في الثالث من آذار/مارس عام 1924م أصدر المجلس الوطني التركي” البرلمان” بتوجيهات مصطفى كمال”آتاتورك” رئيس جمهورية تركيا الأسبق قانوناً رقم 431، يقضي فيه إلغاء الخلافة العثمانية، تمهيداً لتطبيق منظومته الفكرية والتي كانت العلمانية إحداها. وفي ذكرى السنوية لإلغائها، نسلط الضوء بشكل موجز على سيرة مصطفى كمال “آتاورك” وعن العلمانية التي رسخها في دولة والمجتمع التركيين، ومن هو العلماني التركي من منظوره؟
مصطفى كمال “آتاتورك” مؤسس تركيا الحديثة وبطلها القومي في أعين مريديه، وعدو الإسلام ومحطم الخلافة في أعين خصومه، تمكن في سنين قليلة من البروز كقائد عسكري ثم كزعيم سياسي، ألغى الخلافة العثمانية، وأسس مكانها تركيا المعاصرة التي أصبحت كما أراد دولة علمانية غربية الطابع والقوانين والهوى.
ولد مصطفى علي رضا عام 1881 بمدينة سالونيك اليونانية التي كانت تابعة آنذاك للدولة العثمانية وكان أبوه موظفا بسيطا، انخرط في البدء في مدرسة دينية تقليدية ثم دخل مدرسة حديثة فالمدرسة العسكرية العليا في عام 1893 وهو صبي صغير، وهناك لقبه أحد مدرسيه بكمال لنبوغه الدراسي فأصبح اسمه مصطفى كمال.
تخرج برتبة نقيب في العام 1905، ثم خاض حروبا عدة ضمن الجيش العثماني في ألبانيا وطرابلس وذلك قبل أن تشارك الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى إلى جانب دول المحور حيث برز نجم الضابط مصطفى كمال كقائد عسكري من طراز رفيع ليرقى إلى رتبة جنرال في عام 1916 وهو في الـ35 من عمره فقط.
قبل تلك الأحداث بسنوات وبعد تخرجه من المدرسة العسكرية مباشرة كان مصطفى كمال قد أنشأ خلال خدمته في دمشق خلية سرية أطلق عليها الوطن والحرية ضد ما يصفه مريدوه (استبداد السلطان العثماني)، وعلى الرغم من أنه لم يعرف لهذه المنظمة نشاط سياسي يذكر مثل جمعية الاتحاد والترقي، فإن التنظيمين ينطلقان من مبدأ واحد حتى قيل إن مصطفى كمال التحق فعلا بالجمعية الأخيرة بعد انكشاف أمر منظمته للسلطات.
وبغض النظر عن المرجعية السياسية للضابط الصاعد بقوة، فإن اسم مصطفى كمال عرف في إسطنبول واشتهر بعد ما حققه مع قواته في فلسطين وحلب وإنطاكيا خلال الحرب، لكن أهمية الجنرال مصطفى كمال تعاظمت بعد هذه الأحداث حينما انتهت الحرب العالمية الأولى بهزيمة بلاده واحتلال أجزاء واسعة منها من قبل جيوش الحلفاء، حينها قدر لهذا الضابط أن يمارس دور المحرر الذي كرسه بطلا قوميا في عموم الدولة العثمانية التي كانت لاتزال تستقطب عطف كثير من المسلمين.
تزعم مصطفى كمال ما سمي بحرب الاستقلال لتحرير الأناضول المحتل، وظهرت كاريزما الرجل بصورة واضحة حينما رفض أوامر السلطان بالتخلي عن الواجب والعودة إلى إسطنبول المحتلة من البريطانيين، فاستقال من الجيش ونظم منذ مايو/أيار عام 1919 قوات التحرير التي قاتلت اليونانيين والبريطانيين والفرنسيين والإيطاليين تحت قيادته، حتى تمكن قبل نهاية صيف عام 1922 من طرد القوات المحتلة من بلاده.
