المواجهة السعودية للاستيلاء الإيراني

المواجهة السعودية للاستيلاء الإيراني

السعودية وايران

ما بدأ الاستيلاء الإيراني على الشأن اللبناني يظهر بالطبع إلا بعد الخروج السوري من لبنان على أثر مقتل الرئيس رفيق الحريري عام 2005. لكنْ كانت هناك أشائر أواخر أيام حافظ الأسد، إلا أنّ بشار الأسد لن يستطيع التعامل مع «حزب الله» والإيرانيين كما تعامل معهم حافظ الأسد. وقد دلّت مسارعة الأسد إلى الانسحاب من لبنان على خشيته أن يحدث له كما حدث لصدّام، وأمَّل السعوديون والأميركيون أن يكون الأسد قد فهم الرسالة من وراء التصرفات الإيرانية من جهة، واستعداد الأميركيين للتعامل بخشونة من جهة أُخرى. أما «حزب الله» – وعلى أثر فوز محمود أحمدي نجاد بالرئاسة ووصول المحافظين الجدد للسلطة في إيران أيضًا، وموت الزعماء السنة بالمنطقة، وقتل الحريري – فقد كان لديه همان: أن يخلف السوريين في الوصاية على السلطة بلبنان وأن يستمّر تدفق السلاح إلى الحزب عبر سوريا. وما استطاع لا في انتخابات العام 2005، ولا من خلال التحالف الرباعي (= القوى الإسلامية) بعد الانتخابات أن تكون له أرجحية في السلطة. لكنّ الحسابات الإيرانية كانت إلى وقت الاتفاق النووي، أنّ التحدي ليس في مواجهة إسرائيل؛ بل التوسُّل بذلك لانتزاع شراكة مع الولايات المتحدة بالمنطقة. ولذلك فقد شنّ الحزب حربًا على إسرائيل، وصمد في مواجهتها قرابة الشهر. وكان جهد الولايات المتحدة أن لا تردّ إسرائيل بتدمير المرافق الأساسية في لبنان، خشية أن تسقط الحكومة الديمقراطية التي كان يتزعمها تحالف 14 آذار. وهكذا فقد بدا أنّ الحزب خرج من الحرب منتصرًا؛ في حين أصرَّ الرئيس السنيورة على أنّ الحزب لم ينهزم، بسبب تضامن الحكومة واللبنانيين من حوله. بيد أنّ القوة الجديدة التي اكتسبها الحزب بالنصر الإلهي أفضت به إلى محاصرة الحكومة اللبنانية ومغادرة الشيعة للوزارة، وكلُّ ذلك لمنع إقرار المحكمة الدولية الخاصة بمحاكمة قَتَلة الرئيس رفيق الحريري. ومع تفاقُم التحدي تجاوز الحزب عمليات الاغتيال لأعلام 14 آذار إلى احتلال بيروت في 7 مايو (أيار) 2008 لإسقاط حكومة السنيورة. ومنذ الاحتلال وإلى استيلاء «حزب الله» على كامل الحكومة أيام ميقاتي (2011 – 2014) استمرت عمليات الاستيلاء على مؤسسات الدولة ومرافقها بما في ذلك المطار والمرفأ والمواقع النافذة في الجيش. كان الحزب بعد احتلال بيروت يطالب بالثلث المعطَّل في الحكومة، لكنه بعد الاستيلاء على كل شيء، وإعطاء نصف المناصب والمؤسسات لعون وأصهاره وأقاربه، فإنه ما عاد يطالب بالحصة المعطِّلة، لأنّ كل شيء صار بيده! والدليل على الفرق بين ما قبل 2008 وبعد 2011، أنه في العام 2008 رجع السنيورة بعد اتفاق الدوحة رئيسًا لحكومة ثانية، وجرى انتخاب قائد الجيش ميشال سليمان لرئاسة الجمهورية؛ بينما في العام 2014 أبى الحزب غير عون، وما يزال مستمرًا على هذا الإباء بعد قرابة السنتين على انتهاء فترة سليمان في الرئاسة!
