناسيب مياه دجلة بشكل خطير عند اكتمال سد أليسو في تركيا الذي تأخر إنجازه بسبب نقص التمويل الدولي إثر تزايد الاحتجاجات على إنشائه بسبب الأضرار التي سيلحقها ببلدة “حسن كيف” التاريخية ومدن وقرى كردية أخرى.
ومع تقلص الاهتمام بقطاع الزراعة بسبب اعتماد الاقتصاد العراقي على إيرادات النفط، أصبح أهم سبب لبقاء سد الموصل هو توليد الطاقة الكهرومائية، ولكن حتى هذه الفائدة تراجعت كثيراً في الآونة الأخيرة، ما يعني أن بقاء السد لم يعد بالأهمية التي كان يمثلها سابقاً، خصوصاً مع حجم الأخطار التي ترافق بقاءه، وبالتالي يمكن القول إن أخطار سد الموصل تفوق كثيراً فوائده.
ماذا يحدث لو انهار سد الموصل؟
تمكن الفريق الهندسي العراقي من المحافظة على تماسك سد الموصل حتى الآن عبر أعمال الصيانة المستمرة وملء الفراغات والتجاويف الناشئة بالسرعة المطلوبة. وحسب الخبراء، فإنه كان بالإمكان أن يستمر هذا الوضع دون خطر داهم على المدينة وسكانها لو كانت الظروف طبيعية، إلا أن سيطرة تنظيم (داعش) الإرهابي على المدينة في العاشر من يونيو 2014، واستمرار سيطرته حتى الآن – على الرغم من أنه فقد السيطرة على منطقة سد الموصل بعد عدة أسابيع من استيلائه عليها – قد أثار الشكوك عند كثيرين باحتمال انهيار السد، أو تمكُن التنظيم من تخريبه عندما يشعر بالهزيمة.
وقد تزايد هذا الخطر مع قرب وقوع المواجهة بين مسلحي “داعش” والقوات العراقية التي يدعمها التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة. وأعادت هذه المواجهة الحتمية الاهتمام الشعبي والرسمي والدولي بأخطار انهيار سد الموصل، إما بسبب نقص الصيانة أو التأثر بالعمليات الحربية أو ربما يعمد تنظيم “داعش” إلى مهاجمة السد وإغراق مدينة الموصل بسكانها، وهذا هو المأزق الحقيقي حالياً.
وليس سراً أن المواجهة مع تنظيم (داعش) قد تقع خلال الأسابيع والأشهر المقبلة قبل حلول الصيف، أي مع موسم ذوبان الثلوج في منابع نهر دجلة وتزايد مناسيب المياه المتدفقة إلى النهر وامتلاء خزان السد بالكامل، ما يجعل خطر انهياره محتملاً ومدمراً.
وثمة تحذيرات من أن انهيار سد الموصل، سواء بسبب الإهمال أو نقص أعمال الصيانة أو التخريب المتعمد، سوف يطلق المياه المخزونة فيه، والتي تقترب في موسم الربيع من السعة التخزينية الكاملة البالغة ١١ مليار متر مكعب، وهذه المياه ستغمر معظم أجزاء مدينة الموصل خلال ساعات، بل هناك من يعتقد أنها قد تؤثر حتى على بغداد إذا ما حدث الانهيار في فصل الربيع. وعلى الرغم من أن خطر هطول المزيد من الأمطار قد تناقص مع قرب انتهاء فصل الشتاء، فإن مناسيب المياه في نهر دجلة تزداد في العادة خلال فصلي الشتاء، بسبب هطول الأمطار، والربيع، بسبب ذوبان الثلوج.
ويكمن خطر انهيار سد الموصل من طبيعة الأرض التي أُنشئ عليها، وهي تربة جبسية هشة مكونة من الحجر الجيري القابل للذوبان في الماء. وبسبب هذه الهشاشة فإنه لا يمكن إنشاء دعامات أسمنتية لإسناد السد على هذا النوع من التربة.
