علمنا التاريخ أنه حين يصبح الخلاف مرضا مزمنا فإنه يستدعي الحرب، وعلمتنا الدبلوماسية المعاصرة أن نعبر عن كل معنى صريح بألفاظ أقل حدة، ومن محصلة التعليمين أصبح الحديث المعاصر أو الخطاب الإعلامي الراهن يراوح في التعبير عن حتمية الحرب بمصطلحات من قبيل الخيار العسكري والتدخل العسكري، فالخيار العسكري يدل في المقام الأول على تهديد بالحرب، بينما التدخل العسكري يدل بوضوح على اضطرار إليها.
ويستتبع التدخل حديثا اصطلاحيا عن المحدودية أو ما يناقضها من شمول أو تعدد في الجبهات كما يستتبع حديثا آخر عن المدى الزمني وتوجهه مما تعبر عنه صفات (نتائجية أكثر منها عملياتية) من قبيل الحسم والحزم والردع والصمود والاستنزاف.
وفيما مضي فإنه على سبيل المثال كان تعبير (أو أسلوب) الحرب الخاطفة من أبرز إنجازات العسكرية الألمانية في الحرب العالمية الثانية، ومن أكثر إبداعاتها جاذبية، بل إنه أصبح حلما براقا حتى شهد ازدهاره وتألقه في حروب الصراع العربي الإسرائيلي على نحو ما سميت.
“أصبح النظام الأسدي يمضي في طريق تاريخي فريد في ملامحه وفي ظلاله الممتدة على جانبيه.. فهو يحافظ على رقبته الطويلة بتسليمها للأيادي الغليظة؛ وهو يحقق البقاء بالذوبان، لا في سائل معروف القدرة وإنما في حالة سائلة ليس لها وجود منصف ولا طابع مصنف”
وفى كل هذه الأحوال يحرص العسكريون المحترفون على وضوح القرار السياسي بأكثر مما يحرص الساسة على وضوح الرؤية العسكرية المنفذة لإستراتيجياتهم، وليس هذا بالمستغرب في ظل الكلفة العالية للقرارات الحربية على جميع المستويات، وهي كلفة قد لا تصل في أحسن ظروفها إلى أن تحقق عائدا اقتصاديا مباشرا، لكنها فيما هو أهم من هذا تستنقذ الحاضر الراهن بإنجازاته وطموحه كما تستنقذ المستقبل المستشرف بآماله وتصوراته.
وهنا يتجلى المعنى الفلسفي العميق المنبه إلى أن تكلفة الغياب (أو النكوص عن الحرب) تفوق بمراحل تكلفة أسوأ سيناريوهات الحضور (أو القبول بآلية التدخل العسكري).
ويمثل هذا المعنى الذي وصفناه عن حق بأنه فلسفي عميق جوهر الفارق بين الزعامة من ناحية وبين إدارة الأعمال في مستواها السياسي التقليدي الذي قد يتضاءل في استحقاقاته عن الرقي حتى إلى متطلبات وآليات مستوى الإدارة العامة.
فيما يلي زماننا هذا من أزمنة أو عصور قد يقدر للإنسانية أن تعيشها فإن نموذج الصراع الراهن في المشرق العربي هو أبلغ مثال حي على مشروعية الحرب في اليمن ضد الحوثيين وفي سوريا ضد “العلويين”، وهي حرب تجاوزت في دوافعها ومستحثاتها (ولا نقول مبرراتها) فكرة المشروعية إلى مراحل متقدمة من صراعات الهيمنة والوجود، فضلا عن استبداد الأقلية المسلحة وسلوكياتها المقصية للجموع وللمجموع ولأهل الجماعة ولجماعة الأغلبية على حد سواء.
ومن الإنصاف للقوى العربية الكبيرة أن نتأمل في طبيعة الصبر المستطيل الذي مدت حباله في تعاملها مع أقلية متسلطة في سوريا أصبحت مع مضي الزمن تتصور نفسها وكأنها خلقت من سبيكة حيوية مختلفة عن الطين الذي خلقت منه البشرية، فأصبحت بحكم وجودها في السلطة تبني وتكرس تحصينات تملك السلطة الأبدية احتكارا لها واحتقارا لغيرها بما يتنافى مع أي تطلع شعبي أو نخبوي مشروع إلى المشاركة فيها، ودعك من فكرة التداول التي هي جوهر الديمقراطية من ناحية، والتي هي من وجهة نظر بشار الأسد فكرة غير ديمقراطية تمثل رابع المستحيلات بالنسبة له ولطغمته الحاكمة.
وقد بذلت المملكة العربية السعودية كثيرا من الجهد في مرات عديدة كيما تقدم لبشار ولوالده من قبله فرصا ذهبية في تأمين وجودهم في السلطة في سوريا وفي الفضاء الشامي الذي يمتد بروحانياته وتنفسه -ضمن ما يمتد- إلى أرض لبنان، وشاطئ لبنان، وبحر لبنان.
وقد وصل الأمر في حسن نوايا السعودية تجاه العلويين منذ السبعينيات إلى حد أنها دعمت ومولت خطوات كثيرة تحفظ ماء وجه النظام السوري في لبنان على الرغم من أن النظام السوري كان لا يبالى بالإسفار عن وجه قبيح إلى أبعد الحدود، مستلهما تجارب العسكريين العرب المؤطرين بأطر تقدمية (غير حقيقية) في القمع غير المبرر والتعذيب غير المحدود والانتهاك الذي لا يتوقف لكل حق في الحياة بعد الانتهاك المطلق للحق في الحرية والكرامة.
