لا نستطيع أن نراهن على الاستقرار في مصر ما لم نضع حدا للظلم، وبغير ذلك لن تكون للإرهاب نهاية.
(١)
هذه قصة صغيرة تثير القصة الكبيرة والخطرة المسكوت عنها، فقد نشرت الناشطة الشابة المصرية منى سيف رسالة على صفحتها على فيسبوك وجهتها إلى الأجانب بعد اكتشاف جثة الباحث الإيطالي ريجيني، حذرتهم فيها من القدوم إلى مصر لأي سبب، فذكرت أن مناخها بات موبوء، والموت والرعب ينتظر كل أجنبي، وأن السلطات المصرية عاجزة عن حماية الأجانب، بعدما أصبح الأجنبي معرضا للاتهام بأنه جاسوس، فضلا عن أنه بات بوسع كل شرطي أن يحتجز أو يعذب أي عابر سبيل في الطريق لأي سبب.. إلخ.
بعدما ظهرت الرسالة على صفحتها على موقع فيسبوك انتقدها كثيرون، وكان أبرزهم الكاتب القدير والمناضل اليساري المخضرم الأستاذ صلاح عيسى. إذ نشر تعليقا عن دعوتها استهله بالعبارة التالية: لا أعرف على وجه التحديد طبيعة المشاعر التي دفعت منى سيف إلى كتابة الرسالة. مضيفا أنها لو وجهت ضد نظام الحكم الحالي أو ضد الشرطة والقوات المسلحة لا يمكن اعتبارها ــ مع كثير من التسامح ــ مجرد وجهة نظر سياسية خاطئة ومضرة، تتصادم مع وجهة نظر أغلبية المصريين الذين يساندون النظام، ولكن الرسالة في جوهرها تتوجه ضد الشعب المصري. إذ هي بدعوتها السياح الأجانب لعدم زيارة مصر تسعى إلى زيادة الصعوبات الاقتصادية والمعيشية التي يعانيها المصريون منذ سنوات، كما أنها تتبنى وجهة نظر فوضوية يتوهم أصحابها أن الوسيلة الوحيدة لدفع الشعب المصري ليتخلى عن مساندة نظام الحكم الحالي هي تجويعه وتصعيب الحياة اليومي عليه.
وختم الأستاذ صلاح تعقيبه قائلا إن منى سيف وأمثالها من الفوضويين يتوهمون أنهم ثوريون، وأنهم يدافعون عن حقوق الإنسان وعن الديمقراطية، وأنهم يحاربون ما يسمونه سلطة الانقلاب في حين أنهم لا يحاربون إلا الشعب المصري.
(٢)
اتفق مع الأستاذ صلاح عيسى في موقفه، وأعارضه في الحجج التي أوردها. بما يعني أن الإدانة في محلها إلا أن المنطوق معيب والحيثيات مشوبة بالتغليط، ذلك أنني معه في أن دعوة الأجانب لعدم القدوم إلى مصر أيا كان الموقف من نظامها خطأ جسيم.
مع ذلك فقد استغربت قوله إنه لا يعرف طبيعة المشاعر التي دفعتها إلى كتابة ذلك الكلام، إذ توقعت أن يكون هو من أكثر الناس معرفة بظروفها وطبيعة مشاعرها، فهي ابنة أسرة عانت طويلا من الظلم والاضطهاد، بدء من الأب والشقيقة وانتهاء بشقيقها علاء الذي يعد من أشهر المساجين المصريين الذين دفعوا ثمنا باهظا لاعتراضهم على المحاكمات العسكرية ولمواقفهم السياسية، وهو ينفذ الآن حكما بسجنه خمس سنوات. إذ حين تمر الفتاة بهذه التجربة -في محيطها المباشر، ناهيك عن غير المباشر- فلا يستغرب أن تمتلئ بالنقمة والسخط، وتلك خلفية تساعدنا على تفهم موقفها الذي دفعها إلى التعبير عن نفسها بذلك الأسلوب.
عندي ثلاث ملاحظات على مضمون تعليق الكاتب القدير:
– إن ما صدر عن الأستاذة منى سيف بُولغ في حجمه أكثر من اللازم. ذلك أنني لم أسمع به إلا بعد التعليق الذي صدر عن الأستاذ صلاح عيسى، لذلك فادعاؤه بأن ما ذكرته على صفحتها الخاصة يمكن أن يؤدي إلى “تطفيش” المستثمرين والسياح وتجويع المصريين وتهديد مستقبل الشعب المصري، كلام يعطيها وزنا أكبر مما ينبغي ويحمل كلامها أكثر مما يحتمل. ذلك أنه ليس أكثر من “فشة خلق” لا تستحق أكثر من العتاب، لا التهويل الذي يمكن أن يؤدي إلى تجريمها ومحاكمتها.
