ثمة حوار ساخن في نهاية مسرحية برتولت بريخت “حياة غاليليو”. يقول أندريا سارتي، التلميذ عند الفلكي: “تعيسة هي الأرض التي لا تنجب بطلاً”. وهو ما يرد عليه غاليليو بحدة: “كلا يا أندريا. تعيسة هي الأرض التي تحتاج بطلاً”.
ذكر المؤرخ الألماني مايكل فولفسون عبارة غاليليو هذه في أحد المساءات الأخرى مشيراً إلى سورية، الأرض غير السعيدة المليئة بالموتى والمحتضرين، والمحتاجة إلى أبطال لتخليص الإنسانية المتعبة. ولا تقلل قلة حيلة المقاومة من قوتها التعويضية الشافية في المجتمعات التي يستهدفها الإرهاب؛ حتى أن قلة الحيلة ربما تكون في الحقيقة من الخصائص المميزة للمقاومة البطولية.
كان عبد العزيز الحمزة، الشاب الذي يجلس إلى جانب فولفسون في المجلس الألماني للعلاقات الخارجية في برلين، هو الذي حرَّض تأملات المؤرخ. وقال فولفسون: “لم تعد لدينا اليوم ضرورة للمقاومة في ألمانيا، لأن هذا بلد حر. المقاومة هي الاستعداد لتحمل مخاطر شخصية قاتلة”.
وهذا ما فعله الحمزة. فهو من الرقة، معقل “الدولة الإسلامية”؛ المدينة التي أصبحت اليوم مرادفاً لقطع الرؤوس، وحرق الناس، واستعباد النساء وكل شكل يمكن تخيله من أشكال البربرية. وغادر الحمزة، 24 عاماً، سورية قبل سنتين، وأسس في العام 2014 منظمة للمقاومة تدعى “الرقة تُذبح بصمت”. وقتل داعش “داعش” أربعة من أفراد المنظمة.
كنتُ في بلدة سانليورفا التركية الجنوبية في تشرين الثاني (نوفمبر) للكتابة عن إحدى جرائم القتل تلك. ففي 30 تشرين الأول (أكتوبر)، قطع “داعش” رأس إبراهيم عبد القادر، 22 عاماً. وكان عبد القادر يعمل في فضح وتوثيق فظاعات “داعش” في الرقة من خلال نشر أشرطة الفيديو التي تصوِّر جرائم المجموعة على الإنترنت وباستخدام أشكال أخرى من الريبورتاج.
يقول الحمزة: “لن نتوقف. لدينا الكثير من الأصدقاء والأقارب الذين ماتوا. الطريقة الوحيدة التي ستوقفنا هي أن يقتلنا داعش جميعاً أو أن نعود إلى الوطن”.
لن توقف منظمة “الرقة تُذبح بصمت” جهودها لفضح جرائم “داعش”. فالتسجيل يعني مقاومة الشر، ونسيانه يعني السماح للشر بالانتشار. وكما كتب تشيسلاف ميلوش: “الشاعر يتذكر. يمكنك أن تقتل واحداً، لكن آخر سوف يولد”.
يقيم فولفسون مقارنة بين مقاومة الحمزة لجماعة “داعش” وبين مقاومة مجموعة “الوردة البيضاء” الألمانية للرايخ الثالث. وبعد أن أسس تلك الحركة في العام 1942 طلاب جامعة ميونخ وأستاذهم، قامت “الوردة البيضاء” -في مواجهة الموت المحقق- بتوزيع المنشورات التي تندد بالنازية. وقال المنشور الأول:
“مَن منا يملك أي تصور لأبعاد العار التي سيلحق بنا وبأطفالنا عندما يسقط الحجاب عن أعيننا ذات يوم، وعندما تخرج إلى النور أفظع الجرائم -الجرائم التي تتجاوز فظاعتها كل تدبير بشري وبلا حدود؟”.
ما تزال “أبعاد العار” الذي ينتظر مرتكبي جرائم الحرب السورية والمتفرجين عليها من الهوامش غير معروفة حتى الآن، لكنها ستكون وفيرة بلا شك. ولدى الألمان عبارة أخرى أفضل من “المتفرجين على الهوامش” -الذين يشكلون الأغلبية دائماً- والذين يكيّفون أنفسهم للتعايش مع الشر. إنهم يسمونهم “زملاء السفر”.
دار الكثير من النقاش حول أصول “داعش”، وحول صعوبة هزيمته، وحول دهائه الرقمي، وإنما قيل القليل عن شره المطلق -ازدرائه وتدنيسه للحياة البشرية وتمجيده للموت (حتى لو كان الذين يجلبونه هم الأطفال).
بطبيعة الحال، يظل “داعش” أبعد ما يكون عن الرايخ الثالث، كما اعترف فولفسون، حتى لو أن “غياب الاعتبار للحياة البشرية” لديهما متطابق. لكن أوجه الشبه بين “الوردة البيضاء” و”الرقة تُذبح بصمت” قوية. وكما قال لي المؤرخ: “كان أعضاء الوردة البيضاء يعرفون منذ البداية أنهم سيخسرون، لكنهم كانوا يعرفون أيضاً أن خسارتهم ضرورية لإظهار أنه يستحيل محو البشرية والكرامة الإنسانية تماماً. والأمر نفسه ينطبق على مجموعة الرقة”.
وزعت مجموعة “الوردة البيضاء” المناشير. واستطاعت توزيع ستة منها قبل إعدام أعضائها. في حين أن عمل مجموعة “الرقة تُذبح بصمت” التي ما يزال البعض من أعضائها موجودين في الرقة، هو توزيع المنشور الرقمي. وتتوقف إنسانيتنا كلها على هذا العمل.
الآن، يعيش الحمزة، مثل معظم أعضاء “الرقة تُذبح بصمت” في المنفى في ألمانيا بعد أن انتقل من تركيا؛ حيث كان تهديد “داعش” كبيراً جداً. وكان شقيقه الأصغر قد غرق وهو يحاول الهرب من سورية. ومات عدد لا يُحصى من أفراد الأسرة والأصدقاء. وانضم أحد الأصدقاء، وهو طبيب، إلى “داعش”. كان يحتاج إلى المال. والإرهاب يستطيع أن يكسر إرادة معظم الناس. وإنما ليس الجميع.
قالي لي الحمزة: “مرَّ أكثر من عامين. وعقدت القوى الغربية الكثير من الاجتماعات، وألقت الكثير من الخطابات ولم تفعل أي شيء، على الرغم من أن النظام السوري تجاوز كل الخطوط الحمراء. النظام هو الذي صنع داعش. نحن لا نعتقد أن الغرب سيساعد”.
روى المنشور الثاني لحركة “الوردة البيضاء” كيف قُتل مئات الآلاف من اليهود على أيدي النازيين في بولندا في حين أن “الشعب الألماني يغرق في نوم غبي ممل ويشجع المجرمين الفاشيين”.
والآن، تغط الولايات المتحدة وحلفاؤها في النوم أيضاً، بينما الخسارة والخطر يحيقان بالإنسانية جمعاء.
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
صحيفة الغد