كانت الاتفاقات التي رعتها المملكة من قبيل اتفاق الطائف المبكر بمثابة فرص (ولا نقول فرصة) ذهبية للنظام الأسدي ليعيد النظر مليا في تمفصل ومفصلة وجوده لترتبط هذه الرؤية بإنجاز تنموي بدلا من ارتباطها بطراز متخلف من تفوق عنصري.
ومن اللافت للنظر أن معطيات ومهيئات الإنجاز التنموي كانت متاحة وبازغة بأكثر بكثير من متطلبات فرض السيطرة العلوية، لكن الترتيب الشيطاني لطموحات الإنسان المتسلط كان يدفع بالنظام الأسدي في كل خطوة من مساراته إلى الارتماء في أحضان كل فكرة وكل توجه معاد لتطلعات وحقوق الأغلبية السورية.
وسرعان ما تطور هذا الخيار الشرير إلى نزعات ترحب بالعدو التقليدي (من قبيل الدب الروسي) استنزافا للصديق الفطري الذي هو أخ وشقيق كما أنه صديق.
“يقول الذين درسوا علم النفس السياسي بكل وضوح إن أقصى طموح بشار ينحصر الآن في أن يفوز بتوكيل حصري ليكون مجرد وكيل أو مندوب لقوة أعظم منه تستطيع حماية وضع سياسي هجين وشاذ. فهل يمكن لقوى إقليمية من طراز عربي أن تكون داعمة بالسلب أو السكوت لمثل هذا التصور المريض?”
وأصبح النظام الأسدي يمضي في طريق تاريخي فريد في ملامحه وفي ظلاله الممتدة على جانبيه.. فهو يحافظ على رقبته الطويلة بتسليمها للأيادي الغليظة؛ وهو يحقق البقاء بالذوبان، لا في سائل معروف القدرة وإنما في حالة سائلة ليس لها وجود منصف ولا طابع مصنف، وذلك من قبيل الوضعية الاستقطابية الناشئة من ثنائية المواقف في الخلاف حول أوكرانيا، وما استتبعته هذه الوضعية (الطارئة في بداياتها) من ثبوت حقيقة الاختلاف الروسي (بل التخلف الروسي) في العصر الأوربي، ثم ما استتبعته هذه الوضعية من حاجة سياسة روسيا إلى تيار ما تقوده لتكون بمثابة قائد دولي (ذي حلفاء أو اتباع) في عالم مائج بالمعطيات يبحث عن قادة دوليين.
بيد أن استدعاء روسيا لإنقاذ الأسد لم يقف عند هذ الحد المفهوم، وإنما تعقد ليشمل الظاهر والباطن المتناقضين، وليصوغ جدلية معهودة ومعروفة وقابلة للتكرار مع كل ديكتاتور صغير منتفخ ومتضخم: يحقق “ظاهر” الاستقلال بتكريس التبعية، ويحقق “رنين” الانتصار بقتل الأبناء، ويحقق “لذة” الاستمرار في السلطة (أو بعبارة أدق، الوجود السلطوي) بالمسارعة المحمومة في تنفيذ سياسات نفي الآخر أيا كان الآخر.
وإذا أردنا الواقع الحي فإننا نرى تبدد الوهم فيما قيل من أن مسارات التفاوض والتفاهم والاستطلاع في جنيف وفيينا وميونخ ربما تكفل تقريبا لوجهات النظر أوأساسا للوصول إلى صيغ وسطى، ذلك أن النفسية التي يدخل بها نظام بشار إلى التفاوض ليست نفسية مفاوض، وإنما هي نفسية متربص يكاد يقول لمفاوضيه: ها أنتم أمامي بإرادتي لا بتضحياتكم، ولو أنكم كنتم أحرزتم شيئا لكنت أنا الذي يبحث عنكم، لكنكم تأتونني في حصني الأوربي الذي يحميني لأنني مجرم من طراز مطلوب لهم، بينما يفخر إنسانيا بلقياكم دون أن يعبأ عمليا أو سياسيا بهذه اللقيا.
من هنا كانت طبائع الأشياء تستدعي تدخلا قويا في مواجهة الأسد، وأن تكون قوة هذا التدخل مشجعة للمتحفظين التقليديين للانضمام له والتصفيق له، تبعا لسياسة المراقبين الذين لا ينحازون إلا للأقوياء ولا يصفقون إلا للمنتصرين.
لقد فوتت قوى عربية كثيرة فرصا سنحت لها للانحياز الذكي في الوقت المناسب إلى إرادة الشعب السوري في صياغة واقع جديد يجمع بين الأفضلية والقبول، لكن ليس معنى هذا أن يستلذ العرب تفويت الفرصة على نحو متكرر مهما كانت المخاطر الناجمة عن التباطؤ في التدخل المستدعى بقوة وإلحاح.
يقول الذين درسوا علم النفس السياسي بكل وضوح إن أقصى طموح بشار ينحصر الآن في أن يفوز بتوكيل حصري ليكون مجرد وكيل أو مندوب لقوة أعظم منه تستطيع حماية وضع سياسي هجين وشاذ، فهل يمكن لقوى إقليمية من طراز عربي أن تكون داعمة بالسلب أو السكوت لمثل هذا التصور المريض الذي هو كفيل -إن تكرس- بأن يرفع من قيمة البلطجة المعاصرة لتكون سببا من أسباب الشرعية والمشروعية معا في العالم العربي؟
محمد الجوادي