تسود قناعة الآن لدى معظم العرب، على صعيد الدول وعلى صعيد بعض الشعوب، وربما حتى وبعض الدول الأوروبية وأيضًا لدى بعض الأميركيين، أنَّ الولايات المتحدة باتت على وشك التخلي عن اعتبار أن الشرق الأوسط منطقة مصالح حيوية واستراتيجية، وأن اهتمامها الأول والرئيسي يجب أن ينتقل إنْ ليس مرة واحدة فتدريجيًا إلى الشرق الأقصى، حيث الانتعاش الاقتصادي، وحيث أعداد السكان المتزايدة، وحيث الصين الدولة الصاعدة كسهم منطلق من قوس مشدودة الوتر من الممكن أن تستحوذ على كل شيء إذا بقيت أميركا غارقة في إشكالات ومشكلات دول شرق أوسطية متناحرة تنخرط بصراعات عبثية مذهبية ودينية وعرقية، وأيضًا قبلية، يبدو أنه لا نهاية لها في المدى المنظور!
ولهذا فإن أصحاب وجهة النظر هذه يصل اعتقادهم حتى حدود اليقين المؤكد بأن هذا التوجه لا يقتصر على «الديمقراطيين» وحدهم، بل يمتد إلى «الجمهوريين» أيضًا، وعلى الولايات المتحدة بمن سيحكمها إنْ على المدى القريب أو في الفترة الأبعد. وحقيقة، إنَّ من ينظُر إلى الأمور من زاوية السياسات التي اتبعتها واشنطن تجاه قضايا الشرق الأوسط الملتهبة، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية خلال الأعوام السبعة الماضية، لا بد أن يقترب من هذا الرأي الآنف الذكر، القائل بأن اهتمام أميركا بهذه المنطقة بدأ بالانحسار التدريجي، وأنه قد ينتقل بثقله الرئيسي إلى الشرق الأقصى وإلى الجزء الجنوبي – الغربي من أفريقيا، بالإضافة إلى أميركا اللاتينية.
وحتى بالنسبة إلى الجمهوريين فإن القائلين بأن الولايات المتحدة باتت مصممة إنْ ليس على «الرحيل» عن هذه المنطقة، ونقل اهتمامها إلى أمكنة أخرى، فعلى تهميش وتخفيف وجودها في هذا الشرق الأوسط الملتهب بأكثر من أزمة طاحنة، يعتبرون أنَّ إدارة بوش الابن من خلال تسليم العراق، الذي احتله الأميركيون بـ«غزو» عام 2003، تسليم اليد إلى إيران التي باتت تحتل بلاد الرافدين احتلالاً كاملاً، سياسيًا وعسكريًا وأمنيًا واقتصاديًا، قد أعطت المؤشر الكافي والدليل المُقنع على أنَّ هذا الانكفاء الأميركي بالنسبة لهذه المنطقة الشرق أوسطية وشؤونها وشجونها هو سياسة أميركية مركزية وعامة لا تقتصر لا على الرئيس باراك أوباما وحده ولا على إدارته وسياساتها الخارجية التي لم تكن عاجزة ولا في أي يوم من الأيام كما هي الآن.. في المرحلة الحالية.
وحقيقة، إنَّ ما يعطي وجهة النظر هذه الآنفة الذكر ولو بعض الصحة وبعض المصداقية هو أن تَرْكَ الرئيس بوش الابن، من خلال موفده بول بريمر، كل المجالات لإيران، الحالمة باستعادة ما يسمى «أمجاد فارس» القديمة، لاحتلال العراق وعلى هذا النحو وبهذه الطريقة يعني أن تراجع الاهتمام بالشرق الأوسط، قياسًا بما كان عليه الوضع في عهد الاتحاد السوفياتي والحرب الباردة وصراع المعسكرات، قد يكون توجهًا أميركيًا كليًا وعامًا وليس توجه باراك أوباما وإدارته فقط، ولا توجه الحزب الديمقراطي الذي أرسل بوزيرة خارجيته السابقة هيلاري كلينتون إلى حلبة السباق للبقاء في البيت الأبيض مرة ثالثة.. وأيضًا ربما رابعة.