أكسبت هذه الانتصارات الجنرال مصطفى كمال شهرة ملأت أفاق العالم الإسلامي الذي نظر إليه كبطل لاسيما وأنه استعان بالرموز الدينية وعلماء الدين في حشد الناس للقتال معه، وانهالت عليه برقيات التهاني من البلدان الإسلامية، وتنبه إليه الغرب وكتب عنه الإعلام هناك ما زاده شهرة وتأثيرا.
خلال معارك التحرير وتحديدا في ربيع عام 1920 أسس مصطفى كمال المجلس الوطني العظيم في أنقرة من ممثلي القوى الشعبية المشاركة في حرب التحرير ليتحول إلى حكومة موازية لسلطة الخليفة العثماني في إسطنبول، وفي عام 1921 أصدر المجلس ما سماه القانون الأساسي الذي تزامن صدوره مع إعلان النصر وتحرير الأراضي التركية في صيف عام 1922 وأعلن فيه مصطفى كمال إلغاء السلطنة.
في يوليو/تموز من عام 1923 وقعت حكومة مصطفى كمال معاهدة لوزان التي كرست قيادته لتركيا باعتراف دولي، فأعلن في 29 أكتوبر/تشرين الأول من نفس العام ولادة الجمهورية التركية وألغى الخلافة، وأعلن رئيسا وجعل أنقرة عاصمة للدولة الجديدة بدلا من إسطنبول وبدأ سلسلة إجراءات استمرت بضع سنوات، غير من خلالها وجه تركيا بالكامل.
العلمانية في أبرز معانيها هي فصل الدين عن الدولة، وحتى لا نقع في الخطأ الذي وقع فيه معظم المثقفين من إسلاميين وعلمانيين، أود أن أشير إلى أن موضوع الصراع على الهوية في تركيا ليس بين الإسلام والعلمانية بالمفهوم الغربي، بل هو بين الإسلام والتغريبية القسرية أو( العداء للإسلام)، وهذا ما عبر عنه رئيس جمهورية تركيا السابق عبد الله غول، حينما كان نائباً لرئيس حزب التنمية والعدالة، في مقالة له في صحيفة (ميليت) التركية نشرت في9 شباط/فبراير 2000م، اعتبر “الشعب التركي المسلم يريد حرية ممارسة الشعائر والعبادات ولا يريد تسييس الدين، وهو يعتبر أن النظام الأفضل في العالم هو الديمقراطية الغربية تحديداً، وليس في نظم استبدادية حتى لو رفعت شعار الإسلام” بهذا المفهوم يمكن البدء بشرح مفهوم مصطفى كمال للعلمانية، والذي من خلال تطبيقاته العملية يمكن وصفها لاحقاً.
لم يكن ظهور العلمانية في تركيا قد بدأ في عهد مصطفى كمال أتاتورك، وإنما سبقه إليه السلطان محمود الثاني، الذي تسرّبت أفكار العلمانية إلى تركيا في عهده عن طريق الطلاب الأتراك الذين درسوا في الغرب وخاصة في فرنسا.
يقول منصور عبد الحكيم في كتابه ( تركيا من الخلافة الى الحداثة – من أتاتورك الى أردوغان): “عُرفت الأفكار العلمانية في تركيا بداية باسم التغريب الذي ظهر في عهد السلطان محمود الثاني الذي تولّى الحُكم في القرن الثامن عشر الميلادي حيث قام بإنشاء جيش جديد على غرار الجيوش الأوروبية واستبدل بالقوانين الإدارية قوانين جديدة على غرار القوانين الأوروبية كما أصدر قوانين تتعلّق باللباس وأجبر الموظفين والعسكريين علي ارتداء الطربوش وحلق اللحية”.
عارض الشعب التركي هذه المظاهر الغربية الوافدة بقوة، وتصدى للمحاولات التي قام بها السلطان للاتجاه نحو الغرب العلمانية، حيث يُعدّ التغريب أولى مراحل العلمانية الداعمة لفصل الدين عن الدولة وشؤون الحياة، وأطلق الشعب حينها على السطان محمود الثاني لقب “السلطان الكافر”.