وليس أدل على حجم الكارثة المنتظرة في حال انهيار سد الموصل، مما ذكره أوباما في رسالة إلى الكونجرس عندما قام التحالف الدولي بقصف (داعش) في الموصل بعد سيطرة التنظيم على السد، حيث قال الرئيس الأمريكي: “سقوط السد يمكنه أن يهدد حياة عدد كبير من المدنيين، ويضع موضع الخطر الموظفين الأمريكيين ومنشآتنا، بما فيها سفارتنا في بغداد، كما أنه سيمنع الحكومة العراقية من توفير خدمات أساسية وذات حساسية للسكان العراقيين”.
تكلفة عالية لتقليل مخاطر السد
بقاء السد على وضعه الحالي ليس حلاً، بسبب الأخطار التي يمثلها وبسبب الكلفة العالية لحشو الفجوات والفراغات بالأسمنت والبنتونايت. وحسب الخبير المائي، الدكتور حسن الجنابي، فإن السد يحتاج إلى أكثر من عشرين ألف طن سنوياً من الأسمنت، وإلى كميات غير محددة من البنتونايت، ومن أجل أن يتقلص خطر انهياره فإنه يجب أن يبقى دائماً دون السعة التشغيلية الكاملة، التي تتحقق عند منسوب 330 متراً فوق سطح البحر، بأحد عشر متراً، لتتدنى إلى ٣١٩ مترا فوق سطح البحر، وهذا الانخفاض يقلص من وظائف السد الإروائية وقدرته على توليد الطاقة الكهرومائية. كما أن إنشاء سد آخر في منطقة “بادوش” شمال الموصل سيصبح ضرورياً من أجل تقليل مخاطر غرق مدينة الموصل عند انهيار السد، لكن حتى مشروع بناء سد “بادوش” سيكون مغامرة في ظل التهديدات الإرهابية وكلفة إنجازه العالية.
ووفقاً للتقديرات، فإنه بالإمكان تقليل خطر انهيار سد الموصل ببناء جدار أسمنتي قاطع تحته لمنع تسرب المياه، لكن كُلفة بناء مثل هذا الجدار باهظة وتُقدر بملياري دولار، ناهيك عن أن بناءه سيستغرق أكثر من سنتين ويتطلب إفراغ السد من خزينه المائي الذي سيؤثر بدوره على إنتاج الطاقة الكهرومائية والمشاريع الإروائية في المنطقة.
بالإضافة إلى ذلك، فإن ثمة حاجة لأن تضطلع بإنجاز هذا المشروع العملاق شركة عالمية متمرسة لأن إنجازه يفوق القدرات الهندسية العراقية. ومن المستبعد أن تقتنع الشركات العالمية بالعمل في منطقة الموصل في ظل الأخطار الأمنية الحالية، إلا إذا تنامى الإدراك العالمي بالخطر المحدق بحياة مليوني إنسان في مدينة الموصل وتضافرت الجهود الدولية لإزالة هذا الخطر على وجه السرعة.
لقد قامت الحكومة العراقية أخيراً بإحالة صيانة سد الموصل إلى شركة إيطالية متخصصة، هي شركة تريفي، بينما أعلن وزير المالية هوشيار زيباري أن الحكومة خصصت مائتي مليون دولار لمعالجة أخطار سد الموصل. وليس معروفاً إن كان هذا المبلغ كافياً لإنجاز المطلوب، أو كيف سيُنفق المبلغ وهل سيخصص لاستمرار أعمال الصيانة أم لتمويل طريقة جديدة لدرء مخاطر الفيضان عند انهيار السد؟
فإذا كان المقصود هو بناء الجدار القاطع، فإن مائتي مليون دولار تساوي 10% فقط من كلفته الكلية التي لا تبرر إبقاء السد، لأن الجدار القاطع لن يلغي الخطر كاملاً، خصوصاً أن هشاشة الأرض في تلك المنطقة قد لا تسمح بإقامة بناء راسخ قوي لفترة طويلة، ما يعني أن الخطر سيبقى قائماً لكنه سيتقلص ويصبح بعيد الاحتمال. أما كلفة بناء الجدار فيمكن استخدامها لتطوير المنطقة وبناء محطات أمينة لتوليد الطاقة ومشاريع إروائية عملية لتعويض السكان عن منافع السد التي سيفقدونها عند إلغائه.