لقد كانت خطوة الانسحاب العسكري من العراق، العاجلة والسريعة والكيفية التي أقدم عليها باراك أوباما دون أي ترتيبات أمنية وسياسية وعسكرية تضع الأمور في هذا البلد، الذي هو بلد عربي، في أيْدي أبنائه وتخرجه من يد إيران التي هي دولة محتلة بكل معنى الاحتلال ومواصفاته؛ هي أول دلالة على عزمه على تقليص اهتمام وانشغال الولايات المتحدة بالشرق الأوسط وبقضاياه وأزماته الملتهبة، وبالتالي الانسحاب تدريجيًا، وعلى أساس خطوة بعد خطوة، وحقيقة أن هذا قد أصبح مؤكدًا وواضحًا كل الوضوح بعد إبرام صفقة القدرات النووية مع الإيرانيين التي ثبت كَمْ أنها كانت صفقة خطيرة ومؤثرة، بالنسبة للعرب تحديدًا، بعد إطلاق يد دولة الولي الفقيه في العراق وفي سوريا وإفساح المجال أمام روسيا «القيصرية» لتحتل هذا البلد العربي احتلالاً كاملاً يشبه أسوأ احتلالات القرن العشرين والقرون التي سبقته بصفقة رخيصة ستكشف الأيام المقبلة كم أنها كانت صفقة تآمرية.
عندما تتخلَّى الولايات المتحدة في أواخر عهد هذا الرئيس، الذي يصفه الأميركيون أنفسهم بأنه أضعف رئيس مرَّ على البيت الأبيض، عن تركيا العضو المؤسس في حلف شمال الأطلسي التي هي الحليف الأهم والأقدر والأقوى للغرب كله في الشرق الأوسط الذي هو المنطقة الاستراتيجية بالنسبة لهذا الغرب التي ستبقى استراتيجية إلى الأبد وتبادر للعب دور الوسيط المتخاذل والمتواطئ بينها وبين روسيا «القيصرية»؛ أفلا يعني هذا أن أميركا قد تخلت عن أصدقائها وحلفائها لمصلحة الذين من المفترض أنهم أعداؤها سابقًا ولاحقًا والآن وفي المستقبل.
ثم وعندما تطْلب الولايات المتحدة، على لسان رئيسها ولسان وزير خارجيتها، من روسيا أن «تضغط» على بشار الأسد لوقف «الأعمال العدائية» في سوريا استجابة وتطبيقًا لقرارات ميونيخ وقرار مجلس الأمن الدولي رقم «2254»، ويطلب باراك أوباما من فلاديمير بوتين «المساعدة» في حل الأزمة السورية.. ألا يعني هذا أنها، أي الولايات المتحدة، تضع نفسها على الحياد بين روسيا، وبين تركيا الدولة المُعتدى عليها والعضو المؤسس في حلف شمال الأطلسي الذي من المفترض أن أميركا لا تزال هي التي تقوده، وعلى اعتبار أنها هي القوة الرئيسية فيه.
هل يعقل يا ترى أن تقف الولايات المتحدة هذا الموقف المخزي والمتخاذل إزاء تدخل روسيا، المتحالفة مع إيران.. ومع كل هذه الشراذم المذهبية والطائفية المستوردة من دول كثيرة قريبة وبعيدة لسوريا الدولة الرئيسية في منطقة الشرق الأوسط التي كانت ولا تزال، وهي ستبقى استراتيجية إلى الأبد، لولا أنها باتت تفكر في عهد هذه الإدارة الهزيلة بالمغادرة، أو على الأقل بتخفيف وتهميش وجودها في هذه المنطقة، وهي تعرف أن الطبيعة تكره الفراغ، وأن الذي سيحل محلها هو موسكو التي يحلم فلاديمير بوتين باستعادة مكانتها العالمية في العهد القيصري وفي عهد الاتحاد السوفياتي الذي كان منافسًا فعليًا للمعسكر الغربي في كل مكان من الكرة الأرضية.
وهكذا فإن السؤال الذي سيبقى مطروحًا إلى أن تأتي الأيام المقبلة فيما تبقى من أيام من عام معركة الانتخابات الرئاسية الأميركية بالإجابة عنه هو: هل يا ترى أن الإدارة الديمقراطية المقبلة، هذا إنْ فاز الديمقراطيون بهذه الانتخابات، ستسير على خطى الإدارة الحالية؟ وهل أن الجمهوريين إن هُم فازوا سيسيرون على الطريق الذي سار عليه أسلافهم بالنسبة للشرق الأوسط وأزماته المتفجرة؟!
إن الواضح أن الولايات المتحدة لم تعد تعتبر هذه المنطقة منطقة مصالح حيوية واستراتيجية، إنْ بالنسبة إليها أو بالنسبة لغيرها، وأن الأفضل لها أن تنقل اهتمامها إلى الشرق الأقصى وإلى أميركا اللاتينية وإلى أفريقيا، ولذلك فإنها باتت تتصرف مع الأزمة السورية بكل عدم المبالاة هذه وبهذه الطريقة المثيرة لكثير من التساؤلات والأسئلة.
صالح القلاب
صحيفة الشرق الأوسط