إنّ الأمر الآخر الذي ينبغي مراقبته في مشاهد استيلاء الحزب هو سياسات 14 آذار بعد احتلال بيروت، وسياسات المملكة العربية السعودية والأميركيين تجاه لبنان. أما قوى 14 آذار فقد شدّت من تماسكها بقدر الإمكان وفازت في انتخابات العام 2009 مرة أُخرى. وخلال ذلك كان السعوديون والأميركيون يناضلون لإخراج الأسد من براثن إيران التي استخدمته أيضًا ضد الأميركيين بالعراق. وبالفعل فإنّ الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز جاء إلى لبنان مع الأسد، واهتمّ الجميع بالمصالحة بين آل الحريري وسوريا. ولسنا ندري اليوم كثيرًا عن أسرار تلك المرحلة. لكنّ العام 2010 كان حاسما، فقد اتفق الأميركيون مع إيران على استخلاف المالكي بالعراق إبّان خروجهم منه، وأعادوا العلاقات مع بشار. ووسط الهجمة الإيرانية الظافرة، تخلّى وليد جنبلاط عن الحريري الذي فقد الأكثرية، وأُسقطت حكومته، وجاء ميقاتي صديق الأسد رئيسًا للحكومة، وقيل للمرة الأولى إنّ العواصم العربية الثلاث (بغداد ودمشق وبيروت) هي في يد الثورة الإيرانية. وقد أضافوا إليها صنعاء – كما هو معروف – في خريف العام 2014 عندما استولى عليها الإيرانيون.
لقد كانت سياسات المملكة دائمًا – ومعها دول الخليج – حياطة لبنان مجتمعًا ودولة. والداعي لذلك الهشاشة التي تتسم بها المؤسسات، ويتسم بها السلم الأهلي المتصدع. وما تغيرت تلك السياسات الطويلة الأمد حتى بعد سقوط حكومة الحريري. فقد دعمت السعودية الجيش بالتنسيق مع الولايات المتحدة وفرنسا، والذريعة لذلك دعم المؤسسة الوحيدة الباقية موحَّدة، والتحديات الأمنية الجديدة بعد الاضطراب في سوريا، واتجاه الحزب وإيران للتدخل فيها. لقد كان المقصود إقدار الجيش على تأمين لبنان لجهة الحدود مع سوريا بعد أن بدا المسلمون متضامنين مع المعارضة السياسية والمسلَّحة ضد الأسد، وبعد تجهز «حزب الله» للتدخل على الحدود لنصرة النظام، وإبقاء حدود الحزب مع سوريا مفتوحة وخالية من تعويقات المسلحين. لقد عاد الانقسام بالداخل اللبناني على وقع الاضطراب السوري. وزاد الأزمة حِدَّة صيرورة «حزب الله» تنظيمًا مسلَّحًا للغلبة في لبنان وسوريا؛ في الوقت الذي كانت فيه الولايات المتحدة تتهاودُ مع الظهور الإيراني في المشرق العربي، في مقابل كبْح اتجاه إيران لامتلاك سلاح الدمار الشامل!
إنّ الجديد في السياسات الخليجية تجاه لبنان وبلدان المشرق الأُخرى، ليس إدراك بل استدراك السيطرة الإيرانية. وما بدأ الأمر في اليمن، بل في سوريا والعراق واليمن.. ولبنان. لقد استولت على قوى 14 آذار حالة من الإحباط بعد إسقاط حكومة الحريري. بل إنّ الاغتيالات عادت أيضًا. ولذا ينبغي فهم السياسة الخليجية باعتبارها أسلوبًا جديدًا في حماية البلدان واستقلالها ووحدتها واستقرارها. ولهذا لا يصح فهم التصرف السعودي باعتباره انكفاءً أو انسحابًا، شأن العامين 2011 و2012؛ بل هو نهجٌ جديدٌ في المواجهة لمحاولة حفظ واستنقاذ ما لم يمكن إنقاذه بالتجاهل أو الحياد أو الرهان على الأسد.
هل تأخر الوقتُ على ذلك، وما هي إمكانيات الصمود؟ لقد تحملَّ المسلمون واللبنانيون ضغوط الحزب ومسلّحيه وشبّيحته خلال أكثر من عشر سنوات. وما كانت الاعتداءات على الأمن والمسلمين في مدنهم وبلداتهم فقط، بل جرى انتهاك كل الأعراف والقوانين. ثم إنّ اللجوء السوري ارتفع منذ العام 2013 إلى أكثر من مليون في مناطق المسلمين وحدهم. وما بدأت المساعدات العربية والدولية إلا بعد منتصف العام 2014. أما الذي يكون على خط المواجهة الخليجية القيامُ به فهو دعمُ هذا الصمود سياسيًا وماديًا. ولبنان لا ينفصل عن محيطه القريب والبعيد. الملف السوري بل واليمني ينبغي التقدم فيهما اليوم قبل الغد. وعلى الجميع الصبر والعض على الجراح ورصّ الصفوف، والتشاور المستمر والتنسيق. ويا للعرب!

رضوان السيد

صحيفة الشرق الأوسط