– إن الأستاذ صلاح في مرافعته وسعها “حبتين” حين ذكر أن كلامها كان يمكن التسامح معه لو أنه كان ضد نظام الحكم الحالي أو أنه كان ضد الشرطة والقوات المسلحة، وذلك إفراط شديد في التفاؤل، لأن الكاتب يعلم أن ثمة شبابا كثيرين يقبعون بلا محاكمة في السجون منذ سنة أو سنتين لأنهم اتهموا بما هو دون ذلك بكثير، أحدهم صبي معتقل منذ ٧٠٠ يوم لمجرد أنه ارتدى يوما ما قميصا (تي شيرت) كتبت عليه عبارة “وطن بلا تعذيب”.
– إنني تمنيت ألا يضم الأستاذ صلاح المدافعين عن حقوق الإنسان والديمقراطية الذين يمثلون بعض آمالنا في إصلاح الأحوال ضمن الفوضويين، خصوصا أنه كان يوما ما من ضحايا غياب الديمقراطية واستمرار الانتهاكات التي عانت منها أسرة الأستاذة منى سيف.
(٣)
القضية أكبر بكثير من كونها رأي ناقم ورد عليه. ذلك أن حالة الأستاذة منى تنبهنا إلى خطورة ما يحدثه الظلم والاضطهاد في عائلات ومحيط المظلومين، فإنزال الظلم بأناس والتنكيل بهم لا يروعهم أو يصيبهم وحدهم، ولكنه يشيع درجات من السخط والغضب في أسرهم، ويجعل أبناءهم وأشقاءهم بمثابة كيانات مملوءة بالنقمة، وهو ما يحولهم إلى مشروع ألغام وقنابل موقوتة جاهزة للانفجار في أي وقت.
وإذا انتبهنا إلى أن المساجين السياسيين يقدر عددهم بأربعين ألفا، حسب التقديرات الحقوقية، فذلك يصور لنا النتائج السلبية الفادحة التي تترتب على استمرار احتجازهم وتلفيق القضايا لهم. إذ أن ذلك يحول ذويهم إلى جيش من الساخطين على كل شيء في البلد، وهؤلاء يصبحون جاهزين لممارسة العنف بمختلف درجاته، بما في ذلك العمليات الانتحارية.
مشهورة عبارة ابن خلدون التي ذكر فيها أن الظلم مؤذن بفساد العمران، إلا أن خبرة ذاكرة القهر علمتنا أن الظلم يخرب الإنسان أيضا وليس العمران وحده. وذاكرة القهر عنوان لكتاب للدكتورة بسمة عبد العزيز درست فيه باستفاضة حالات المعذبين الذين تعرضوا للتشويه النفسي والبدني.
موقف الأستاذة منى سيف يعد نموذجا مخففا للغاية لأصداء الظلم في محيط المظلومين، وهو الجانب المسكوت عليه رغم أنه يختزن مشاعر النقمة والعنف ويجهز لعوامل الانفجار، لذلك فلا بد أن يدهش المرء إزاء تعدد التجارب المعاصرة التي كان فيها الظلم أحد أهم مصادر العنف في المجتمعات العربية، بحيث ظل بطش السلطة ملهما ومعلما لشيوع العنف في تلك المجتمعات. مع ذلك فإن أحدا لم يتعلم أو يعتبر، لا من تجربة جماعة التكفير التي ظهرت في مصر خلال سبعينيات القرن الماضي، ولا من نموذج تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الذي يروع كثيرين هذه الأيام بعدما ألقيت بذوره في السجون العراقية والسورية.
استوقفني في هذا السياق تقرير بثته وكالة رويترز للأنباء (في ١٥/٢) تحدث عن محاولات داعش اختراق الواقع المصري، وقالت فيه إن الأجواء السائدة في البلاد أحدثت تدهورا في الأوضاع الأمنية، تزامن مع الفراغ الأيديولوجي الناشئ عن استمرار الصراع مع الإخوان، الأمر الذي وفر أرضا خصبة تمكن التنظيم الإرهابي من مد نشاطه إلى مصر. لم أستطع التثبت من أصل التقرير ولكنني وجدت خلاصة له نشرتها صحيفة الديار اللبنانية في ١٦/٢.