وبالرغم من أن السلطان محمود له جهود في حركة التعمير والمرافق وإعادة إعمار المساجد الشهيرة، إلا أن همه قد انصرف إلى مُحاكاة الغرب، وليته اقتصر على ذلك في الصناعات والعلوم الحديثة، لكنه قد استورد كذلك العادات التي كانت مقدمة لعلمنة البلاد، ومن ذلك أنه استحدث اللباس الأوروبي وأجبر موظفي الحكومة المدنيين والعسكريين على ارتدائه في أماكن عملهم.
وفي القرن التاسع عشر، برزت شخصيات علمانية ثائرة على الأوضاع العثمانية ترمي إلى علْمنة تركيا أمثال “نامق كمال” و”ضياء كوك ألب باش”، كما أسس الشباب المتأثر بالثقافة الفرنسية نتيجة تلقيهم التعليم فيها، جمعية الشباب العثماني عام 1865م.
قام هؤلاء الشباب والساسة بإعداد دستور جديد، ونادوا بفتح البرلمان ومنح السيادة في الحكم للشعب التركي على النحو الغربي، فشكل هؤلاء قاعدة للنظام العلماني في تركيا بعد عمل مستمر داخل وخارج تركيا في السر والعلن، وبناء أرضية للنظام السياسي الجديد. كانت هذه الحركات الشبابية هي الأرض الخصبة التي غرس فيها مصطفى كمال أتاتورك النظام العلماني بعد أن تولى حكم الدولة التركية.
مما لا شك فيه أن مصطفى كمال حاول إبان مرحلة حرب التحرير وحتى بدايات قيام الجمهورية في 29 تشرين الأول/أكتوبر عام 1923م، استغلال العاطفة الدينية عبر إظهار نفسه مؤمناً شديد الإيمان بالإسلام؛ فقد وزعت في أرجاء تركيا صور له برفقة عدد من علماء الدين وهو يتضرع بحماس مؤدياً شعائر الإسلام، وفي خطاب له في مسجد مدينة “بالي كسير”. في 7 شباط/فبراير عام 1923م قائلاً :” إن المساجد ليست لكي ينظر بعضنا إلى بعض ركوعاً وسجوداً بل هي للطاعة والعبادة، ولكي نتداول معاً في أمور الدين والدنيا، ونتشاور بيننا فيما نحتاج إليه). وفي مناسبة أخرى قال:( إن الخطبة التي تلقى من منابر الجوامع يجب أن تخاطب الروح والعقل، وبذلك تحرك المسلمين وتشغل عقولهم وتنعشهم وتشجعهم، ولا بد أن يكون الخطيب متمكناً من علوم الدين، ومثقفاً أيضا بعلوم العصر).
أما رأيه بالعلمانية فيتلخص بالآتي: ” العلمانية لا تعني عزل موضوعات الحياة عن موضوعات الدين، بل تعني إكمال حرية الضمير لمواطنينا ليس لدينا رهبنة، لأن هناك مساواة بين الجميع كل فرد في حاجة ليتعلم دينه”.
لم يكتف بهذا بل قدم في مناسبة أخرى مفهوماً رائعاً للعلمانية كان أول من تخطاه عندما قال:” العلمانية لا تعني اللاديني، بل على العكس من ذلك، إنها منحت المجال الواسع للمؤمنين بدينهم للعبادة الصحيحة وغلق المجال أمام المحتالين على الدين والسحرة، والذين ربطوا مفهوم العلمانية باللادين هم الذين يتفقون مع الأعداء بقلوبهم وضمائرهم”.