إلغاء السد هو الحل؟!
يبدو أنه لا يوجد هناك حل عملي واقتصادي لمشكلة سد الموصل سوى إلغائه كلياً، وهذا الحل هو الآخر لا يأتي من دون تكاليف لأنه سيؤثر على حياة ملايين الناس الذين يقطنون في حوض دجلة، خصوصاً الفلاحين والمزارعين وأصحاب الماشية، بل وحتى سكان المدن، ويُحدِث نقصاً كبيراً في الطاقة الكهربائية التي يوفرها السد حالياً.
غير أن إلغاء السد سيحقق هدفاً واحداً في غاية الأهمية ألا وهو إزالة شبح الغرق عن مدينة الموصل وضواحيها واحتمال موت وتشرد ما لا يقل عن مليوني إنسان. لكن عملية إلغاء السد هي الأخرى تحتاج إلى استعدادات خصوصاً في الوقت الحاضر، حيث يمتلئ بالمياه، بالإضافة إلى أنها تستغرق وقتاً وتحتاج إلى قنوات لتصريف المياه المخزونة بشكل انسيابي كي لا تُحدِث فيضاناً وأضراراً إن أُطلِقَت خلال فترة قصيرة.
نعم هناك أضرار تلحق بالعراق، والموصل والمناطق المحيطة به تحديداً، من جراء إلغاء السد، لكن حفظ حياة ملايين العراقيين وتجنُّب حدوث كارثة إنسانية على مستوى خطير، يتطلب التضحية بالمنافع الأخرى التي يمكن تعويضها بطرق أخرى، وحسب القاعدة الفقهية فإن درء المفاسد أولى من تحقيق المنافع.
مُجمل القول، إذا كان سد الموصل يشكل خطراً في فترات سابقة عندما كانت الحكومة العراقية مسؤولة مباشرة عنه والقوات الأمريكية تعسكر بالقرب منه وتدرك خطره، فما بالك به اليوم في ظل الإهمال وشح الأموال وسيطرة الجماعات الإرهابية على الموصل، والتي لن تتردد في تهديد العراق ودول العالم بالتلويح بتخريبه وإحداث كارثة إنسانية بمقاييس لا يستطيع أحد أن يتنبأ بها.
ومن الواضح أن إيجاد حل ناجع وعاجل لمنع انهيار سد الموصل يفوق إمكانيات العراق المالية أو الهندسية، لذا يجب أن تعلن الحكومة العراقية عن عجزها عن إيجاد حل للمشكلة كي تُلقي بمسؤولية إنقاذ الموصل وسكانها على المجتمع الدولي. ويتعين على العراق الآن أن يُعلن الموصل منطقة كوارث، وأن يطلب من مجلس الأمن الدولي إيجاد حل عاجل لهذه الكارثة المحتملة، وفي خلاف ذلك فإن المحذور قد يقع في أي لحظة، خصوصاً مع قرب المواجهة بين الجيش العراقي وتنظيم (داعش).
وعلى الرغم من تجدد الاهتمام بأخطار سد الموصل وتحوله إلى هلع حقيقي في العراق، لكن الهلع وحده لن يحل المشكلة، إذ إن هناك الآن مسؤولية كبرى تقع على عاتق الحكومة العراقية والمجتمع الدولي بأكمله لإنقاذ حياة مليوني إنسان مهددين بالغرق والتشرد عند انهيار سد الموصل.
حميد الكفائي
مركز المستقبل للابحاث والدراسات المتقدمة