في اليوم ذاته ١٥/٢ نشرت جريدة الشروق تقريرا تحدث عن التحاق مئات من شباب الإخوان الذين لجأوا إلى تركيا بتنظيم داعش. ونسب التقرير معلومة إلى شخص يسمى محمد هرب بعد أن وضع اسمه في أحد محاضر الضبط والإحضار على ذمة قضايا التظاهر بدون ترخيص، الأمر الذي اضطره للهرب “لأن ذلك أفضل من السجن”.
إذا صحت معلومات جريدة الشروق، فلن يكون ذلك التقرير الأول من نوعه، لأن الصحف المصرية دأبت على الحفاوة بانفراط عقد الجماعة وإبراز خلافات قياداتها وتمرد شبابها، مع إشارات مستمرة إلى العلاقة المفترضة بين الإخوان وتنظيم داعش الذي أفتت قياداته في وقت سابق بتكفيرها.
هذا كله لا أستبعده، خصوصا إن بعض الباحثين الجادين الذين تطرقوا إلى حاضر الجماعة ومستقبلها توقعوا وحذروا من تحول بعض شبابها إلى داعش، إذا تمكن منهم اليأس والإحباط، أمام انسداد الأفق الذي لا يتيح لهم التعلق بأي أمل في المستقبل.
(٤)
هل هذا المصير ــ إذا تحقق ــ يخدم الاستقرار والمصلحة الوطنية؟ هل المطلوب أن نصيب الأبرياء باليأس، ونملأهم بالغضب والنقمة بحيث يصبح خيار العنف الوحيد المتاح أمامهم؟ وهل هذا النهج يسهم في مكافحة الإرهاب أم أنه يحث عليه ويوسع نطاقه؟ ــ أكرر أنني أتحدث عن الأبرياء الذين أشير إلى مظلوميتهم أكثر من مرة، وليس عندي أي دفاع أو أعذار لمن ثبت تورطهم في العنف، إذا ما تم ذلك من خلال تحقيق نزيه وليس اعتمادا على تقارير كيدية ملفقة.
يثير الدهشة أن ذلك الموضوع مسكوت عليه، رغم أنه بات ينذر بخطر لا ينبغي لمسئول عاقل أن يتجاهله. وتتضاعف الدهشة حين نفاجأ بأن الجهاز الأمني المنسوب إليه إيقاع الظلم وممارسة التعذيب دفع أخيرا باتجاه إغلاق مركز “النديم” لعلاج ضحايا التعذيب. إذ بدلا من مراجعة سياسة التعذيب وتخفيف حدة الغضب والاحتقان، فإن السياسة الأمنية أرادت للتعذيب أن يستمر على وتيرته، وألا يمكن ضحاياه من الشفاء والتعافي بما يمكنهم من التصالح مع المجتمع.
في الأجواء الراهنة الملتبسة والملبدة بالغيوم فإن دائرة التشوه اتسعت كثيرا، إذ تجاوزت الضحايا وأسرهم إلى المجتمع بأسره الذي بات يستقبل أخبار “التصفية” بعدم اكتراث مستغرب، بحيث ما عاد أحد يهتز ضميره الإنساني حين يقرأ أن عشرة أو عشرين شخصا تمت تصفيتهم بقذيفة من الجو، ولا يتساءل كيف ثبت أن هؤلاء إرهابيون ولا عن احتمال أن يكون بينهم بريء أو مستحق للسجن وليس القتل. بل حين ألغت محكمة النقض حكما بإعدام ١٥٠ شخصا، ولم تبرئهم وإنما دعت إلى إعادة محاكمتهم أمام دائرة أخرى، فإن بعض الأصوات عبرت عن الغضب والاحتجاج لأن الإعدام تأجل، في انحياز صريح إلى القتل والدم واستهجان للإنصاف والعدل.
إن الاستغراق في مواجهة التطرف والإرهاب صرف الانتباه عن إذكاء الاعتدال والدفاع عنه، رغم أن الأول استثناء عارض والثاني يمثل الأصل الذى ينبغي أن نثبته ونعض عليه بالنواجذ. ولم يخل الأمر من جوانب أخرى عبثية، بحيث صارت بعض الجهات تحارب الإرهاب بالمؤتمرات والبيانات والمقالات، في حين تركت تفاعلات المجتمع وثمار السياسات المتبعة تخصم من رصيد الاعتدال حينا بعد حين، بحيث مضت تزود التطرف والإرهاب بالغاضبين والناقمين الذين وجدوا الخلاص في التفجير والعمليات الانتحارية.
إننا لا نستطيع أن نراهن على الاستقرار والاعتدال ما لم نطو صفحة الظلم بما يحيي الأمل عند الناس ويعيد بسمة الرضى والاطمئنان إلى وجوه الضحايا وذويهم المقهورين.
فهمي هويدي