والسؤال الذي يطرح هنا، هل كان مصطفى كمال صادقاً في دعواه الإسلامية؟ وقبل أن نقدم الأدلة التي تبين زيف دعواهُ، من خلال القرارات والقوانين التي اتخذت خلال مدة حكمه(1923م-1938م)، ندع باحثاً غربياً غير مسلم يقول رأيه حول هذا الموضوع بوضوح لا لبس فيه وهو الباحث فيليب روبنس إذ يقول :” لم تكن مهمة أتاتورك أن يغرس الزهو بالهوية التركية فحسب؛ بل أن ينسف الإسلام كقوة في إطار السياسة والمجتمع في الجمهورية التركية الجديدة، وقد عمل على تحقيق هذه المهمة بعزم ونشاط، وهاجم الروح الإسلامية من ثلاثة جوانب:أولاً: أسكت المؤسسات والمنظمات التي قامت لتعزيز سيطرة الإسلام على مختلف نواحي الحياة. ولهذه الغاية أغلقت المدارس الإسلامية وألغيت الجمعيات الدينية، ثانيا: استبدل بالإشارات والرموز الشكلية للإسلام أو للطبيعة الشرقية إشارات ورموزاً ذات طبيعة مسيحية وأوروبية، فنقل عطلة نهاية الأسبوع من يوم الجمعة المقدس عند المسلمين إلى يوم الأحد المسيحي، وقضى بإحلال التقويم الغريغوري محل التقويم القمري الإسلامي، ثالثا: غير النظام القانوني التركي الإسلامي إلى النظام المدني السويسري “.
أما فيما يتعلق بالقوانين والقرارات العلمانية المتعلقة بالدين الإسلامي، يمكن القول أن مصطفى كمال اتبع أسلوباً تدريجياً في تطبيقها، وهي على النحو الآتي: ألغى الخلافة، ووزارة الشريعة والأوقاف وألغى المدارس الدينية، وحل المحاكم الإسلامية، وطرد جميع أعضاء الأسرة العثمانية من الدولة إلى الخارج بعد إزاحة السلطان عبد المجيد آخر سلطان عثماني، ثم حل منصب( شيخ الإسلام) وجميع الأجهزة المرتبطة به سواء أكانت شرعية أم قضائية وحلت المدارس الدينية، وألحقت المدارس كافة بوزارة مدنية، كما ربطت المؤسسة الوقفية بكل ملحقاتها وأبنيتها وأموالها غير منقولة إلى دائرة ترتبط مباشرة برئيس الحكومة، كما أن جميع المحاكم الدينية أغلقت وتوقف العمل بالفضاء الديني. وتبنى التعليم العلماني عام 1924، وحظر الطربوش والحجاب وأي لباس ديني، وفرض القبعة واللباس الأوروبي، وأغلق التكايا والزوايا والطرق الدينية التي كان لها دور كبير في حرب التحرير الوطنية، ومنع إنشاء الجمعيات الدينية، ووصف منشئيها والمشتركين بها بالخيانة العظمى عام 1925.
ومع بداية عام 1926، بدأت تركيا العمل بالتقويم الميلادي، المستخدم في الغرب وألغى رسمياً العمل بالتقويم الهجري الإسلامي، وتبنى القانون المدني السويسري الذي راح يعلن المساواة بين الجنسين( المساواة في الميراث، الزواج المدني، حرية اختيار الدين، وإلغاء تعدد الزوجات)، وفى نهاية ذلك العام فرض أتاتورك السفور على النساء وحظر عليهن لبس الجلباب وألزمهن ارتداء الفساتين، والا قدم أزواجهن وأقاربهن للمحاكمة. وألغى مواد الدستور المتعلقة بالدين الإسلامي عام 1928، وألغى استخدام الحروف والأرقام العربية وقرر عوضاً عنها استخدام الحروف اللاتينية وأرقامها عام 1928.
ومنذ بداية عام 1932 بدأ قراءة القرآن الكريم في عموم تركيا باللغة التركية وخصوصاً في استانبول، وفي عام 1933 أصبح الأذان للصلاة يُرفع باللغة التركية قبل عودته باللغة العربية في عهد رئيس الوزراء التركي الأسبق عدنان مندريس(1950-1960)، ومنع الحج إلى مكة المكرمة لغاية عام 1947، وطبق القانون الجنائي الإيطالي والقانون التجاري الألماني محل القوانين الإسلامية عام1933، وفي الذكرى العاشرة لتأسيس الجمهورية التركية اتضح مدى التزامه الديني! حيث جُمعت المصاحف والكتب الدينية ووضعت على ظهور الإبل ليقودها رجل يرتدي الزى العربي متجها بها نحو الجزيرة العربية وعُلقت على رقابها لافتة تقول :” جاءت من الصحراء ولتعد إلى الصحراء وجاءت من العرب فلتذهب إلى العرب” وكأن الإسلام من اختصاص الأمة العربية ومنسجماً مع مشاعرها القومية وليس مع مشاعر الأتراك القومية.
وفي عام 1934 أغلق جامع أيا صوفيا التاريخي في وجه المصلين، ليصبح مجرد متحفاً، وفي عام 1934 تم سن قانون الألقاب، وأصبح مصطفى كمال يلقب نفسه” أتاتورك: أبو الأتراك” وفي عام 1935، جرى تبديل يوم العطلة الأسبوعية من يوم الجمعة الذي له قدسية في الدين الإسلامي، إلى العمل بأسبوع عطلة نهاية الأسبوع الأوروبية، أي اعتباراً من ظهر يوم السبت إلى صباح يوم الاثنين، واستكمل أتاتورك “ثورته” عام 1937 قبل وفاته بإلغاء المادة التي تنص على أن الإسلام دين الدولة في الدستور. فبينما كانت المادة الثانية من دستور عام 1924 تؤكد أن الإسلام هو دين الدولة الرسمي، أصبح بموجب التعديل الثالث لعام 1937 المادة الثانية كالآتي: إن تركيا هي جمهورية ملية شعبية دولتيه علمانية ثورية، لغتها الرسمية التركية ومقرها أنقرة. وبذلك ألغى أثر المادة
وبذلك فإن مصطلح العلمانية دخل الدستور التركي لأول مرة عام 1937، وقراراتها وقوانينها استهدفت معالم” الهوية الإسلامية” للدولة التركية، وتغريبها، بمعنى تقليد المظاهر الغربية دون تطبيق ديمقراطية الغرب؛ إذ بينما فهمت “العلمانية” في الغرب بمعاني فصل الدين عن الدولة، وضمان الأخيرة الحرية الدينية للأفراد، وعدم تدخلها في شؤون العبادة، وتوفيرها المساواة لكل المواطنين أمام القانون، وعدم إرغام الناس على السير في نهج تراه الدولة هو الأفضل، فإن” العلمانية الكمالية” فهمت، بالإضافة إلى فصل الدين عن الدولة، بمعان معادية للدين، وشل دور علماء الدين في المجتمع، وقمعهم ومحاولة إزالة الموروث الديني الثقافي الحضاري للدولة، وإجبار الناس على السير في نهج علماني مضاد للدين رأت الدولة أنه أفضل. في حين امتزجت : العلمانية الغربية” بالأفكار الديمقراطية التي تحترم مشاعر الإنسان وآراءه، وتسمح بإيجاد أحزاب وديمقراطية مسيحية، فإن” العلمانية الكمالية” طبقت عن طريق استخدام القوة، وديكتاتورية الحزب الواحد. فالفرق واضح بينهما، فالعلمانية الغربية علمانية محايدة في حين علمانية كمال أتاتورك علمانية متطرفة معادية للدين.
وعليه، قامت فكرة العلمانية بالمفهوم الكمالي السائد في تركيا على عدد من الأفكار الأساسية التي تؤسس لأيديولوجيا من أبرز محاورها:
-
فكرة الجمهورية بديلا للنظام الملكي السلطاني والخلافة الإسلامية.
-
الفكرة القومية، أي أن يكون الرابط الأساسي بين أبناء الشعب التركي “ملية” أو وطنية وليس الدين.
-
فكرة الشعبية، بمعنى ضرب نفوذ الأرستقراطية العثمانية والملاك والإقطاعيين ورجال الدين بتصعيد الطبقات الدنيا من المجتمع في إطار المساواة بين أبناء الشعب.
-
فكرة هيمنة الدولة وتحولها إلى أداة لفرض العلمانية والتغريب والتحديث الصناعي والاقتصادي والسياسي والاجتماعي.
-
فكرة الانقلابية، أي الثورة على كل ما هو سائد من الأفكار والأوضاع والمؤسسات التي تعتبر تقليدية ومتخلفة.
-
والأهم في كل ذلك أن مفهوم العلمانية في تركيا لا يقتصر على تحييد دور الدين وفصله عن الدولة كما هو في الغرب مثلا، لكنه يمضي أبعد من ذلك بإجبار الناس على المفهوم الذي يراه لممارسات الدين في الحياة العامة بل وفي أداء العبادات.
لقد أخطأ مصطفى كمال أتاتورك حين اعتبر الإسلام عقبة في طريق التقدم والنهوض ناسيا أن الدين فطرة ومشاعر حقيقة من حقائق الحياة وهو( مركب الحضارة) الذي يمزج( الإنسان والتراب والوقت) كما يقول مالك بن نبي، أو كما قال برتراند رسل( الدين كلمة لها تاريخ طويل، وحقيقة الناس هي العقل والدين والغريزة).
أما من هو العلماني التركي من منظور كمال أتاتورك، فإن رؤيته بهذا الصدد تُختصر إجمالاً، في جملة واحد له حيث قال :” بما أننا جميعاً، والحمد لله، أتراك، وبالتالي جميعنا مسلمون، سيمكننا وعلينا أن نكون جميعاً علمانيين”. إذن الشرط الأول في العلماني أن يكون تركياً، أما الثاني أن يكون مسلماً، وبهذا الفهم، فأن مسيحيو تركيا كالأرمن ويونانيون وسريان وجيورجيون والغجر، ويهود الدونمة ويهود تركيا ليسوا علمانيين وبالتالي ليس مواطنين لأنهم ليسوا مسلمين. وهذا ما يتناقض مع مبدأ القومية، وهو المبدأ الثاني في منظومته الفكرية، التي( القومية) ترى أن الشعب التركي يشكل أمة واحدة قائمة بذاتها وذات قومية متميزة، كذلك تعني أن المواطنة التركية هي لكل مواطن تركي يعيش على الأرض التركية دون الاعتماد على الدين والعنصر. فهو هنا يقدم معنى متناقض لعلمانيته التي كانت من أكثر التجارب تطرفاً.
وقبل أن يموت مصطفى كمال عام 1938م، أعلن موقفه من الإسلام والمسلمين بشكل واضح لا لبس فيه، عندما أعلن أمام المجلس الوطني الكبير التركي”البرلمان”:”أليس من أجل الخلافة والإسلام ورجال الدين قاتل القرويون الأتراك، وقاتلوا طوال خمسة قرون؟ لقد آن الأوان أن تنظر تركيا إلى مصالحها، وتنقذ نفسها، من تزعُّم الدول الإسلامية”.
بعد أكثر من عدة عقود على تطبيق العلمانية الكمالية في تركيا يمكن القول بأنها راسخة الأركان في الدولة والمجتمع التركيين خاصة في المؤسسة الحكومية كالعسكرية والقضاء والتعليم وغير الحكومية كالإعلام، ومنذ مجيء حزب العدالة والتنمية إلى حكم تركيا في العام 2002م، عمل على ترويض العلمانية، لإعادة الشعب التركي الى جذوره العثمانية، وبالفعل عادت كثير من المظاهر الإسلامية التي رانَ عليها تراب العلمانية من جديد في تركيا.
لقد كان رئيس الجمهورية التركي رجب طيب أردوغان يُناجز العلمانيين بعلمانيتهم، ويُطالبهم بردها إلى النسق الغربي وهي العلمانية الديموقراطية لا العلمانية الديكتاتورية المستبدة، فالغرب يُقصي الدين بالأفكار وليس بالحديد والنار، والحرية الدينية مكفولة في أوربا والغرب، فلماذا استوردوا جانبا من الفكرة وتركوا البقية؟
معمر فيصل خولي
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية